يتأسس المتخيل في رواية «ترانيم البردي القديم1» للتونسية آمال النخيلي على مرجعيات متعددة، فالمحكي الرئيس في النص، حكاية الأوراق المطمورة في أعماق البحر، يحيل على ثيمة «الكتاب الغريق2» في ألف ليلة وليلة. ترد قصة « الكتاب الغريق» في حكاية «حاسب كريم الدين» كما يلي؛ يخرج الحكيم دانيال في رحلة عبر البحر، تنكسر المركب، وتغرق كتبه بعد أن يتمكن من النجاة بفضل لوح تمسك به ومعه خمس ورقات هي كل ما تبقى من كتبه. وبعد أيام قليلة من انتظاره لولادة ابنه يموت. وعندما يدرك اقتراب موعد وفاته، يضع الورقات المتبقية في صندوق ويقفل عليها، ويترك وصيته لزوجته بأن تعطي الورقات الخمس للابن حين يكبر ويسأل عن ميراث أبيه، فإذا قرأها وعرف معناها يصير أعلم أهل زمانه. مثلما لا يستطيع أحد من شخصيات الرواية أن يفك رموز الأوراق، إلا شخصية إمام لكونه أستاذا يدرس التاريخ، لأن الأوراق مكتوبة بلغة قديمة قرطاجية، كذلك لن يستخلص الابن الفائدة من المخطوط إلا إذا تمكن من فك رموزه والوقوف على مغزاه. تمثل قصة البحث عن الكنز التي تتأسس عليها الرواية ثيمة محورية في ألف ليلة وليلة. وكما تؤكد الأبحاث الأنثروبولوحية المتخصصة في الحكاية ( بروب، فراي)قصة البحث بنية محورية في كافة الأساطير والحكايات الخرافية، بل إن الحكايات الأخرى مجرد تنويعات لها. وكما وضح بروب بالمنهج الاستقرائي،ة فإن قصة البحث تمثل نموذجا أصليا لكافة الحكايات الخرافية. إذا كانت أسطورة البحث تمثل نموذجا بدئيا في الحكاية الخرافية، فإنها تمثل في النص حيلة سردية يتم من ورائها تشخيص الصراع القديم بين الشرق والغرب. تتجرد الحكاية (حكاية البحث عن الكنز) من طابعها الأسطوري، وتتلبس بالصراع الدنيوي، ويتحول البحث عن الكنز إلى بحث عن الهوية من خلال الحفر في التواريخ المنسية. ومثلما يغامر البطل الخرافي في ألف ليلة وليلة بالخروج من عالم الألفة إلى عالم الغرابة، كذلك تتميز مغامرة ألبرتو بالهرب |إلى تونس بحثا عن الكنز المفقود باجتياز العتبة، عتبة الأصل والألفة، وحالما يجتاز عتبة الحدود، يواجه عالم الغرابة، الانفصال عن الأصل و مواجهة الآخر(دبرت جوازا مزيفا. حملت حقائبي ووثائقي، ودخلت تونس باعتباري السينيور ألبرتو، رجل الأعمال، ألبرتو الإيطالي). في مقابل الغرابة الخرافية (الكائنات العجائبية) يواجه ألبرتو يخوض تجربة الغرابة الثقافية التي يفرضها قانون الاختلاف الثقافي (الغرب/ الشرق). ومثلما يواجه البطل الخرافي في رحلة بحثه عالما من الأهوال والمخاطر العجائبية، كذلك يواجه ألبرتو سلسلة من المخاطر الدنيوية: مؤامرات في الخفاء والعلن، خيانات، مكائد. وبالتالي يكون استثمار الرواية لسيناريو البحث إستراتجية استطيقية للانفلات من جغرافية الألفة والانغمار في صيرورة الغرابة والازدواج، ازدواج العوالم الذي يفرضه قانون الاختلاف الثقافي. وتتحول الغرابة الخرافية في النص بفعل دنيوية الصراع إلى غرابة هجينة، مؤسلبة بفعل توظيفها في سياق دنيوي، يحدده دياليكتيك الحكاية الكولونيالية (الذات/ الآخر، المستعمر/ المستعمر). على هذا المستوى الدنيوي يبرز فضاء الحكاية كمسرح احتفالي لتشخيص مظاهر الهجنة الثقافية عبر سلسلة من التمفصلات الحدية الهوية/ التاريخ/ التراث. ويتعزز هذا السياق الثقافي بمظاهر أخرى للهجنة الفنية، تنتج عن التمثيل المؤسلب للمشاهد عبر تشفير مزدوج يمزج بين سنن واقعي وسنن خرافي، يصف ألبرتو صراعه مع البحر في ليلة عاصفة