وضعت الانتخابات الجماعية بمدينة العرائش أوزارها بعد مخاض عسير جدا بانتخاب تشكيلة المكتب الجديد للمجلس البلدي، وإذا ما حاولنا اختيار عنوان مركزي لهذا المسلسل الذي كان شاقا وعسيرا فإن الرأي العام لن يختلف عن الاتفاق في أن يختار عبث السلطة المحلية بهذا الاستحقاق، ذلك أن سجل هذه الجهة طيلة هذه المدة كان حافلا بالخروقات والتجاوزات التي وصلت حد التزوير والتدليس واستخدام العنف وممارسة جميع أشكال الضغط والتهديد وتسخير لوبيات العقار والفساد للترهيب والترغيب، وكأنها بذلك فقدت صوابها وعقلها وتوازنها، إنها كانت تخطط لسيناريو معين تحاول فرضه على أرض الواقع لكن في الأخير باءت محاولاتها بالفشل وخرجت بخفي حنين. وكانت البداية بتكديس بطائق التصويت ومنع المواطنين من الوصول إليها، حيث كان مئات المواطني+ن يتوجهون إلى مقرات السلطة لتسلم بطائقهم الانتخابية وكانوا يعودون خائبين. والمثير حقا أن فئة معينة من الناخبين هي التي حرمت من بطائقها الانتخابية بيد أن فئة أخرى كانت تصلها بطائقها الانتخابية إلى غاية مقرات سكناها، والهدف من هذه العملية واضح لا يحتاج إلى أي اجتهاد، وحينما كان مسؤولو الأحزاب السياسية يتصلون بالمسؤولون عن السلطة المحلية لإثارة الانتباه إلى هذه القضية، كان هؤلاء المسؤولين يردون بالقول إنهم مستعدون لتسليم البطائق الانتخابية، لكن شريطة أن يمدوهم بالأسماء، وكان المسؤولون الحزبيون يوضحون أن المشكل عام ولا يرتبط بأنصار حزب معين، وهكذا ظلت آلاف بطائق الانتخاب مكدسة في مقرات السلطة المحلية، ولعل هذا من أهم أسباب تدني نسبة المشاركة بالعرائش التي نزلت إلى أقل من 32 بالمائة. وكان استخدام المال وشراء الذمم سيد الموقف برعاية مفضوحة من السلطة، ورغم أن أربعة أحزاب رئيسية ويتعلق الأمر بحزب الاستقلال الاتحاد الاشتراكي والعدالة والتنمية وتحالف اليسار قدموا شكاية رسمية معززة بالوقائع والأسماء وبالشهود ورغم أن السيد وكيل الملك بالمحكمة الابتدائية تعامل بجد ومسؤولية مع هذه الشكاية وأمر بإجراء بحث ورغم أن الضابطة القضائية بالعرائش استمعت إلى وكلاء اللوائح الأربعة لمدة تجاوزت الثلاث ساعات إلا أن يد الميت نزلت فوق هذه القضية وأقبرت بشكل نهائي. ورغم أن نفس الأحزاب أصدرت بيانا مشتركا يوم 8 يونيو 2009 فضحت فيه حجم الفساد إلا أن السلطة أغمضت عينها ودفنت رأسها في الرمال. وكان يوم الاقتراع مشهودا، حيث كان المال الحرام يحاصر غالبية مكاتب التصويت، ورغم أن جميع وكلاء اللوائح احتجوا على ذلك فإن الوضع استمر على ما هو عليه، واضطر وكلاء هذه اللوائح للاعتصام أمام أحد مكاتب التصويت إلا أن لا حياة لمن تنادي واضطروا بعد ذلك إلى تصعيد الاحتجاج في نفس الموقع، وفي هذه اللحظة تحركت السلطة بقيادة عامل الإقليم ليس لوضع حد للفساد الانتخابي ولكن لتكسير عظام المحتجين، حيث أمر عامل الإقليم الذي حضر إلى عين المكان - سبحان الله - باستخدام العنف لوضع حد للاحتجاج، وبذلك أطلق العنان لهراوات رجال الأمن التي خلفت إصابات خطيرة لدى العديد من