تنساب الحكايات في مجموعة «الألواح البيضاء» القصصية دون تكلف أو ظهور صنعة، مع أن الكاتب نورالدين محقق يظهر علو كعبه في كتابة قصص شفافة بشخصيات مرحة، موغلة في البساطة بأحلامها ورغباتها، بكذبها وصدقها. قصص تنهل من معين المتخيل الذاتي، تستحوذ عليها موضوعات الكتابة (تأليفا وخطابا)، والحب في الحياة اليومية، والضحك والسخرية الرقيقة. تتميز المجموعة القصصية، وهي ميزة المتخيل عند الكاتب، بكونها تمنحنا عوالم ممتعة ، فيها العيش ممكن مع كثير من المرح والتفاؤل وإمكانات الحلم، حلم به يفتتح الكاتب عالم «الألواح البيضاء» التي تضم ثماني قصص تتسم عناوينها بالقصر، وهي على التوالي: «تأويل الأحلام، بنت الأرض، مدينة الخيال، الألواح البيضاء، لا بأس يا حبيبتي، لبن العصفورة، الحب في زمن الإنترنت، الغصن الذهبي». هي قصص يربطها خيط دقيق ينسج كل الحكايات ألا وهو الانهمام بالكتابة والكتاب والكتب ، من خلال سرد القصص أو الاستماع إليها، (الألواح البيضاء)، )بنت الأرض) أو البحث عن الكتب ( مدينة الخيال) و(الغصن الذهبي) أو الدخول في حوار مع الكتاب والكتب، تضمينا ومحاكاة و باروديا ، تلميحا وتصريحا، ونقبل على القراءة والتأويل (تأويل الأحلام) القصة الاستهلال وهي تعبير فني جمالي عن حلم داخل الحلم، يستثمر فيها المؤلف عوالم العجائبية، بفجائيتها، وانبهام الحدود فيها بين الإنساني والطبيعي ، بين العقلي والحسي. إنها حكاية أليغورية يتحول فيها النائم الحالم إلى كتاب يتألف من كتب لا نهائية (في تلميح إلى مكتبة بابل البورخيسية). كتاب -إنسان تنغرس الأوراق في جسده ، ينتزعها كي يقرأها ورقة ورقة، قصة قصة على جمهور من الطيور النادرة ندرة القراء المفتقدين. قصص من حروف مختصرة ، حاء باء، كناية عن الحب، ألف لام، تكثيف للألم، كاف نون، اختصارا للكينونة اللامختزلة. فجأة يقذف بالحالم إلى مكان قصي، سمته التحولات دائما، يصادف حجرة ناطقة تنتظر من يعيدها إلى سيرتها الأولى. ولأن السارد شاعر فهو ينشدها بعضا من شعره المضمن ترميزا في بحر الطويل لتصير الحجرة الناطقة فتاة ينبهر لجمالها. يهم بضمها لولا رنين المنبه. يستيقظ لمعاودة اليومي والذهاب إلى العمل، لكنه لا يلبث أن يجد بأن حلمه اللعين ما زال مستمرا، حلم داخل الحلم إذن. فالمضاعفة سمة أسلوبية تميز كتابة القصص في مجموعها إذ هناك القصة داخل القصة (بنت الأرض) والحكاية تتوالد حكايات (الألواح البيضاء) والرواة يتناوبون على حكاية القصة ذاتها تتميما وتنويعا، والسارد المضاعف الذي يصل حد ازدواجية الاسم على النمط البورخيسي من جهة وبول استر من جهة أخرى. قصة (مدينة الخيال)، هي جنس أدبي يتحول إلى جنس أدبي آخر: قصة تصير مذكرات شخصية (بنت الأرض) علاوة على استلهام المحكي التراسلي (لا بأس يا حبيبتي) والحكاية التراثية (مدينة الخيال)، كما أن الشخصيات الرئيسة هي في الغالب متكلمة بضمير «أنا» وهي تقنية تسمح للقراء بمتابعة مسار أفكار وأحلام ورغبات الشخصيات الممثلة، كما تساعد على تحديد الوضع الاعتباري للمؤلف المجرد الذي يبرمجه النص السردي ، فهو بمثابة قاص في (تأويل الأحلام ) يقول السارد: («شعرت بأن أوراق الأشجار تحولت كلها إلى عيون تبصرني، وتدعوني إلى قراءة قصص عليها») أو في (بنت الأرض) حيث يقول ساردها: («اقترح الجميع علي أن أبدأ أنا بالكلام ، لأني معروف بكتابة القصص»). («كان بطلا من ورق على حد تعبير رولان بارت، لم يكن ، أي البطل، في مستوى تحمل المسؤولية، أليس كذلك أيها القارئ المنافق الذي يشبهني ، أنا الكاتب ، بتعبير شارل بودلير») أو هو شاعر («أخبرني هذا الجني أن خلاصي سيكون على يد شاعر ، ما أن يتغزل في جمالي بقصيدة عمودية ، على بحر الطويل، حتى أعود إلى أصلي الأول. أخبرتها أني شاعر بالفعل، لكني لا أكتب إلا قصائد نثر»). قصة (تأويل الأحلام). («خرج من بيته غاضبا فقد اتصلت به صديقته عروس البحر من وراء البحار، تطالبه بكتابة قصيدة في عينيها الفاتنتين. تساءل كيف يكتب قصيدة في عينين فاتنتين لم يقبلهما بعد؟») قصة (لا بأس يا حبيبتي). إضافة إلى ذلك شواهد نصية عديدة في ثنايا (الألواح البيضاء) تجعل منها نصوصا أقرب إلى المتخيل الذاتي منه إلى أي جنس أدبي آخر، تؤثث فضاءاته شخصيات ذات مرجعية واقعية شأن أولائك الأصدقاء في قصة (بنت الأرض)الذين يقاومون عبث الثرثرة المجانية في المقهى بابتكار تسلية متفردة (« كتابة قصة جماعية سمتها اللعب بالمتضادات): الفتاة ، ذلك الكائن الترابي ولقاؤها المستحيل مع ابن البحر، الكائن المائي، وهي حكاية يستغلها السارد الرئيسي ، بديل المؤلف للتلميح إلى فن الكتابة القصصية، مراوغا نفاق القراء في إحالة صريحة لإهداء «أزهار الشر» للشاعر الفرنسي شارل بودلير، أو إحالة ضمنية للكاتب الروائي ذائع الصيت نجيب محفوظ، من خلال قلب الاسم («إن دورك محفوظ يا نجيب»(قصة (بنت لأرض) ذاتها، أو عبر كتابة قصة تحاكي المتن التراثي « حدثنا هشام بن عيسى» (مدينة الخيال). وهي حكاية عن مدينة الدارالبيضاء التي لا يصفها السارد، خلافا للكثيرين بالمدينة الغول، في معارضة صريحة للأكليشيه المبتذل، بل بمدينة تعج بالخيال والحياة البهية، من خلال فضاءاتها المليئة بالخيال.