ليس كلُّ ما يُفَكرُ فيه يصلحُ للناسِ، فالتفكيرُ فعلٌ يُوجِّه أنسيابَ حركةِ الواقعِ، وحركةُ الواقعِ تأبَى أغلالَ الفكرِ وتجري بما تملكُ من سُرعةٍ. لذلك، كانتْ، وتكون الأفكار الجديدةُ لاحقةً بقاطرةِ المعيشِ باعتبارِ أصحابها من المُفَكِّرين لا يُبْدِعون نظرياتِهم إلاّ عبر ملاحظة علائقِ الأشياءِ بعضَها ببعضٍ. وهنا تنبُتُ مُفارَقةٌ بين الموجودَ الهارِبِ صوب المستقبَلِ والمنشودِ الساعي إلى توطينِ قبائلِ الفِكرِ في اللحظةِ. وتتجلّى هذه المُفارَقةُ في مظاهرَ عديدةٍ نُلْفيها تتحوَّطُ كلَّ فضاءٍ نَنْوجِدُ فيه. فلا يستطيعُ الواحدُ منّا مثلاً أن يضبطَ روزنامةَ مواعيدِ غَدِه ولا يكنُه التكهُّنُ بما ستكونُ عليه حالُه مهما استغلّ أحدثَ تكنولوجياتِ الاستشعارِ والاستخبارِ والتخاطُرِ. وهو ما يجعلُ أُمورًا مثلَ الفَرَحِ والنجاحِ وتملُّكِ الجاهِ والحُبِّ ومُصالحةِ الذّاتِ داخلةً في حيِّزِ الاحتمالِ الذي يُمْكِنُ ألاَّ يكونَ مُمْكِنًا، فلا يحصُلُ عندنَا فرَحٌ إلاَ وهوَ ينزِفُ دَمًا وَرْدِيًّا بين أيدينَا، ولا يأتينَا حُبٌّ إلاّ وهو مقتولٌ أو جريحٌ يترجّى الموتَ من فرطِ الألَمِ. *** وإنّنا نزعمُ أنَّ الذين يَعْصِرونَ خمرةَ أفكارِهم في كؤوسِ الليلِ وسطَ ضبابِ السجائرِ وهولِ الوِحدةِ هم أتعسُ مَنْ خلق اللهُ من بني آدمَ. فالأفكارُ لا تُمْطِرُ على رأسِ صاحِبِها خُبْزًا ومالاً وآمالاً، بل هي تجعلُ منه كائِنًا خارجَ السياقاتِ الاجتماعيةِ والأخلاقيّةِ والسياسيّةِ والاقتصاديّةِ. لا بل تَحْشُرُهُ في خانةِ "الهَبَلِ" والجنونِ والمجاذيبِ. وبُرْهانُنَاا على هذا ما ينالُه المفكِّرون من نُكرانٍ وغربةٍ في الأرضِ ومِنْ عِقابٍ مُرٍّ تحتَ الأرضِ ومِنْ حِسابٍ عسيرٍ في السماءِ عكسَ المُطربينَ والمُطرِباتِ اللواتي لا يفعلنَ في الأرضِ شيئًا سوى تهييجِ مسكوتاتِنا مثلما تهيجُ الأعشابُ الطُّفيْليةُ في حدائِقِ قلوبِنا الخلفيّةِ. فلكلِّ واحدٍ وواحدةٍ من أولئكَ ملائكةٌ من البشَرِ يخدِموهنَّ في النومِ وفي اليَقَظةِ "بما في الضميرِ هُنََّ من تواجُدٍ لعَديمي الضميرِ هُمْ" خدمةً تطالُ التفاصيلَ التي تستحي مِنْ ذِكْرِها اللُّغةُ. *** في أمسيةٍ ثقافيّةٍ حاضرَ فيها جامعيّونَ حول أغراضٍ فكريّةٍ عديدةٍ فصّلوا القولَ فيها تفصيلاً تمنّيْنا بعدَه لو يُطيلُ اللهُ في أعمارِ هؤلاءِ الباحثينَ عن الفكرةِ في شِعابِ الدّنْيا ناسينا مِنْ أجلِ ذلكَ نَصيبَهم منها، راحَ الجمهورُ يتسرَبُ خارجَ قاعةِ المُحاضراتِ كالرّمْلِ من بينِ أيْدي الصِّغارِ حتى لم يبقَ إلاَّ نفرٌ قليلٌ. وهو ما جعلَ أحدَ المُفكِّرينَ يُعاتِبُ زمنَه أمام شاشاتِ الفضائياتِ، بل ويتمنّى من اللهِ أن "يأخُذَ سِلْعتَه" منه حتى يرتاحَ من التواجُدِ في واقعٍ عربيٍّ لا يحترِمُ إلاّ صاحباتِ الخلفياتِ الشحميَةِ الناعمةِ. وظلّ يبكي بِجُرْأةِ العلماءِ.