افتتاحية ملحق"العلم الثقافي" ليوم 24 يونيو 2021. اسمُه "مْسَلَّكْ لِيَّامْ" ولكن في فترة من القهْر وليس فقط من العُمْر، أصبحوا ينادونه : حَمْرا.. بَيْضا بعد أن تعقَّد نفْسياً من اللونين الأحمر والأبيض وأصابه من رؤيتهما ما يشبه الرُّهاب، ليس لأنَّ الأحمر لون الدم والأبيض لون الجِير الذي ينطلي على القبر، ولكن لأنَّ شظف العيش اضطرَّه للاشتغال على اللونين كسْباً للرِّزْق وتحمَّل بسببهما أشدَّ عقاب !
قبْل الشمس، استيقظ "مْسَلَّكْ لِيَّامْ" في اليوم الأول للعطلة الصيفية ليس ليمضي كعادته للمدرسة، ولكن لِيلْتحِق بفيْلقِ الإنعاش الوطني الذي كان ملاذ الشُّيوخ لترميم تقاعدهم الهزيل، وتبديد ما تبقى من العمر في تذكُّر مآسيهم في حروب لاندوشين، وقد أصبح الإنعاش الوطني اليوم قناعاً يحمله كل الشباب العاطل المُتسمِّر بين الشهادة والشاهدة العليا، ومن هؤلاء العُمّال التِّلميذ "مْسَلَّكْ لِيَّامْ" الذي لم يعرف في حياته طَعْماً للعطلة، يدرس في كلِّ فصول السنة ويتبرَّع براحته مُقابل أجرة ثلاثة أشهر خلال موسم الصيف، المُهِم أنَّه يدور مع الزمن كما يدور الثور بالساقية لتجري مياه الحياة في ربوع أسرته الفقيرة، وكل شيء يَهُون ما دامت العصابة تحجب أعين الثيران، فلا أحد يعرف المسافة التي قطعها في دورانه حول المعاناة، ولكن الجميع يُوقن أنه لن يحظى في النهاية إلا بكلإ حقير يفْترشه في الزَّريبة التي تأويه بعد غروب الشمس! حَمْرا.. بَيْضا.. هذا الاسم الذي أصبح يُلازم مسامع "مْسَلَّكْ لِيَّامْ"، ليس لازمة لتدوير قصيدة ومَوْسَقتها، أو ضربات بالبندير تحت حزام عيطة شعبية تنتحب على إيقاع جوج فُول ثلاثة حمص، وليس زلَّة فرشاة سالتْ بأدمعها على لوحة فنان، ولكنه اسم آخر جريح يجمع بين لونين تجاوزا بإيقاعهما النَّفْسي كل الألوان ليستقِرَّا في المنطقة السوداء لذاكرة "مْسَلَّكْ لِيَّامْ"، وكُلما حضَر فصل الصَّيف حضَرتْ معه حَمْرا.. بَيْضا وهي تمشي مائعة بحرِّ الشمس على الأرصفة تحت الأحذية، ثمة من يأتيه الصيف مُنعشاً يضع تحت قدميه زلاجة تُراوغ الأمواج وتشرب مع زبدها كل الأنخاب، وثمة من يأتيه هذا الفصل شاقّاً كحدِّ السيف لا يَمُرُّ على "مْسَلَّكْ لِيَّامْ" إلا بِقَطْع الرَّقبة !
لا مَهْرَب من عبور حدِّ السيف على امتداد أشهر الصيف، وإذا أخْلَف "مْسَلَّكْ لِيَّامْ" موْعده مع العمل في الإنعاش الوطني، من أين لجيبه الذي يُلامس الحضيض القُدرة لشراء مطبوعات وملابس تؤهِّله لدخول مدرسي سويٍّ يجعل رأسه مرفوعة بين الأقران رغم أن أغلبهم مجرد قُرون، هل كان يجب أن أكون الآن بهذا المُسْتَوْدع أو (الدِّيبو) في اليوم الأول لعطلتي، ألستُ جديرا بعد سنة شاقة من الدراسة بالتَّمتُّع في أحد المصايف الساحلية أو الجبلية، غداً يبدأ الكذب حين يسرد زملائي في الدراسة كيف قَضُّوا العطلة والأماكن التي زاروها على خطى ألِيس في بلاد العناكب، فماذا أقول وأنا في هذا المستودع المزدحم ببضائع وأدوات أشغال المدينة، مكانس، سلالم، بالوعات الواد الحار، أعمدة الكهرباء، حديد، إسمنت، شاحنات، قواديس، سطول الطّلاء الخاص بالأرصفة: حَمْرا.. بَيْضا !
دارَ حَوْلَهُ الرجل نِصف دوْرة، ثم تبرَّم راجعاً للخلف خطوتين وكأنَّه يَزِن بعينيه شاةً هل حان أوان ذبحها أم ما زالت بحاجة للرَّعي لتكسب بعض السمنة، ثم قال ل "مْسَلَّكْ لِيَّامْ" وهو يكلِّل رأسه بنفْثَة دخان كالتي تكلِّل بغيمتها هامة الموتى في أفلام الرسوم المُتحرِّكة: ما زلتَ ولداً صغيرا !، ولكنَّه سرعان ما استدرك الرجل قريبُ العائلة الذي دبَّر عقوبة هذا الاشتغال في الإتعاس الوطني، كلامَه المُثبِّط للعزائم والمُسْتعجِل للهزائم، بِتمْويهٍ كاذبٍ يُهوِّن في نفس الفتى الغِرِّ ما ينتظر أصابعَ طريَّة لم تتعوَّد إلا على حَمْلِ القلم: هلْ تعلم أنَّ العُمّال هنا طيِّبون، ولكن الأشغال الشَّاقة أكْسَبتهم كما لوْ بالفطرة قساوةً في التَّعامُل، أليس هكذا يُصنَع الرِّجال؟ كان وهو يضخُّ آخر حقنة بَنْجٍ قبل بَدْءِ العملية المُثْخنة بالجراح، يُحاول أن يسْتبق الصَّدمة خشية أن لا يعود الفتى للعمل في اليوم الموالي، ثم بإشارة من بعيد لأحد الكابْرَانات المُشْرف على ورْش الشغل، سِيق "مْسَلَّكْ لِيَّامْ" إلى سرب الصَّبَّاغين الذين يَطْلُون أرصفة الشوارع وممرَّات الرَّاجِلين، لتبدأ رحلته تحت سياط أشِعَّة الشمس مع بَيْضَا .. حَمْرا.. ولم تمْض الثلاثة أشهر بين لونين يضْطَهِدانه في الحلم واليقظة، حتى صار من شِدَّة الهزال بلون الطيف وخفَّتِه تذروه الرياح، يا لَلنَّفْس الحارَّة حين تَسْتنْبِت الأسنان وتأكل من لحم الإنسان من شِدَّة الحسْرة، والأفظع أنَّ "مْسَلَّكْ لِيَّامْ" لم يجْنِ مع كل ضربة فُرشاةٍ نَزَفَها على الرصيف إلا الدَّمع حين أصبح طريح المرض، بينما عاد مكسبها بالنَّفع الوفير على الطبيب!