لئن كانَ لصَوْمِ رمضانَ فوائدُ صحيّةٌ جمّة أثبتَها العِلْمُ الحديثُ، فإنّ له فوائدَ اجتماعيّة وثقافيّة كثيرةً تعضُدُ القيمة الدّينيّةَ لشَعيرةِ الصّومِ وتُحبِّبُها إلى النّاسِ. ولعلّ من أفضال شهر رمضان أنّه شهرٌ يجمعُ أفرادَ العائلةِ حول مائدةِ طعامٍ واحدةٍ، ذلك أنّ تسارُعَ العصرِ وكثرةَ الحاجاتِ وظهورَ الفردانيّة كلّها عواملُ ساهمت في تشظّي مفهومِ الأُسرةِ في بعضِ أقطارنا الإسلامية وانتفاءِ قيمتِها الاجتماعيّة التي تمثّل مهدًا نفسيًّا يبعثُ الطمأنينةَ في الفردِ ويُقوّيه على تجاوز مصاعب أيّامِه. وفي رمضان يكثُرُ التفكُّهُ وتكثُرُ فواكِهُ السهراتِ في شيءٍ من الإشباعِ النّفسيّ الباعثِ على الاعتدال بين حاجات الجسد وحاجات الفكر وحاجات الرّوحِ. > ولعلّنا واجدون في خزينِنا التراثيِّ كثيرًا من فواكِه الفكرِ التي تُنسي الصّائم عطشَه وجوعَه بجميعِ أنواعِه. من ذلك مثلاً أنّ أحد الإئمة كان يدعو إلى إقامة الصُّفوفِ قبل تكبيرةِ الصلاةِ، ولكنّ دعوتَه لم تجدْ آذانًا صاغيةً باعتبارِ أنّ حالَ بعضِ كبار السِنِّ تمنعهم من كثيرِ التحرُّك وسرعتِه ما أدّى إلى بعضِ التهاون في سد الفراغاتِ في الصفوفِ، فراح الإمامُ يُذكِّرُ المُصَلّين بضرورة التراصِّ في الصفوفِ حتى يسدّوا فراغاتِها فلا يَجِدُ الشيطانُ مكانًا يدخل منه. ولكن المصلّين ظلّوا واقفين متباعِدين عن بعضِهم بعضًا، فلما أكثر عليهم الإمام من الإلحاحِ صرخ في وجْهِه أحدُهم وهو يقول: إن كان الشيطانُ يستطيعُ الدُّخول بينَنا فدَعْهُ يُصَلِّ معنا!. > وفي سهرات رمضان تكثرُ اشعارُ المُزاحِ التي تنصبُّ أغلبُ أغراضِها على ذَمِّ البخلاء من الصائمين. إذْ قال أحدُهم ذامًّا بُخلَ صديقٍ له تلكَّأَ في إطعامِه «أتيتُ عمرًا سَحَرًا/ فقال إني صائمُ/ فقلت إني قاعدٌ/ فقال إني قائمُ/ فقلت آتيكَ غدًا/ فقال صومي دائمُ». ومن ذلك ما قال أبو نواس في مجلس هارون الرشيد يهجو الفضلَ بن يحيى: «رأيت الفضلَ مكتئبًا/ يناغي الخبزَ والسمكَا/ فأسبلَ دمعةً لَمَّا/ رآني قادمًا وبَكَى/ فلمَّا أنْ حَلَفْتُ له/ بأني صائمٌ ضَحِكَا». وهناك من الشعراء مَنْ أجبَرَه اشتهاؤُه بعضَ الحلويّات على مَدْحِها في شيءٍ من الغزلِ العفيفِ على حدِّ ما قال زين القضاة السكندري يمتدِحُ القطائفَ «لله دَرُّ قطائفَ مَحْشُوَّةٍ/ مِنْ فُسْتُقٍ دَعَتِ النواظرَ واليَدَا/ شَبَّهْتُهَا لَمَّا بَدَتْ في صَحْنِها/ بحُقَاقِ عاجٍ قد حُشِينَ زَبَرْجَدَا». ويذهب مذهبَه الشاعر سَدُّ الدِّينِ بن عربي في القطائف والكنافة «وقطائفُ مقرونةٌ بكُنَافةٍ/ من فوقِهِنَّ السُكَّرُ المَذْرُورُ/ هاتيك تُطْرِبُنِي بِنَظْمٍ رائقٍ/ ويَرُوقُنِي من هذه المَنْثُورُ». ويُضيف الشاعر اللّيبي عبد ربّه الغاني قولَه في وصفِ حلوى رمضان « الليلُ فيكِ مُؤَرَّخٌ بِضِيائِهِ/ صَخَبٌ وزِينَاتٌ وعِزُّ مَقَامِ/ هذي زلابية وتلك كنافةٌ/ وحلاوةٌ من كُلِّ صِنْفٍ شَامِ».