وفق سنن خرافي، كصراع بينه وبين وحش مائي ( كان علي أن أخلف هذا الوحش المائي ورائي.. البحر يلفظني، لم يمتنع عن ابتلاعي شفقة بل احتراما، كنت ندا له، والبحر لا يرفس إلا الضعفاء) يستعيد هذا المشهد البطولي صورة البطل الخرافي الذي يصارع الوحوش العجائبية في الأساطير القديمة. غير أن ألبرتو كنموذج معاصر لا يمثل نسخة مطابقة للنموذج الأصل (البطل الخرافي). إنه في انزياحه القيمي، على نقيض البطل الخرافي، يمثل نموذجا شيطانيا (كنت في نقطة من الزمن لا أستطيع معها التقدم ولا التراجع، في ركب بين ضفتين، كنت في الأولى لصا وفي الأخرى قاتلا، العاجز عن قتل عصفور، يتحول إلى إلى مجرم من العتاة... المفلس أنت إلا من من النحس، الملعون من البشر ومن الآلهة، وما تأمن إليه يتبدد ويصبح بخارا) ويستعيد تشبيه صندوق الكنز بصورة(القمقم الذي انتظر دهورا في لجة الماء) عوالم ألف ليلة وليلة العجائبية، وبالتحديد ثيمة القمقم الغارق في البحر، مثلما نجد في حكاية الصياد والعفريت. تحتفظ الرواية بنموذج البطل المغامر الخرافي، بطريقة بالغة التحويل، عبر الاستعارة، وفق قانون الانشطار المرآوي، حيث تؤول الذات رحلة البحث عن الكنز من خلال نموذج خرافي. يشبه القرش مغامرته بمغامرة علي بابا في الزمان القديم (في الزمان القديم وجد علي بابا، لآلئ بحجم بيض الرخ، وزمردا يعشي نوره الأبصار، ويواقيت بلون الجراح، ترى ما يخبئ قمقمي؟ ماردا يحقق المحال؟ جنيا داخل مصباح قديم؟ أم بساطا يطير بك إلى بلاد واق الواق؟) يقوم التوظيف أساسا على المفارقة وما يتولد عنها من سخرية، حيث أن القرش حين يفتح كيس الكنز يصاب بالخيبة (بعثرت ما في الكيس على الأرض: أشياء متآكلة علتها خضرة الماء، ونخرها الزمن والبحر والصدأ. أدوات لا تشبه شيئا، ولا تصلح لشيء، ولا توجد في لغات الدنيا أسماء تناسبها، ولو أعطيتها إلى سليمان بائع الخردوات لرماها في القمامة، ورماك بوابل من الشتائم) غير أن القرش في تشخيصه الفعلي، على نقيض علي بابا (النموذج الأصلي) متسلط، ومتجبر إلى درجة أن يكون أي شيء إلا نموذجا للبطولة. إنه نقيض البطل. إنه تشخيص مشوه لهذا النموذج. إن المفارقة هنا تأسيس للمسافة الاستيطقية التي تجعل السرد يوظف المتخيل الكلاسيكي في سياق السخرية. ويعمل نفس النمط من المفارقة في حالة شخصية آدم، حين يؤول تجربته من خلال نموذج خرافي، عبر انشطار مرآوي مع حكاية السندباد (يقطع السندباد سفره في أنحاء الأرض، يأتي من آخر الدنيا يسبقه الشوق، وتعجل به اللهفة، الحلم الذي نأت به الأزمنة، وضيعه الأسى، يصبح حقيقة، ثريا طريقها مفتوح أمامك. أنت واهم. موصدة أبواب قلبها، مراتيجه سقطت في قاع المحيط) في هذه الحالة أيضا يتعرض النموذج الأصلي (السندباد) للانتهاك. فإذا كان السندباد يختم أسفاره السبعة بدورة الإثبات الأسطورية، إثبات الذات (الظفر بالكنز والثروة)، بحيث تكتمل نهاية السفر بمشهد العودة المظفرة إلى الأصل، فإن آدم على خلافه يختم أسفاره بدورة النفي، يعود إلى مدينته محملا بالخيبات، ولا تكتمل عودته بتحقيق مشروع التمرد على القرش. هكذا تمثل المفارقة عاملا أساسيا في خلق مسافة بين الخرافة والدنيوية، بين التراث والنص، بين النموذج والنسخة. يحكي السندباد حكايته من منظور الظفر والامتلاء، بحيث نكون بمواجهة قصة ظافرة3، في حين يروي آدم حكايته من منظور الخيبة والخواء، بحيث نكون بمواجهة سرديات ارتدادية. الظفر في مقابل الخيبة، الامتلاء في مقابل الاغتراب، الحضور في مقابل الغياب. هكذا، يبرز النموذج الدنيوي داخل استعارة النموذج الخرافي، إما في إطار شيطاني مشوه (ألبرتو، القرش) أو إطار تهكمي ساخر (آدم)، بوصفه لا بطلا بسبب مسافة المفارقة. وفي سياق التناص التفاعلي يتم تضمين حكاية العبد الذي أصبح سلطانا في العهود الخوالي، على غرار ما هو سائد في ألف ليلة وليلة.