قال الله تعالى: «إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا» (الإسراء: 36). لقد حبى الله الإنسان بملكات فطرية مؤهلة لتحصيل المعرفة الصحيحة وزوّده بأدوات ووسائل حسية ومعنوية لتحقيق هذه الغاية التي هي بدورها وسيلة إلى العبودية للخالق، ومن ثم كان الإنسان مسؤولا مسؤولية عظيمة عن هذه الملكات والأدوات والوسائل، بشكل لايسعه معه إلا أن يراقبها ويرعاها وينميها ويستعملها الاستعمال السليم، الذي لايكون فيه تجنٍّ على الحقيقة، ولايشوبه افتئات أو افتراء عليها.ومن مقتضيات هذه المسؤولية العظمى تحصيل العلم النافع، والتزود بشروط النظر الصحيح واحترام الحقيقة والاعتراف بالخطأ وبالفضل لأصحابه وعزو المعلومات والمعارف إلى أصحابها. والدقة في القول: «يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم. ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيما» (الأحزاب:70)، والتسديد والمقاربة ومراجعة الذات ونقدها. فهذه كلهامن مقتضيات هذه المسؤولية المنوطة بالسمع والبصر والفؤاد (الفكر، والضمير والمشاعر) وهي منافذ ومصادر المعرفة الحسية والتجريدية معا. والأمانة العلمية بهذا المعنى لها بعد ذاتي وآخر غيري. فبعدها الذاتي يهم الباحث وتعامله مع أدواته وملكاته المعرفية الفطرية والمكتسبة، من حيث صيانتها ورعايتها والاستفادة منها وعدم تعطيلها، وتنميتها وتطويرها. كما يهم تعامله مع المعرفة نفسها، من حيث احترام الحقيقة، وتجنب الأحكام المسبقة، وعدم قبول الخرافة والأكذوبة ومالا دليل على صحته من عقل أو نقل. وبعدها الغيري يهم علاقة الباحث بالآخر، ولاسيما العلماء وذلك من حيث احترام آرائهم، والتثبت في الحكم عليها، والتأني في قبول ما يسمعه أو يقرأه عنها، والحوار معهم، وطلب الحقيقة معهم لا ابتغاء الظهور عليهم، والاستفادة من الرصيد المعرفي السابق في موضوع البحث، والاعتراف بما حققه الباحثون فيه، والرجوع عن الرأي إذا تبين خطأه بفضل الغير. فكل هذه الخصال تدخل في مفهوم النزاهة والأمانة العلمية بمعناهما الواسع.