هاتف الرابعة صباحا من يتفاءل به ؟ كادت لا تجيب ... بين النوم واليقظة سطعت وجوه ، أصحابها ربما في حاجة إليها . « ثمن الحب باهظ جدا في البلاد المباركة» فكرت ،وهي تأخذ نفسا عميقا استعدادا لما قد تسمعه..... -آلو جاءها الصوت سائلا: - نائمة ؟ بم يجيب الإنسان من يوقظه في الرابعة صباحا ليسأله إن كان نائما؟ كظمت الغيظ . - صباح الخير. قالت وهي تحاول التعرف على صاحبة الصوت . - صباح الخير .....مفاجأة أليس كذلك؟ أنا ... تعرفت عليها . في لمح البصر طار ما تبقى من النوم من عينيها. جرت .... بأقصى سرعتها جرت..... -أسرعي... أسرعي... يقول طارق . ستمسك بنا بسببك. تلحق بالمجموعة المختبئة وراء سور الثانوية وهي تلهث : -اللعنة تقول وقد انقطع نفسها . ما هذا الرعب ؟ لا نستطيع الاستمرار هكذا،لنطلب منها صراحة أن تكف عن تسميم حيواتنا بحكاياتها المشؤومة .... -أقمو نينان سوظ إسوظ (1). أجابوها جماعة - سترون .... سأفعل . التفتت إلى حيث شخصت عيونهم ، كانت هناك تسير نحوهم كما يسير الإنسان نحو هدف .نظروا إليها لتنفذ وعيدها ظلت جامدة..... -يا إلهي، همس طارق، سينتهي بنا الأمر ونحن ننصت إليها إلى أن نرمي أنفسنا من أعلى قمة جبل في الأطلس. تقذف السماء صواعق وترمي الأرض حمما عندما تتكلم الورود لا عطر لها ولا لون والنسيم شرارات نار لاهبة كاوية لا منفذ للضوء و لا أمل في الأفق مأساة تنجب مأساة تتبعها كارثة -أأنتم هنا والمدينة مد ولا جزر ؟ «يا لطيف» تمتموا وهم ينصتون إليها متوجسين ... -سعيدة بنت سي لحسن ورشيد ولد سي حمو تطلقا الطلقة البائنة. نظروا إليها متشككين . علمتهم التجربة أن كل حكاياتها المنتقاة بعناية فائقة بنات واقع أبا عن جد ، إلا أنهم يعلمون وتعلم المدينة قصة الحب الكبيرة التي تربط بين سعيدة الممرضة ورشيد الموظف بالبلدية. أجمل ثنائي في المدينة. ستقول العجائز إن صح الخبر:العين تفلق الحجر. لم يستطع أحد اختراق تكتمهما وتكتم أهلهما على سبب الطلقتين السابقتين. «المكتاب ما منو هروب»، كانت الإجابة المعدة لمواجهة كل فضولي لا يدخل سوق رأسه. ما كان واضحا للجميع،أن كليهما كان يذوي بعيدا عن الآخر.الطلقة الثالثة تعني أنهما اختارا الانتحار. -عرف السبب أخيرا، قالت مصدر النبإ. يقول ابن عمي الأستاذ إنه التكافل ،لا أمل في بيت مستقل يزينه طفل:أفواه كثيرة- يردد منجبوها في تواكل أنها خلقت برزقها- تبتلع راتبيهما الصغيرين مع بداية كل شهر. في ذلك اليوم تأكدوا من الخبر وانحصر تفكيرهم في الحب الكبير المنهزم،غير أن مرارة ذلك الانهزام أيقظتهم فيما بعد وصاروا يعيدون النظر فيما كانوا يعتبرونه طبيعيا بحكم العادة: الابن الكبير الذي ينال رضى الوالدين وهو يؤدي دورهما ويتكفل بحشود لا عد لها، مغلقا على حياته صندوقا لا يفتحه إلا بعد أن تصدأ. وتتضاعف المأساة حين يشاء القدر- وقد أصبح حاتمي الكرم في الثلاثين سنة الأخيرة- أن تتصدر قائمة النسل فتاة في مجتمع لا يخجل من عوراته وتناقضاته، وهو يواجهها صباح مساء بنتائج عداد السنوات . قالوا لبعضهم سنين بعد ذلك، وهم يعاينون حالات المتزوجين المخنوقين بحبال التكافل حد الاقتتال الشرس على الرواتب ، إن سعيدة ورشيد حميا حبهما من الكراهية التي كانت تترصده عندما اختارا الفراق. - لم الصمت ؟ نبهها السؤال ألا تذكرينني؟ «وهل يعقل أن أنساك ؟» أمسكت بها عبر أسلاك الهاتف، كما كانت تمسك بها دائما عند باب الثانوية وهي تحث الخطى لكي تفلت . - بلى.. بلى . خرج صوتها بلا حياة سترتد السماء رصاصا بعد قليل... تعرف هاتف منها في الرابعة صباحا يعني قيام القيامة يا لطيف... لا أفهم يتساءل طارق لم نتحملها؟ نحن لا نتحملها تصحح عائشة ، إنها تملك سحرا من نوع السحر الأسود الذي لا قدرة لنا على مواجهته - يا للتفلسف المشعوذ كانوا يعرفون السبب ، تكبلهم بدين وهم صبورون مع أصحاب الفضل مهما طغوا. تحدثوا كثيرا في الأمر. يعتبرون صبرهم نقطة قوة تعميما ،و يميلون الى أنه نقطة ضعف حينما يشتد الطغيان. دين صغير هو، لكنه دين: كذبت لتحميهم من الأستاذ والإدارة وأولياء الأمور. قرروا يوما ألا يدخلوا حصة أستاذ العربية. تعبوا من مجادلته بلا جدوى، يصر بأن ليس في الإمكان أبدع مما كان ، ويصرون على مواجهته : لم نحن هنا ؟ كانوا يضعون أرجلهم في ماء النهر يستمتعون ببرودته في الجو الحار، فيما أدخلت أحدهم غرفة الإنعاش.استدرت عطف الأستاذ فغض الطرف عن غيابهم في محضر الغياب. قالت وهي تستعين بما تركه لها أمثالها من صبر: - هل من خدمة أؤديها لك في الرابعة صباحا؟ -أكلمك في هذا الوقت لكي تستعدي للسفر. - نعم ؟ تساءلت في استغراب . - لم أستطع النوم قبل أن أخبركم جميعا، أنت آخر من أكلمه بعد تردد . لزمت الصمت، لا رغبة لديها في استفسارها . قلبها تتسارع دقاته .لا تريد أن تسمع شيئا. ستغلق الهاتف في وجهها وتعود إلى النوم. وهذه المرة لن يقف دين ولا فضل ولا يحزنون أمامها. باغتها الصوت بلا رحمة: -أدخل طارق إلى مصحة عقلية البارحة. حاولت الجلوس والحال أنها كانت جالسة.... - رددت : طارق في مصحة عقلية؟ في مصحة عقلية تقولين؟ -أجل . كنت أقول دائما إن أعصابه ضعيفة. كيف تجرؤ ؟ كيف؟ - تقصدين مصحة نفسية؟ صححت لها وهي تتذكر فجأة حالات الأرق المزمن التي يشتكي منها منذ شهور. - بحال بحال. انتظر ضغط الإرهاب النفسي طويلا لينطلق من قمقمه: - كلا ليس بحال بحال لمن يملك عقلا سليما . لا أفهم كيف يعطي الناس الحق لأنفسهم ليضعوا داخل خانات معينة أشخاصا لا يعرفونهم ، لا يدرون عن معاناتهم شيئا ؟ كيف يستندون إلى لقاءات عابرة تملؤها أقوال وأفعال بدافع المجاملة، ليبنوا تأويلات في غاية الدناءة و الخطورة؟ هذه الكمية من الفظاظة والظلم المجانيين، كافية لأن تدخل إنسانا حساسا إلى مصحة عقلية بالفعل، فما بالك ....؟ أنهت المكالمة وأغلقت الهاتف. إحساس فظيع بالعجز بدأ يملأ كيانها . أسندت رأسها على المخدة و أغلقت عينيها فانسابت روحها في اتجاه ماء النهر تغتسل فيه ..... _ إلا ربي لان وامان (يوجد الله ، يوجد الماء) يرددون وهم يرشون بعضهم بماء النهر فرحين بقوة الحياة داخلهم، تقاوم انهزامية أستاذ اللغة العربية. - ليس في الإمكان أبدع مما كان؟ تقلد عائشة نبرة صوته ساخرة - مارأيكم إذن أن نغرق في النهر وننتهي؟ تخاطبهم بنفس النبرة - لدي اقتراح آخر أفضل يقول طارق ضاحكا : بدل أن نغرق نحن نغرقه هو وكل من يملك نفس المنطق الانهزامي ، ولو كنا نملك بحرا في المدينة لكان ذلك أنجع. يضحكون، يعبثون بالماء ويرددون كلمات أغنية يحبونها جميعا. تبرق عيونهم وهم يتحدثون عن المستقبل. كان كل واحد منهم يرسم مستقبله بمنطق أن في الإمكان دائما صنع البديع . شيء واحد كان يميز طارق عنهم : عطشه الغريب للانتصار. كان دائم البحث عن الانتصارات. انتصار الفريق الوطني في مباراة دولية ،حدث الأحداث. عندما لا يسعفه الفريق الوطني يلتفت إلى الفرق الجهوية، ينتقل من فريق إلى آخر إلى أن ينقذه انتصار عداء أو عداءة في ألعاب القوى. حتى انتصاره في لعبة الضومينو يصيره حدثا. أما جائزة نوبل فقد أسكرته،كان يصم أذنيه عن النقاشات الدائرة حول ملابسات الجائزة وما يفتأ يردد: أريد أن أنظر الآن في عيني أستاذ العربية. «ليس في الامكان أبدع مما كان» يقول، هراء..... لم تر فراغا في عينيه إلا عندما لفظتهم الجامعة واحتضنتهم البطالة. كانوا يعلمون جميعا ظروفه الصعبة بعد وفاة والده. ثمانية اخوة هو أكبرهم . حينما تم تعيينهم بعد نضال صاح «انتصرنا»، بعدها ابتلعه التكافل الأسري ..... الغربال السحري الذي تراهن عليه الحكومة ليغطي عجزها وتقاعسها ،و الذي إذ يحول دون تجول سخط الفقر عاريا في الشوارع ،يكرس ثقافة التواكل .... ويغذي الأنانية المهللة لمفهوم «الأضحية»...... عند قدمي التكافل تذبح حياة أكبر الاخوة من الوريد إلى الوريد. سنوات وسنوات وطارق يكابر، ويبحث عن العزاء في الانتصارات الصغيرة.... غير أن الفريق الوطني توقف عن الانتصار ولعبة الضومينو مل منها ونوبل اكتفت بعربي واحد .... وعندما عثر على الحب ، لم يسعفه الوضع فهرب منه . حاصرته أعينهم مستنكرة ،فصوب نحوها وقد شاخ فجأة مبلغ الاقتراض من البنك يقي بعض إخوته المتخرجين من البطالة،والموت غرقا في سبيل الجنة غير الموعودة . تعب... تعب.... تعب... انقهر وسقط اخترق دوي السقطة صمت المكان .التقطت الهاتف وأعادت تشغيله .كانت الشمس قد أشرقت. رن فحرصت على النظر إلى الرقم. جاءها صوت عائشة: - وصلك الخبر طبعا من المصدر المعلوم . - نعم -ستتناول المجموعة الغداء عندي اليوم، حاولي الالتحاق بنا لنرتب الأمر. زوجي يعرف المكان، سيقلنا جميعا عندما نجهز. ما رأيك أن نأخذ له معنا ..وأن ..., وأن.... وعائشة تقترح ومضت في رأسها فكرة خففت من إحساسها بالعجز، و رسمت على وجهها ابتسامة : «لقد انتصر طارق انتصر» . من يجمع بصدق كل هذه القلوب حوله في زمن أفسد من السوس، لا يمكن أن ينهزم.... لا يمكن ....... هامش 1- عن حكاية أمازيغية تقول إن جمعا من الشباب كان متحلقا حول النار يتسامر،وعندما أوشكت أن تخبو طلب أحدهم من الجالس قبالته أن ينفخ فيها بفمه حتى تتوهج . فأجابه ساخرا: ولم لا ينفخ الفم الذي يطلب من أفواه الآخرين أن ينوبوا عنه؟