فاتَ شهرُ رمضان ولم يبقَ منه إلاّ بعضُ القُبُلاتِ التَعْييديّةِ التي يتبادلُها النّاسُ في شيءٍ من النِّفاقِ الاجتماعيِّ. ولم يَبقَ من أيّامِ العيدِ إلاّ تَلَمُّضُ الأفواه لِبََواقي الحلوياتِ أملاً في استِدامةِ طعمِها للتقليلِ من مَرَاراتِ المُقْبِلِ من الأيّامِ. ولم يبقَ من سهراتِ رمضانَ إلاّ تُخمةُ المُسلسلاتِ الدراميّة أو الساخرةِ يتجشأُ ارتجاعاتِها الناسُ في جلساتِهم بالمقاهي وفي مكاتبِ العملِ. وهي تُخمةٌ تعوّدَتْها أمعاءُ الأدمغةِِ العربيّةِ، بل صارت تنتظرُها أكثرَ من انتظارِها طهارةَ شهرِ الصّومِ ذاتِه، لا بل إنّ رمضانًا دون مسلسلاتٍ قد يؤدّي إلى انتفاضاتٍ شعبيّةٍ في بعضِ أقطارِنا العربيةِ التي ماتزالُ شعوبُها تُصدِّقُ التمثيلَ وتبكي تعاطُفًا مع بعضِ الشخصياتِ وتَشْمُتُ في أخرى وِفْقَ ما تُلبّيه الأدوار التي تقومُ بها تلك الشخصياتُ الوهميّةُ من انتظاراتِ هؤلاءِ المُشاهدين الحالِمينَ بِصِدْقيّةِ ما تبثُّه الفضائياتُ. > ومهما يكن من أمرِ فعلِ تلكَ المسلسلاتِ في المشاهِدين، فإنّها قد صوّرتْ، في الغالبِ، بعضَ ملامحِ التاريخِ العربيِّ وما يكتظُّ به الواقع من أحداثٍ تصويرًا هزيلاً لم يرقَ إلى مستوى الأعمالِ الفنيّةِ الكبرى عدا قلّة قليلةٍ مِمّا عُرِضَ علينا منها. ومع ذلك، فقد وجدناها تُقارِبُ الواقعَ مقاربةً غطّتْ عن هزالِها الفنيِّ. وسواءٌ كانت المسلسلاتُ تَمْتحُ أحداثَها من الماضي أو من الحاضِرِ، فإنّها كشفتْ لنا عَمَّا تتخبّطُ فيه أخلاقُ مجتمعاتِنا من تهافُتٍ وتردٍّ كبيرَيْن. فمفهومُ الأسرةِ كما قدمته بعضُ المسلسلاتِ، وعاداتُها، وعلائقُ الأفرادِ فيها، كلُّ ذلك كانَ مُحْبِطًا لآمالِنا في إمكانِ الحفاظِ على مفهومِ العائلةِ العربيّةِ ونبَّهنا إلى انتهاءِ مقولةِ الأخلاقِ الأسَريّةِ الحميدةِ لتَحُلَّ محلَّها أخلاقٌ جديدةٌ فيها كثيرٌ من الفوضى الاجتماعيّةِ وكثيرٌ من الاستهتارِ بالكائنِ البشريِّ ورِغبةٌ في تفريغِ المواطِنِ العربيِّ من مكوِّناتِ شخصيتِه الحضاريّةِ وتحطيمِ أَساساتِ هُويَّتِه. > وفي هذا الشأن، وقفنا على مجموعةٍ من الانتهاكاتِ في حقِّ المُشاهِدِ لعلَّ أبرَزَها تبريرُ الخيانةِ الزوجيّةِ والتحفيزُ على خيانةِ الأوطانٍ وتجميلُ القُبْحِ الاجتماعيِّ والدعوةُ إلى التعرّي من كلِّ الأثوابِ الثقافيّةِ العربيّةِ والدخولِ في عالَمِ التعولُمِ وما يُبيحُ من مقولاتٍ مثلَ "الجسدُ لكلِّ فَمٍ" و"الأقربون أَوْلَى بالسُّوءِ" و"مَتى ولدَتْكم أمَّهاتُكم أحرارًا" و"أَدِّ الفَرْضَ وأثْقُبِ الأرضَ" وغير هذا كثيرٌ. والمؤلِمُ المُؤْلِمُ، هو أنّ مَنْ يقفُ وراءَ هذه الأعمالِ الدراميّةِ من مُخْرِجين ومُمَوِّلين، هم أُناسٌ لا يتوفَّرون على الحدِّ الأدنى من الأخلاقِ الفنيّةِ، ولا تحكُمُهم سوى أخلاقِ الرِّبْحِ.