في كتابه الصادر عن «دار توبقال» (الرباط)، يسعى المفكّر المغربي عبد السلام بنعبد العالي إلى إعادة النظر في عدد من المفاهيم التي تقوم عليها الكتابة، مسترجعاً إشكاليات أساسيّة شغلت بلانشو وبارت ودولوز وآخرين يحمل المؤلَّف عنواناً يشبه اللغز: «الكتابة بيدين». وهو أيضاً عنوان المقالة الأولى، المتعلقة بوحدة حال كلامين لكاتبين اثنين يجمعها ظلّ كتاب واحد. «ماذا يعني التأليف والتفكير بصيغة المثنّى؟»، يسأل صاحب «ثقافة العين و ثقافة الأذن» ويسوق أمثلة: ماركس/ أنغلز أو الأخوان غونكور، ونتذكّر نحن رواية «عالم بلا خرائط» للروائيّين عبد الرحمن منيف وجبرا إبراهيم جبرا هذه المسألة أشدّ تعقيداً مما تبدو. أن يكتب اثنان كتاباً هو أمر يتيح «إعادة النظر في كثير من المفهومات التي تقوم عليها الكتابة، بل مفهوم الكتابة نفسه». جيل دولوز الذي اشتغل كتباً عديدة مع فيليكس غاتاري، يُقرِّبنا من تعقيدات هذه المهمة بقوله «كنا نكف عن أن نكون «مؤلفاً». وهذا البين بين كان يحيل على آخرين مختلفين عن هذا الطرف أو ذاك». لكن بنعبد العالي يرى أن الكتابة بيدين هي الكتابة بين يدين، ولا ترمي إلى خلق وحدة تذوب فيها الأطراف بقدر ما تسعى إلى التعدد. تحضرنا هنا مغامرة منيف وجبرا التي لم يحدد فيها كل من الطرفين أيّة فصول كتبَ من الرواية. ربما تختلف الحال في الإبداع عنه في الفكر أو الفلسفة. فكرة أخرى ترد هنا، هي أن الكتابة فعل قائم على طرفي الأنا والعالم. هذا الثنائي الذي يشكّل الذات الكاتبة في نهاية المطاف. ما يحيلنا على مقال آخر في كتاب بنعبد العالي بعنوان «عودة إلى مسألة النقد»، ويستهلّه باقتباس من بورخيس «ما ندعوه إبداعاً هو مزيج من نسيان ما قرأناه وما نتذكّره». وفي هذه الحالة، يمكننا تخيّل كم من الأيدي تكتب مع الكاتب، إضافةً إلى يد القارئ الذي يكذب المبدع إن زعم أنّه لا يخطر له على بال. ويسأل بنعبد العالي «إذا كان الكاتب يبدو مفعولاً أكثر منه فاعلاً، فما الذي يبقى للناقد؟». قراءات متعدّدة لهذه القضية شغلت كثيرين، من «موت المؤلف» لرولان بارت، وحتى فكرة دولوز عن ضرورة «جعل النص يمتد» عبر الناقد الذي يقع على عاتقه أن يحمل همّ الكتابة أيضاً. وهنا نتذكر مقال جميل لفالتر بنيامين عن النقد استهلّه قائلاً «حمقى هم من يرْثون لانحطاط النقد. فقد حانت ساعته منذ زمن بعيد. النقد هو مسألة اتخاذ مسافة مناسبة». ولنقل إن روح بنيامين موجودة على امتداد الكتاب، وخصوصاً عمله «شارع ذو اتجاه واحد» بل إنّ طريقة تنسيق المقالات القصيرة وعنونتها على نحو مضمر، والخوض في فكرة واحدة منتشلة من هوامش العالم ميزات يشترك فيها بنيامين وبنعبد العالي. حتى إنّه يخوض في مسألة الترجمة بمقال «في ما لا يقبل الترجمة» ويقترب كثيراً ممّا تبنّاه بنيامين في هذا الصدد من أن «الترجمة ضرورية لأنها مستحيلة»، ولأنّ هناك ما لا يمكن ترجمته، فهي ضرورة ملحة. كثيرة هي إشكالات بنعبد العالي وأفكاره التي يستدعي فيها ثقافته المركبة والفرنسية المرجعية بالتأكيد، من بلانشو إلى بارت بروست ودولوز، ويظهر أن الأخير هو المفضل لدى صاحب (أسس الفكر الفلسفي المعاصر). في مقالة عن «التملّك الفكري»، يستعيد بنعبد العالي مقولة أستاذه المصري نجيب بلدي، حين أراد أن يقرب مفهوم القصدية عند هوسرل، فقال «الإنسان برّا» («كل شيء موجود في الخارج، كل شيء، حتى نحن أنفسنا، في الخارج، في العالم ، بين الآخرين، إننا لا نكتشف أنفسنا في عزلة ما، بل في الطريق، في المدينة، وسط الجماهير، شيئاً بين الأشياء، أناساً بين البشر». الإنسان «برّا».)، وهي رد فعل ضد ما سمّاه سارتر «فلسفة الالتهام» التي تنظر إلى الفكر «كعنكبوت يجذب الأشياء ويبتعلها ثم يحوّلها إلى طبيعته». يخفف المؤلّف هنا من زحمة الداخل، بنقل أفكار لا نعرف نحن كيف نقولها عن الفن والسياسة والحياة والأدب السفر، ويتركها «برّا». بنعبد العالي كله في هذا الكتاب «برّا» صعوبة الفلسفة وأقرب إلى جمالها، مستخدماً تقنية المهندس الذي تحدث عنه في «الخفّة والثقل». يريد لبنائه أن يبدو خفيفاً كأنه لا ينجذب إلى الأرض ولا يخضع لقوتها، فيستخدم موادّ أقل وزنا.