يستقبل الفلسطينيون هذا العام أول شهر رمضان بعد إعادة احتلال مدن الضفة الغربية، واستشهاد مئات الفلسطينيين واعتقال وجرح عشرات الآلاف منهم.ورغم مرارة الاحتلال إلا أن الظروف التي سبقته ليست أحسن حالا، ففي حين كان الفلسطينيون يفطرون على أصوات المدافع الإسرائيلية والقصف المتواصل لمدنهم وقراهم من معسكرات تحتل قمم الجبال، أصبحوا يفطرون هذا العام على أصوات الآليات العسكرية التي تجوب شوارعهم وبنادق الجنود الذين يطرقون أبواب بيوتهم. محاصرة المساجد وقد فرض الاحتلال منذ دخوله مدن الضفة مطلع شهر نيسان الماضي عد وقائع جديدة، فقام باحتلال عشرات المنازل وطرد أصحابها منها، وهدم عشرات البيوت وأغلق ودمر عشرات الشوارع التي تربط بين المدن والقرى الفلسطينية. كما شدد من حصاره للمساجد، واعتقل أئمتها وخطباءها ووضع قوانين وتشريعات وإجراءات تحد من وصول المصلين إليها. ففي المسجد الأقصى الشريف شكلت حكومة الاحتلال لجنة لدراسة العدد الذي سيسمح بدخوله للصلاة وخاصة صلاة التراوح، ويعتقد أن العدد الذي سيسمح له بالدخول لن يزيد على بضعة آلاف ممن تزيد أعمارهم عن أربعين عاما، مع أن المسجد يستوعب أكثر من نصف مليون مصل. وتمنع قوات الاحتلال سكان الضفة الغربية وقطاع غزة من الوصول إليه، ولا تسمح إلا لحملة الهوية الزرقاء (الفلسطينيون من سكان الأراضي المحتلة عام 1948م) بالوصول للصلاة. وتنشط في هذا الشهر الفضيل قوافل المصلين التي تنظمها الحركة الإسلامية في الأراضي المحتلة عام 1948م إلى المسجد الأقصى. أما في المسجد الإبراهيمي في مدينة الخليل فإن المصلين لا بد أن يمروا إلى المسجد والمتوضأ عبر ست بوابات إليكترونية مثبتة في المدخل الرئيسي الوحيد المفتوح للمصلين، ولا بد هنا من التدقيق في هويات المصلين وعرقلة دخولهم إلى المسجد وتأخيرهم عن الصلاة. أما في باقي مساجد الضفة فإن الدوريات العسكرية لا تبرح ساحات المساجد ويجوب جنودها الشوارع بحثا عن الشباب رواد المساجد بهدف اعتقالهم، أو ضربهم. لا مظاهر واختفى خلال العامين الماضيين الرونق الخاص الذي اعتاد عليه سكان مدينة الخليل على سبيل المثال حيث لم تعد تُزين الشوارع والطرقات وتضاء بحبال الزينة، ولم تعد فرق الإنشاد تطوف البلدة القديمة وتقرع الطبول وتنشد المدائح النبوية، ولم يعد الصبية يجتمعون خلف المنشد ويطوف بهم في الحارات وصولا إلى ساحات المسجد الابراهيمي حيث يحتفلون برمضان ويوزعون الحلوى، ثم يدخلون الى المسجد ويصلون العشاء والتراويح. هذه المظاهر كلها غائبة، إلا أن الحاضر يبقى تكية (زاوية) شوربة سيدنا إبراهيم الخليل عليه السلام، حيث يصنع طعام الإفطار ويوزع على الفقراء والمساكين مجانا على نفقة المحسنين والخيرين. تلك أيام ذهبت بغير رجعة كما يقول الحاج عبد الرازق أبو سنينة الذي ما زال يسكن في منزله القديم بجوار الحرم الإبراهيمي الذي يكاد يسقط بسبب منع المستوطنين له للقيام بترميمه ويضيف: الله يرحم أيام زمان، اليوم أصبح التفتيش ركنا قبل الصلاة، ولا بد أن يمر المصلي على الجندي والبوابة والمجندة ..