«لو أردت أن أعيش منتصرا وسط المهزومين لبقيت في المغرب، لكنني فضلت أن أعيش منهزما وسط المنتصرين... لذلك هاجرت!» ج. لولاش تعبت من الحياة على مشارف التشرد. أنهكني تسلّق قمم اليأس كل يوم، كل ساعة، كل دقيقة. رفضت ولاية الشرطة تجديد بطاقة إقامتي السنوية، وها أنذا على حافة التحول إلى مهاجر سرّي يعيش في الطوابق التحتية للعصر. بلا حقوق و لا أوراق ولا ملامح. قالت لي موظفة وزارة الداخلية الذميمة من وراء مكتبها، عليك أن تقدّم شهادات تثبت أنّك فعلا جادّ في دراستك. بطاقة الطّالب وحدها لا تكفي لتجديد أوراق الإقامة. ينبغي أن ترفقها بشهادة حضور الدّروس. التافهة لا تعرف أنّ تحضير دكتوراه يقتصر على إنجاز رسالة فحسب و أن لا دروس في السلك الثالث! لكنها معذورة، يبدو أنّها غادرت حجرات الدرس سنوات طويلة قبل الباكالوريا. لذلك يحلو لها اليوم أن تنكّل بمن اختاروا الجلوس على طاولات المدرسة حتّى اهترأت مؤخّراتهم، خصوصا أولئك القادمين من بلدان بعيدة و فقيرة. شرحت لها، بأدب، أنّني أهيّئ دكتوراه و أنّ كل ما علي أن أقوم به لكي أكون جادّا في دراستي هو إنجاز بحث من صفحات كثيرة. لا يهمّ إذا ما كان ذلك في المنزل، في المقهى أو في المرحاض حتّى! أصرّت بأنّه عليّ أن آتي بشهادة تثبت ذلك. أضافت بأنّ والي الشرطة هو من أعطى أوامره بتشديد المراقبة حول مدى جدّية كل أجنبي يدعي أنّه طالب من أجل البقاء فوق التراب الفرنسي. أنا أتبول على والي الشرطة وعلى الشرطة وعلى وزير الداخلية والتراب الفرنسي وعليك أيتها الغبية... قلت في نفسي، ثم ابتسمت وأنا أتذكر مثلا مغربيا حول الذميمات اللائي يجئن متأخرات. هي أيضا تأخرت قبل أن تنصحني بأن أكتب رسالة إلى الوالي مباشرة أشرح فيها مشكلتي و أنتظر... ضحكت. قلت إنني منذ سنوات، وأنا أكتب رسالة و أنتظر... أنتظر أن أتزوج من فرنسية و أغادر نهائيا هذا الكابوس السنوي في دهاليز ولايات الشرطة ! عندما غادرت المغرب في ذلك الأحد البعيد، كنت أشاهد المستقبل بالألوان. مرحا مثل لوحة رسمها ماتيس. كأنني خرجت من كهف نمت فيه ربع قرن، مع ملايين الأشخاص و أكثر من كلب. بمجرد ما حطّتني الطائرة في مطار أورلي اعتقدت أنّني عبرت النهر الوسخ إلى الأبد، و نشفت رجلاي. بعد بضع سنوات وانكسارات و هزائم، ما زلت أقف وسط حقل رماد. الشهادات التي جئت من أجلها هاهي في المحفظة كأي أوراق تافهة لا تصلح إلا للمرحاض. وها أنذا أكتب رسائل و أنتظر: رسالة جامعية، رسالة إلى والي الشرطة، إلى القنصل المغربي، إلى ربّ العمل... و قريبا أكتب رسالة إلى الله. سأرجوه أن يخلّصني من هذه الورطة التي تسمى «الحياة» ! حين أبقى لوحدي مدة طويلة، تنفرد بي الهواجس و تحاصرني الفوبيات من كل جهة. أصير محطما كناج من حرب طاحنة، وأتخيل نهايات رهيبة: الإنتحار، الإدمان، الإجرام، العودة الخائبة إلى البلاد... تمرّ أمامي أفكار خبيثة تحمل فؤوسا وسكاكين. أفكار مخرّبة و سوداء. لكن معاشرة الناس أيضا تمنعني من التفكير بصفاء. عندما أجلس طويلا مع المغاربة المشرّدين، أصبح مثلهم. أمشي بلا توقف نحو الوراء. عندما أعاشر الأجانب، أحس بدونية قاتلة وتبدو لي الحياة فاترة وبلا توابل. كما لو كنت أمشي في شارع راق ونظيف لكن ينقصه أطفال يلعبون أمام عتبات البيوت، يتراشقون بالحجارة ويكسرون مصابيح الدرب. عادة تمر أيّام الآحاد كئيبة. رغم أنّ الأضواء لا تنطفئ في الخارج وباريس لا تنام. مثل امرأة مضيئة و رائعة، لا تتعب، لا تشيخ ولا تحتاج أبدا إلى استراحة. باريس مدينة طيبة، تفتح قلبها لكل أبناء العالم. فكرت في الخروج. منذ أن قابلت الموظفة الذميمة في ولاية الشرطة وأنا أسجن نفسي في الغرفة لأفكر في المستقبل. ألونه و أمنحه جغرافية ومعنى... ماذا سأفعل إذا لم أحصل على بطاقة إقامة جديدة؟ هل أكتب رسالة إلى والي الشرطة؟ إلى متى سأظل أكتب رسائل لا يرد عليها أحد؟ ! تعبت. اليوم أريد أن أخرج، أن أبدّد قليلا من النقود. وأفعل كما يفعل الباريسيون. أريد أن أشعر أنّني آدمي ككل هؤلاء الأوغاد. ركبت المترو وذهبت إلى مونبارناس. كدت أجلس في مقهى لاكوبول، لكنني تراجعت. عبرت الشارع ودخلت إلى المقهى الذي يقابله، لوسيليكت. هذا مقهى محترم، مصمّم على الطريقة الأمريكية، يؤِمه كتّاب وشعراء وفنانون. أما لاكوبول فهو مطعم قبل كل شيء، يخصص بضعة كراس في مدخله لمن يريدون شرب قهوة سريعة. لاكوبول بات اليوم معروفا بأنّه مكان تأوي إليه العجائز لاصطياد شبانا مغامرين. نساء في الخمسين والستين والسبعين يجئن إلى هنا بحثا عن عمرهن الضائع، بمساحيق مقرفة على الوجوه وابتسامات صفراء. يحدّثن شابا يقرأ جريدة في الركن عن الطقس أو يسألنه كم الساعة، ليجد نفسه بعد ساعات في سرير واحد مع جسد مترهل. لا كوبول شهرتها واسعة. فيما مضى كان يرتادها كبار مثقفي باريس. هنا كان يلتقي سارتر وكامي ودوبوفوار... يصوغون وجودية لفراغهم ولخواء العالم. قبل أن ينتصر الجنس والحريات و ماي 68 و يبدل المجتمع أعرافه ونخبه و أحلامه، و يبدّل المقهى زوّاره...