على امتداد خمسة أيام ( من 29شتنبر الى 3 أكتوبر 2009 ) تمتع المولعون بفن الرقص التعبيري في فاس بمشاهدة لوحات كان الجسد فيها لحنا جميلا معبرا يتحرك فوق الخشبة برشاقة لامتناهية، وقد سطر القائمون على هذه التظاهرة الابداعية ( جمعية بابل للثقافة والفن) جملة من الأهداف المتمثلة في تنشيط المدينة فنيا وثقافيا وسياحيا، وكذا خلق حوار حضاري بين الفنانين المغاربة والأجانب ،من أجل تبادل الخبرات ومد جسور التواصل الإبداعي ، والتقريب بين أشكال التعبير الكوريغرافي المغربية والدولية بتقديم عروض مشتركة وعرض باقة متنوعة من الفرجات الكوريغرافية المتنوعة ، واقتسام المتعة مع كل عشاق الرقص ،باختلاف مشاربهم الثقافية والفنية وانتماءاتهم العرقية والاجتماعية ، وذكر الفنان عزيز الحاكم مدير المهرجان أن « النبل جزء لايتجزأ من الرقص ، فالجسد حين يرقص يتسامى وينذر نفسه للأناقة ورغد الكينونة « ثم أضاف أن «عروض هذه الدورة تهدف الى اضفاء نوع من النبل على الرقص بغية تحويل الجسد الى وسيلة للأخذ بالألباب وإلى مدونة تعبيرية متعددة الأوجه «. من هذا المنطلق جاءت عروض المهرجان متنوعة في أساليبها وغنية بمضامينها ودلالالتها ، جامعة بين ما هو كلاسيكي وما هو عصري جمعا يترجم بالفعل توجهات وأهداف المهرجان. تضمن حفل الافتتاح تنظيم معرض للفنون التشكيلية والفوتوغرافية بمشاركة الفنانين عبد المالك العلوي وخديجة طنانة وحسن جميل والباز الوزاني ، تلاه العرض الكوريغرافي «زفير»،كوريغرافيا وأداء : كمال عديسة وماريون بلونودو ( المغرب/ فرنسا) وهو يتمحور حول تيمة الاضطراب النفسي وسبل معالجته كاحساس ذهني والاشتغال عليه حركيا واستخلاص انعكاساته الجسدية باعتباره ظاهرة عالمية يعرفها الجميع بدرجات متفاوتة . من العرض المغربي الفرنسي « زفير» وخلال اليوم الثاني قدم محترف بابل الكوريغرافي عرضا بعنوان « صباح الخير يا فاس» جسدته الفنانة الصاعدة (كامليا الحاكم) وهو مجموعة من اللوحات المتناسقة التي تمزج بين الرقص التقليدي والعصري مزجا يجمع بين جمالية الحركة وهمس الجسد وعنفوان التعبير. أعقبه عرض « ثلاثي امرأة « لفرقة «Bellule» الفرنسية ، من أداء : جولي ليو وماري مارتن روبلس ومايا أيميري ، وفيه تكشف الراقصات عن أسرارهن الدفينة خلال يوم كامل، حيث تثبت كل واحدة منهن وجودها وشخصيتها المسيطرة ، ويبقى السؤال المفتوح هو : هل هن ثلاثة وجوه لنفس المرأة ؟ أم هن وجه الأنوثة وقد تفرق فيهن ؟ إنها حكاية نساء يبرزن من خلال اللعب بالجسد طاقات الانولاد والتجدد الدائم. وكان العرض الرابع بعنوان « رقصة النور» من تقديم محمد المريني وهند ظافر ( المغرب) ويحكي عن شابة في ربيع العمر تقطر حيوية وجمالا وشيخ ضرير يسعى إلى القبض على هذا الجسد الغض دونما جدوى ، غير أن الشيخ في نهاية المحاولة يستعيد بصره ويكتسب حيوية الشباب وينخرط في رقصة مرحة بصحبة معشوقته . أما العرض الكوريغرافي « نقطة الانطلاق» لتجمع الفنانين الشباب ( المغرب) فهو عبارة عن حوار ثنائي راقص بين امرأتين ملفوفتين في ثياب بيضاء ، تتحركان في تقاطع يراوح بين التوتر والهدوء داخل فضاء حافل بالإكراهات المبتكرة . رقصات العرض مصممة ومؤداة من طرف الفنانتين أحلام المرسلي وفاطمة الزهراء الرحلي . وجاء العرض الكوريغرافي المتميز « كما أريد أن أكون « للفرقة الاسبانية تراغات دانسا، إخراج الكورغرافية الكاتالنية المبدعة (أولغا تراغانت) و أداءالراقصتين ( مارا سمالدوني) و(كلارا تينا )، ليقترح على جمهور المهرجان شكلا جديدا من أشكال الكوريغرافيا الممسرحة التي توظف كل العناصر السينوغرافية من أجل تقديم فرجة متكاملة ، ويقوم العرض على تجسيد الرغبة في اكتساب الجمال والمحافظة عليه بناء على مقترح ضمني يوصي الجسد الهش بأن يتحلى بالجمال، وأن يكون شرسا في نزوعه إلى امتلاك هذا الجمال. وفي ختام المهرجان عقدت ندوة فكرية في موضوع « الإصغاء الى الجسد» نشطها عزيز الحاكم وشارك فيها كل من الفنانة الفرنسية (ماري مادلين بوغوني) ( الملقبة ب: ليلى بي ) والباحث هشام العلوي وبعض الفنانين المشاركين في المهرجان . وقد افتتحت الندوة» ليلى بي» بورقة تكريمية حول الكوريغرافية الألمانية بينا باوش : 1941/ 2009 ذكرت فيها أن( بينا باوش) تكشف في عروضها عن أدق التفاصيل والمشاعر والانفعالات النابعة من العلاقة القائمة بين الجنسين في ألمانيا التي تعاني من جراح الماضي ، فقد ظلت طوال حياتها الفنية تبدع أعمالا كوريغرافية مستوحاة من أجواء المدن الكبرى ومن بعض البلدان التي كانت تستدعى إليها بمعية فرقتها للإقامة الفنية التي تتوج بتقديم عرض فني تشرك فيه (بينا باوش) بعض فناني البلد المضيف. بعد ذلك قدم د. هشام العلوي المختص في ثقافة الجسد ( وله في ذلك مؤلفات) عرضا شيقا بعنوان « علموني كيف أرقص!» أكد في بدايته على أنه من الصعب تحويل الجسد إلى مفهوم نظري لأن الفكر يهمش الجسد ، والفن وحده هو القادر على استنطاق الجسد والائتمان على أسراره ، ثم قدم بعد ذلك أمثلة على قدرات الجسد التعبيرية من خلال رقصة زوربا اليوناني في الفيلم الشهير الذي يحمل نفس الاسم ( بطولة أنطوني كوين) وقال الأستاذ هشام العلوي في مجرى حديثه : إن السعادة تبدأ حين يتحرر الجسد من إكراهاته وإخفاقاته ، وإن الإسراف في التعقل يقتل الروح، ولذلك فنحن في حاجة دائمة إلى قليل من الجنون ، ليختم مداخلته الشذرية با لتأكيد على أننا « حين نصغي إلى الجسد نكون سعداء « . لقد عرف المهرجان نجاحا نوعيا بعروضه الفنية التي كان من أولى غاياتها الرقي بذوق المتفرج المغربي، من خلال تقديم عروض إبداعية ذات مستوى عال في الأناقة والجمال .