رغم أنني نمت متأخرا على غير العادة إلا أنني نهضت باكرا ولم يكن احد قد نهض أنداك،صدمت وأنا أسير في اتجاه منزلي بعد صلاة الفجر بمسجد (بلحمدونية) في وسط المدينة قبيل فجر يوم الجمعة الفائت، فلم أر في الشارع ذي الأضواء الشحيحة غير شبحين آدميين و مشردين مضطجعين في الشارع كالأموات، مشاهد نراها كل يوم تشيب لها الرؤوس ،سيارات قليلة تسير على الشارع، وبالكاد شخصان أو ثلاثة يسرعون الخطى مطأطئي رؤوسهم .. ثم راح الفجر بعد ساعة يرسل خيوط ضوئه الأولى، وقد لا تصدق نفسك وأنت تسير على الطريق في اتجاه المحطة الطرقية، حيث يفاجأ العابر بأن هناك أطفالا بالقرب من الحوانيت وبعض من الدكاكين التي لازالت مغلقة في هذا الوقت الباكر يبيتون في العراء بلا مأوى آمن، حاولت الاقتراب قليلا و التقطت بعض الصور، مشردون من مختلف الأعمار لا يعرفون الليل من النهار ولا مأوى يسترهم، يتحولون بعد ذلك إلى فريسة سهلة المنال في قبضة ذئاب الليل، وهناك اسباب كثيرة تدفع بالاطفال الى الشارع، فبعضهم ليس له بيت، او تخلت اسرته عنه والبعض الاخر من اليتامى او المحرومين، وهناك الكثير من الأطفال الذين لهم بيوت ولكنهم يفضلون البقاء في الشارع والسبب في ذلك هو الفقر، او شدة الازدحام في البيت او التمرد على ضغوط البيت او المدرسة او اساءة المعاملة البدنية في المنزل وقد يقضي هؤلاء الاطفال بعض الوقت مع اسرهم او اقاربهم، ولكنهم يقضون الليل في الشوارع، وحين كان لا بد لنا أن نتذكر هؤلاء الاطفال الذين يفترشون الأرض و يلتحفون السماء، كانت المحطة الأولى التي توقفنا فيها مشهد يستدعي الشفقة في شارع محمد الخامس بمدينة الجديدة بالقرب من المحطة الطرقية، طفل غلبه النعاس في نهار صيف شديد الحرارة، أسند جسده النحيل إلى جدار المحطة، بدا منكمشا يتضور ألما من حرارة شمس الصباح التي أصهرت رأسه، ولونت بشرته بالحمرة، ثيابه رثة قديمة بالية، أصابع قدميه تخرج من حذائه المتهالك، وغرقت ملامح وجهه في الأوساخ والغبار منذرة بغياب الطفولة وبراءتها، وفي مكان ليس ببعيد عن الطفل الأول، التقينا بطفل آخر ينام في في الزواية المقابلة للمحطة متوسدا نعليه، وذكر لنا بعد صعوبة في استنطاقه وفهم حديثه، أن اسمه عبد الرحيم، وانه خرج من منزل والده بالبئر الجديد منذ عشرة أيام هارباً من زوجة والده و إخوانه من أبيه الذين يضربونه دائما، واخذ يرينا بعض الكدمات على جسمه النحيل، وهو يحلف لنا بالله أنها منهم، وقال انه يود أن يعود إلى المنزل، لكنه لا يستطيع في ظل الظلم الذي يحيق به، وعن توفير الأكل يقول إنه يتوجه إلى المطاعم ويطلب منهم بعض الأكل والماء ويعطونها إياه او انه يستجدي المارة، هكذا فان الشارع بكل مغرياته،يظل بالنسبة أطفال الشارع فضاء تنتهك فيه كرامتهم ،وتهدر فيه طفولتهم ،ومكانا يعاملون فيه أسوء معاملة، إنها صور البؤس في مدنهم.