تروى هذه الحكاية على لسان إمام كاستعارة لأفق آخر يمكن أن تؤول إليه علاقة ضياف (الخادم) بأبيه القرش (السيد) . من خلال هذه الاستعارة (القرش/ السيد، ضياف/ العبد) يبدو الأمر كأنه تحريض ضمني من الابن إمام إلى ضياف للتمرد على سلطة سيده القرش. وهي الفكرة التي تراود ضياف في أحلامه. ومثلما تختبر أهلية البطل الخرافي في أسطورة البحث، عبر وسط طبيعي خطر، من قبيل البحر، كذلك تحتفي الرواية بمشهد البحث في البحر و وما يرافقه من صراع الأهوال، حيث يتحول البحر إلى مسرح للمغامرة والمكائد ومواجهة أهوال الطبيعة( العواصف). وعبر هذه الموسوعة الضمنية يتلبس البحر صورة الآلهة القديمة المانحة للموت والحياة في الأسطورة (لاشيء يبقى سوى البحر..منهل الخير، نبع الهلاك، واهب الحياة، مانح الموت، مملكة الماء، ضفة العطش) ويتحول موت خلف خطيب ثريا غرقا في البحر إلى طقس أسطوري، يشخص دور الأضحية في الأساطير البدائية ( زف البحار نفسه إلى البحر، واستقر في جوفه لؤلؤة بلا صدف...» هكذا في الوقت الذي تعيش فيه الشخصيات حياة واقعية وذات طابع دنيوي حداثي، تحتفظ بآثار مترسبة من متخيل سحيق ضارب بجذوره في عالم الأسطورة والخرافة، يقفز أحيانا إلى سطح الوعي في صورة تأليه الفرد (تصل الأنظمة تمام كمالها (وتمام النظام لا يقل وحشية عن تمام الفوضى) ثم تبدأ بالانحدار، ولكن القرش كذب كل النظريات، وضرب بها عرض الحائط، ما يزال متربعا فوق عرشه مثل إله صغير، لا يقلقه أمر هذا الخلق إلا إذا مرق مارق على النظام، حينئد يسحبه بمخطافه ويرجعه إلى الحضرة، ويضربه على أليتيه جزاء وفاقا، ثم اذهب فقد عفونا عنك ولا تعد إلى مثل صنيعك... وإلا ..) هذا التهجين الذي يمزج بين الصوت العلمي (نظرية التطور البيولوجي الداروينية) وبين الصوت الأسطوري (تأليه القرش) يبرز الذهنية الخرافية، استخدام العلم لتكريس الخرافة (القرش كذب كل النظريات)، وعبر وساطة هذا النظام الرمزي (الأسطورة) يتم تكريس قانون القوة القائم، ذلك أن القوة/ السلطة تحتاج دائما إلى رموز لتثبيت نظام هيمنتها ولا تعتمد فقط على القوة المادية. هذا الوعي الخرافي المترسب على المستوى الدلالي يشتغل في اتجاه زحزحة أطروحة النص وتنسيبها، عبر تشويش نسق الترميز، الذي يتدخل في عملية بنيينة الواقع، ويتجلى ذلك في الإدراك الذاتي للشخوص، أي نظام التصورات، علاقة الشخصيات بالواقع وأشكال تفاعلهم مع الوقائع، حيث تظل الرؤية أحيانا هجينة، يتداخل فيها العلم والخرافة، الواقع والشعودة (بركة سيدي جابر وسيدي مسعود). في خضم بحث ألبرتو عن خرائط الكنز المفقود، يعثر على وثيقة تاريخية قديمة حول تنظيم الجيش الروماني أثناء الحروب البونية. تروي الوثيقة حكاية محاكمة أحد القادة الرومان الذين سهلوا هرب سفينة قرطاجية، أثناء الحصار. هذه الحكاية المضمنة في القصة الإطار جزء من الحكاية المؤطرة التي تحكي قصة هيلينا وأسرتها القرطاجية. وهذا ما يؤكد غلبة منطق التفاعل الروائي بين الحكايتين، الحكاية الإطار والحكاية المؤطرة، وأيضا قانون الانشطار المضاعف. وبذلك يتأكد