ثم يتجه إلى سجادة الصلاة. ذكرى الأحبة وفي الوقت الذي يستقبل فيه المسلمون في العالم الإسلامي بإعداد أشهى المأكولات يستقبل الفلسطينيون هذا الشهر بتذكر الأحبة الذين غيبهم رصاص الاحتلال إلى مثواهم الأخير، أو غيبتهم قيوده إلى ظلام السجون. وتقول "أم أكرم" مستذكرة ولدها: كان أكرم يحرص في أيام شهر رمضان على أن يفطر معنا، والآن اعتقله جنود الاحتلال وحكم عليه بالمؤبد، ولن يصوم ويفطر معنا أبدا، إنه لن يخرج من السجن إلا أن يشاء الله. وتضيف: ولدي داخل السجن وبيتي هدم إنها حياة مرة، لكن كل شيء يهود في سبيل الحرية وإعلاء كلمة الله. أما الحاج "عبد القادر" والد أحد الشهداء فيقول: خرج ابني محمد أثناء اجتياح بلدتنا قرب الخليل ليسعف المصابين، فأطلق عليه الجنود النار فاستشهد وغاب عنا ولن يعود، بالتأكيد سيكون الغائب الحاضر طوال هذا شهر رمضان. اقتصاد سيئ ولا تقل الأوضاع الاقتصادية سوءا عن الأوضاع الأمنية، ففي حين أن الظروف الطبيعية تحتم على الصائمين شراء احتياجات هذا الشهر، يكتفي الفلسطينيون بشراء ما يكفي ليوم واحد أو يومين مما يسد الرمق. وتقول "أم محمد" أنها تأكدت من وجود الطحين والبطاطا في البيت. وتضيف: هذا يكفي وهذا فضل ونعمة. أما عن اللحوم والمأكولات والحلويات الشهية فتقول: كل شيء بثمنه، ونحن لا نستطيع شراء ما تتحدث عنه، وما دامت لدينا الأساسيات فهذا خير وبركة. وتتابع: معظم الناس لا يوجد لديهم نقود، لأن العمل متوقف والحصار مشدد، والتجارة متوقفة..باختصار شلل تام في كل شيء. ويؤكد التاجر "إبراهيم محمود" من أمام بقالته التي بدت فارغة، صعوبة الوضع الاقتصادي الذي يمر به الفلسطينيون. ويقول: في الظروف التي سبقت الحصار كنت أحضر إلى هذه البقالة كل ما تحتاجه المنازل، أما هذا العام فلم أشتر إلا أشياء بسيطة. ويضيف: لا يوجد مع الناس سيولة مادية، والديون تراكمت عليهم، وأصبح لدى الكثير منهم نوعا من الحياء من استمرار الدين، لذلك أصبحت الأكثرية تقتصر على الطعام المنزلي البسيط. أما "موسى سلامة" فيتجول في الأسواق عله يجد شيئا يستطيع دفع ثمنه إلا أنه يقول: تستلذ الأعين من الخضار التي تراها، لكن الفؤاد يبكي من ألم الحال والظرف الذي نعيشه، لا أدري ماذا أقول لأطفالي الصغار الذين يصرون على صيام الشهر الفضيل وينتظرون مني هدية الصيام من الحلوى. ويتابع: قد تستمتع عيني المتجول في الأسواق ببعض أنواع الأطعمة والحلويات والفواكه، لكن الظرف يتحكم بجيوب الناس. الفواكه شيء ثانوي ويؤد تجار الفواكه أن الفواكه الطازجة من حظ الطبقة العليا من الشعب الفلسطيني فقط، وبالتالي أصبحت شيئا ثانويا تماما لأكثر من 98% من الفلسطينيين. ويؤكد هؤلاء أن توقف طبقة العمال عن الاستمرار في أعمالها داخل فلسطينالمحتلة عام 1948م، كان له أثره الواضح في تردي حجم المبيعات والمشتريات في السوق الفلسطينية. وهذه الظروف -حسب التجار- يمكن أن تفسر سبب اختفاء مظاهر استقبال رمضان التي اعتاد عليها المسلمون في كل مكان، وانعدام المتسوقين وخلو المحلات التجارية. فلسطين- عوض الرجوب 4-11-2002م