المواطنين. ولم تكتف السلطة بهذا الإنجاز التاريخي الذي يحدث لأول مرة في هذه المدينة، بل تفننت في إبداع أشكال التزوير والتي لم تحدث حتى إبان المراحل السوداء من تاريخ الممارسة السياسية في بلادنا، ونكتفي بحصر بعض العينات من هذه الممارسة الرديئة جدا، لأنه يستحيل على أي مراقب أو متتبع حصر جميع تفرعات هذه الإساءة. هكذا مثلا لم تجد السلطة أي حرج في وضع (البلانكو) فوق الأرقام المتضمنة في بعض المحاضر وكتابة أرقام أخرى بخط اليد (ونتوفر على نماذج من هذه المحاضر المزورة) كما لم تجد أي حرج في كتابة أرقام أخرى مزورة فوق الأرقام الأصلية في محاضر أخرى نتوفر على نسخة منها، ووصلت وقاحة التزوير حد كتابة نتائج أخرى مغايرة تماما بالنسبة لأحد المكاتب المركزية، وهكذا توجد نتائج أصلية صادرة عن هذا المكتب المركزي وهي غير الأرقام والنتائج المتضمنة في المحضر النهائي للمكتب الذي أعلن النتائج النهائية، ودائما بالنسبة لنفس المكتب المركزي،ولم يكن غريبا في هذا الصدد أن توقع محاضر أخرى على بياض نتوفر على نماذج منها ، ووصل الارتباك الناتج عن التسرع في التزوير حد تضارب الأرقام في نفس المحضر، فبالنسبة الى بعض المحاضر فإن عدد الأصوات المعبر عنها وعدد الأصوات الملغاة لا ينطبق مع مجموع المصوتين، كما أن مجموع الأصوات التي حصلت عليها بعض اللوائح لا يتطابق مع مجموع المصوتين. وكانت الفضيحة الكبرى التي كشفت حجم التزوير، فإذا كان القانون ينص على ضرورة أن تصل الأظرفة مغلقة ومشمعة الى المكتب الرئيسي الذي كان يستجمع النتائج، فإن السلطة لم تحترم هذا المقتضى، وكانت جميع الأظرفة تصل مفتوحة، وحينها احتج ممثلو وكلاء اللوائح، كانت السلطة ترد بأن الأظرفة تذهب أولا إلى المحكمة وتفتح هناك ثم تنقل إلى هذا المكتب، وهذه ممارسة تفضح بكل تأكيد إصرار السلطة على التزوير. ومن المؤشرات التي تؤكد هول التزوير بهذه المدينة أن إعلان النتائج النهائية لم يتجاوز في كبريات المدن حدود منتصف الليل أو بعد ذلك بقليل، إلا أنه وفي مدينة العرائش، ورغم أن جميع المكاتب المركزية أنهت أشغالها قبل الساعة العاشرة ليلا، ورغم أن هذه المكاتب لم يتجاوز عددها 14 مكتبا، إلا أن النتائج النهائية لم تعلن إلا في حدود الساعة الثامنة صباحا، ومن المؤكد فإن المرء لا يحتاج الى كبير جهد لمعرفة الأسباب الحقيقية وراء كل هذا التأخير ولم تتوقف السلطة عند حد كل هذا العبث بل تحركت بكل قواها في محاولة للضغط على بعض الأحزاب للامتثال لتوجه معين، وكان السيد العامل يتصل شخصيا بمسؤولي بعض الأحزاب لاقناعهم بالتوجه الذي يراه مناسبا، لكن التحالف القوي بين أحزاب الاستقلال والاتحاد الاشتراكي والعدالة والتنمية فوت الفرصة من جديد على قوى العبث والاساءة. إن هول الإساءة الى الممارسة الانتخابية والذي أساء الى سمعة البلاد قبل أن يسيء للمتسببين فيه يتطلب من السلطات المركزية فتح تحقيق نزيه ومحاسبة المهندسين الحقيقيين الذين فضحوا تواطؤهم مع قوى الفساد التي دمرت ونهبت في مدينة كانت تسمى في الماضي بجوهرة الشمال.