التفاعل بين الحكايتين سرديا وليس فقط انشطاريا. فالصندوق الكنز يمثل مركز الجذب في الحكايتين. إنه موضوع رغبة في الحكاية الأولى، حيث يترتب عنه انطلاق البرامج والمسارات وصراعها بفعل رغبة كل طرف في الاستحواذ على الصندوق، وهذا ما يورط الشخصيات في شبكة معقدة(بمعنى الفخ) من المؤامرات والمكائد المضادة. في مقابل ما يقدمه السرد الكلاسيكي والأسطرة من عوالم الغرابة والعجيب يستلهم السرد التاريخي جمالية الوثيقة التي تنتمي إلى تاريخ قديم (غير أني حين نظرت في الأوراق لم أفهم شيئا، وثيقة التحقيق مع البحار كتبت بلغة غير معروفة، رجحت أنها اللغة الفينيقية، وقررت أن أفك طلاسم الرمز كلفني ذلك ما كلفني)، إلا أن هذا التاريخ يتم سرده في قالب حكائي، من خلال بلاغة التشخيص السردي، حيث يعمل التخييل على أسطرة قصة البحث عن الكنز المدفون في أعماق البحر (كنز غارق منذ مئات السنين لم يطلع عليه مخلوق، الكنز في هذه الأوراق) . وعلى نفس التشكيل البلاغي تستلهم الرواية التاريخ الفرعوني وتاريخ قرطاج القديمة في الجزء الثاني الذي يتم تشخيصه في قالب حكائي من خلال قصة العائلة القرطاجية المروية بالمنظور الأنثوي هيلينا. إذا كان التاريخ العثماني ينبثق في النص عبر تخييل الذاكرة، فإن التاريخ المعاصر، تاريخ الشرق والغرب ينبثق في صيرورة قصة البحث عن الكنز المفقود. تقود خرائط الكنز ألبرتو إلى الفرار إلى تونس بحثا عن الكنز المطمور في شواطئها. وباجتيازه عتبة الحدود، ينتقل من زمن الألفة (الوطن) إلى زمن الغرابة (الآخر) ويتورط في تجربة حدية، الذات/ الآخر، الغرب/ الشرق. في صدام الحدود، وفي زمن العتبة باعتباره زمن الذروة والأزمة، ينبثق تاريخ حكاية الشرق والغرب في النص، حيث يتم توظيف حكاية السينيور ألبرتو كإستراتيجية سردية لإعادة تفكيك سلطة الخطاب الكولونيالي، وإعادة كتابة التاريخ الإمبريالي للغرب من منظور الذات المستعمرة (بفتح الراء) وليس منظور السيد الأبيض. تتم عملية إعادة الكتابة في خضم سيرورة الحكاية، من خلال تداخل برامج الشخصيات وصراعها، ومن خلال صيرورة الهجرة إلى الشمال (الذات) والهجرة المعكوسة إلى الجنوب (الآخر) ومن خلال أصوات ومنظورات متعددة. هكذا،تتأسس استعادة الأرشيف المنسي من منظور وعي ثقافي بضرورة إعادة بنائه وتمثيله، خارج سياسات قانون القوة الذي يفرض حالة التهميش على الشخصيات وتواريخها المؤسسة لهويتها ووجودها . تتشكل قواعد اللعبة السردية إذن في هذه القوة الرمزية للتخييل الموازية لقانون القوة، حيث يشتغل السرد كتبنين حفري، يغوص عميقا في استكشاف الأرشيف المنسي للذوات والتواريخ، ( ما حدث قد حدث في زمن غابر سحيق، زمن لا شيء يدل على أنه كان، لا دليل...في مدينة نهاراتها حصار...لا أثر يؤكد أنها كانت، اللهم إذا استثنينا ألواحا كشفت عنها الرياح في ليلة عاصفة، كتبت بحروف غريبة، وتقوم للمتمعن على هيئة نمنمة أو رسم وإذا استثنينا رقيما فيه عبير من الأزل. صمت كشواهد القبور. صمت عجز. صمت موت). هذة المقالة جزء من الدراسة التي شاركت بها في الملتقى المغاربي للرواية في دورته الخامسة بالمدرسة العليا للأساتذة بمارتيل، يومي 22 و23 يناير 2010. آمال النخييلي، ترانيم البردي القديم، دار الجنوب للنشر، تونس، 20051 عبد الفتاح كيليطو العين والإبرة، ترجمة مصطفى النحال، دار شرقيات، القاهرة، 1995، ص:51.2 إدوارد سعيد، تأملات في المنفى، ترجمة ثائر ديب، دار الآداب، بيروت، 2004، ص:339.3