لمحة موجزة عن قراءة عبد الله بن عباس، رضي الله عنه (تابع) نواصل بعون الله وقوته، البحث في قراءة عبد الله بن عباس، رضي الله عنه. وصلنا معه، حتى الآن، كما لاشك لاحظتم إلى الآية 139 من سورة الأنعام التي هي: «وقالوا ما في بُطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا».. حيث قرأ فيها كما بينا قوله: «خالصة» بالرفع. وقرأ، رضي الله عنه، في الآية 40 من سورة الأعراف التي هي: «إن الذين كذبوا بآياتِنا واستكْبروا عنها لا تُفتَّح لهم أبوابُ السَّماء ولا يدخلون الجنَّة حتى يلجَ الجَمَلُ في سمًّ الخياط وكذلك نجزي المُجرمينَ» . أقول: قرأ، هو رضي الله عنه: «حتى يلجَ الجُمَّلُ في سمَّ الخِياط» بضم الجيم وفتح الميم بعدها مشددة: شارك الإمام عبد الله بن عباس في هذه القراءة كل من سعيد بن جبير ومجاهد والشعبي وأبو العلاء بن الشَّخير، كما رويت أيضاً عن أبي الرجاء. ولابن عباس قراءة ثانية لهذه اللفظة وهي: «حتى يلجَ الجُملُ في سمّ الخياط» بضم الجيم وفتحة الميم مخففة. شاركه في هذه القراءة الأخيرة كل من سعيد بن جبير ومجاهد لكن بخلاف عنهما هذه المرة، وانضم إليهم في قراءتها عبد الكريم وحنظلة: وله، رضي الله عنه قراءة ثالثة لهذه اللفظة وهي: «حتى يلجَ الجُمل في سم الخياط» بضم الجيم وميم ساكنة. شاركه في هذه القراءة سعيد بن جبير. وله، رضي الله عنه كذلك في هذه اللفظة قراءة رابعة وهي: «حتى يلجَ الجمل في سم الخياط» بضم الجيم والميم مع تخفيف هذه الأخيرة. في هذه اللفظة (الجمل)، في هذه الآية قراءة أخرى، قرأ بها أبو السمال، لقد قرأ، رحمه الله: «حتى يلجَ الجَمل في سمِّ الخياط» مفتوحة الجيم ساكنة الميم. لقد أطلق العرب قديما على الحبل الغليظ من القنَّب (الجُمل) بالتثقيل كما أطلقوا عليه (الجُمل) بالتخفيف. ويظهر أنهم أطلقوا هاذين الصيغتين على حبل السفينة كذلك. وأما (الجُمل) فيجوز أن يكون جمع «جمل كأسدِ وأسد ووثن ووُثن. وأما (الجَمْلُ) فقد يكون مخففاً من المفتوح وإن كان بعض اللغويين يستبعدون ذلك. كما قرأ، رضي الله عنه، في الآية 57 من سورة الأعراف، وهي: «وهو الذي يُرسل الرياح بُشراً بينَ يدي رحمته حتى إذا أقلَّت سحاباً ثِقالا سقناه لبلد ميّت فأنزلنا به الماء فأخرجنا به من كلّ الثمرات كذلك نخرج الموتى لعلكم تذكرون»، قرأ فيها: «وهو الذي يرسل الرياح بُشرا بينَ يدي رحمته» بالباء مضمومة والتنوين. شاركه في هذه القراءة السلمي وعاصم لكن بخلاف عنهما. يحسن، أعتقد، أن أشير إلى أنَّ القراء اختلفوا اختلافاً كبيراً في قراءة هذه الكلمة « بُشرا» لقد قرأها، مثلا، أبو عبد الرحمان: «بَشْرا» بفتح الباء ساكنة الشين. و«بَشرا» هذه هي مصدر في موضع الحال، كقول الله تعالى في الآية 260 من سورة البقرة: «ثم ادعهن يأتينك سعيا»، أي: ساعيات، فكذلك «بشرا»، أي: باشرات في معنى مبشرات. يقال: بشرت الرجل أبشره بشراً، فأنا مبشر وهو مبشور، وأبشرته أبشره فأنا مبشر وهو مبشر وبشرته تبشيراً فأنا مبّشر وهو مُبشر وبَشر بالأمر يَبشر به فهو بشر كفرح به يفرح فرحاً وهو فرح. و«البِشارة» حسن البشرة. لذا يقال لما يفرح به «بِشارة» لأن الإنسان إذا فرح حسنت بشرته. وقرأ: «بُشرا» بباء مضمومة والتنوين السلمي وعاصم بخلاف عنهما، وهي قراءة تنسب أيضاً لابن عباس. ومعلوم أن «بُشرا» هي جمع «بشير»، لأن الريح تبشر بالسحاب في معظم الأحيان. وقرأها محمد بن السميفع وابن قطيب: «بشرى» غير منونة على فَعلى، إنها جاءت منصوبة على الحال وتعني: «مبشرات على ما مضى». وقرأ أبو عائشة مسروق بن الأجدع بن مالك الهمداني الكوفي: «نشرا» بفتح النون والشين. وقرأ: «نُشرا» الحسن البصري بخلاف عنه بضم الميم وجزم الشين، والحسن البصري من القراء الأربعة عشر. شاركه في قراءته هذه قتادة وأبو الرجاء والجحدري وسهل بن شعيب الكوفي. أما «نُشرا» التي قرأ بها هؤلاء فهي، ولاشك، تخفيف: «نشرا» بضم النون والشين التي هي قراءة متواترة، قرأ بها من السبعة الإمام نافع المدني وابن كثير المكي وأبو عمرو البصري. و«النشر» بضم النون والشين جمع جمع «نشور» لأنها تنشر السحاب وتستدره. أما التثاقل فيها، أي: النطق بها بضمتين فنجدها في لغة الحجازيين، والتخفيف في ذلك لتميم. وردت هذه اللفظة في موضعين آخرين من القرآن الكريم، لقد وردت في سورة الفرقان في الآية 48 منها وجاءت أيضا في الآية 6 من سورة النمل. أما القراءات المتواترة في لفظتنا هذه وهي: «بُشرا» في المواضع الثلاثة التي توجد فيها فهي: - «نشرا» قرأ بها في المواضع الثلاثة الإمام نافع المدني وابن كثير المكي وأبو عمرو البصري. - «نُشرا»، بضم النون وسكون الشين انفرد بقراءتها ابن عامر الشامي. - «بُشرا» بضم الباء وسكون الشين، انفرد بقراءتها عاصم الكوفي. - «نَشرا» بفتح النون وسكون الشين، يقرأ بها من السبعة الأخوان حمزة والكساني. وقرأ، رضي الله عنه في الآية 127 من سورة الأعراف التي هي: «وقال الملأ من قوم فرعون أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض ويذرك وءالهتك قال سنقتّل أبناءهم ونستحي نساءهم وإنا فوقهم قاهرون». أقول: قرأ هو فيها: «ويذرك وإلاهتك» بكسر الهمزة ومد اللام بالفتح. شاركه في هذه القراءة كل من علي بن أبي طالب كرم الله وجهه وعبد الله بن مسعود وأنس بن مالك وعلقمة والجحدري والتيمي وأبو طالوت عبد السلام بن شداد وأبو الرجاء. ومعنى «إلا هتك» : عبادتك ومنه «إلاه» أي: مستحق العبادة. سمى العرب قديماً الشمس «إلاهة» بكسر الهمزة وفتحها وضمها كما ورد في القاموس المحيط، سموها هكذا لأنهم كانوا يعبدونها، ومن هنا قالوا: «تأله تألها. قال رؤبة: لله در الغانيات المدة** سبحن واسترجعن من تألهي أي: عبادتي. ويقال: لاهِ أبوك، ولهْ أبوك ولهي أبوك وله أبوك. وقرأ الأشهب: ويذرك بإسكان الراء. إنها في الحقيقة مخففة ليس إلا، كما يخفف أبو عمرو البصري قوله تعالى: «يأمركم» في الآية 58 من سورة النساء، ويقرأ: «إن الله يأمركم» بإسكان الراء. كما يقرأ بعض «رسلنا» بإسكان اللام استثقالا للضمة مع توالي الحركات. ولم يسكن أبو عمرو «يأمرهم» الواردة في الآية 157 من سورة الأعراف كما أسكن « يأمركم» وذلك لخفاء الهاء وخفتها، فجاء الرفع على واجبه، وليس الكاف في «يأمركم» بخفية وخفيفة خفة الهاء ولاخفاءها، فثقل النطق بها فحذفت ضمتها. وقرأ نعيم بن ميسرة والحسن البصري لكن بخلف عنه: «ويذرك» بالرفع عطفا على: «أتَذر موسى» في هذه الآية الكريمة لفظة اختلف السبعة في قراءتها، هذه اللفظة هي: «سَنُقَتِّل» التي قرأها هكذا بضم النون وتشديد التاء أبو عمرو البصري وابن عامر الشامي والكوفيون عاصم وحمزة والكسائي، وقرأها بفتح النون وتخفيف التاء الحرميان نافع المدني وابن كثير المكي واندرج معهما من الثلاثة المتممة للعشرة أبو جعفر يزيد بن القعقاع. وقرأ أيضا في الآية 16 من سورة يونس التي هي: «قُل لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به فقد لبِثت فيكم عُمرا مِن قَبْله أفلا تعقلون». قرأ، رضي الله عنه: «ولا أدْرَأتُكم به» بتحويل الياء ألفا على لغة بني عقيل؛ قال الشاعر: لعمرك ما أخشى التصعلك ما بقي على الأرض قيسي يسوق الأباعرا وقال آخر: ألا آذنتْ أهل اليمامة طيِّء بحرب كناصات الأغر المشهر ولقد شارك كل من الحسن البصري وأبو بكر محمد بن سيرين بن أبي عمرة البصري عبد الله بن عباس في هذه القراءة. يخبرنا أبو حاتم أنه سمع الأصمعي ذات يوم يقول: «يا أبا عمرو بن العلاء: هل لقراءة الحسن: «ولا أدْرَأَتُكُم به» وجه؟ فقال: لا». وقال أبو عبيد، من جهة أخرى: لا وجه لقراءة الحسن البصري: «ولا أدْرَأتُكُم به» إلا الغلط. قال النحاس: «معنى قول أبي عبيد: لا وجه إن شاء الله على الغلط؛ لأنه يقال: دريت: أي: علمت وأدريت غيري، ويقال: درأتُ أي: دفَعْتُ؛ فيقع الغلط بين «دَرَيْتُ» و«دَرَأْتُ». قال أبو حاتم: يريد الحسن، فيما أحسب: «ولا أدْرَيْتُكُم به» فأبدل من الياء ألفا على لغة بني الحارث بن كعب، يبدلون من الياء ألفا إذا نفتح ما قبلها كما في الآية 63 من سورة طه: «إن هَذَانِ لَسَاحِرَان». وقال المهدوي: «ومن قرأ: «ولا أدْرَأَتُكم به» فوجهه أن أصل الهمزة ياء، فأصله: أدْريْتُكم «فقلبت الياء ألفاً وإن كانت ساكنة. ومعنى قول الآية: «قُل لوْ شاء الله ما تَلُوْتُهُ عليْكُم ولا أدراكم به» هذه على هذه القراءة: «لو شاء الله ما أرسلني إليكم فتلوت عليكم القرآن ولا أعلَمَكُم الله ولا أخبركم به. وقرأ ابن كثير بخلف عن البزي «ولا أدْرَاكُم به» بغير ألف بين اللام والهمزة، والمعنى: لو شاء الله لأعلمكم به من غير أن أتلوه عليكم؛ فهي لام التوكيد دخلت على ألف أفعل.