«القانون في فرنسا رجل أنيق يلبس ربطة عنق، قسمات وجهه الصارمة لا تمنعه من الابتسام. قد تحتال عليه من حين لآخر، لكنك تحترمه في النهاية. في المغرب، القانون رجل معتوه وأعور، يجري في الشوارع ملوحا بعصا غليظة. شخص قذر وحقير... ويقولون لك احترمه!» ج. لولاش لا بد من هذه الوثيقة الثمينة لكي تصبح إنسانا جديرا بالعمل في فرنسا. عضلاتك لوحدها لا تكفي مهما كانت مفتولة وبارزة. عقلك أيضا لوحده لا يصلح. لا بد أن تكون معك الرخصة. لا بد أن تسلّمك مصالح الشغل ووزارة الداخلية ورقة تافهة تسمح لك بالعمل. كل شيء هنا يخضع للفحص الدقيق وللمراقبة والتقييم والموافقة. منذ أن تطأ قدمك قنصلية فرنسا طلبا للتأشيرة، تفهم بسهولة أنك شخص غير مرغوب فيه. بّيرسونا نون غراتا. كأنّك طالع نحس يهدّد أمنهم واقتصادهم وتاريخهم وجغرافيتهم. الدولة الفرنسية تفعل كلّ ما بوسعها من أجل طرد المهاجرين: يجعلون تجديد أوراق الإقامة أشبه بعبور الصراط المستقيم، والحصول على رخصة الشغل معركة حياة أو موت، ويعاملونك باحتقار وعنصرية... لكن المهاجرين لا يأبهون بكل ذلك ويرفعون التحدي. يفضلون لعبة القط والفأر مع القوانين العنصرية على الرجوع إلى بلدانهم. أن تلعب القط والفأر مع الأوربيين أفضل، في كل الأحوال، من أن تلعب الغمّيضة مع عصابة من بنات آوى في غابة كبيرة إسمها «البلاد»! في 120 شارع لافيليت، وجدت حشدا كبيرا ينتظر. البناية من زجاج، تنتصب وحيدة في مكان شبه مقفر. بجانبها ترتفع سكة مترو استثنائية. تمر فوق الأرض. الخط رقم 5 الرابط بين ساحة إيطاليا وبوبينيي بابلو بيكاسو يرى النور بين محطتي جوريس وستالينغراد. يخرج القطار مثل ثعبان جائع قبل أن يعاود الدخول في جحره. كما لو كان وحشا خرافيا لا يتحمل ضوء الشمس. انتابني شعور غريب وأنا أندسّ وسط المنتظرين. كأنّ زلزالا رهيبا دمّر المكان. ونحن وسط الخراب شرذمة منكوبين تستجدي إغاثات إنسانية. كتب أعلى البناية الزجاجية: مكتب اليد العاملة الأجنبية. الواقفون كلهم طلبة أجانب من أوربا الشرقية وأمريكا اللاتينية ومن آسيا والدول العربية... إذا استثنيت المنحدرين من بلدان الاتحاد الأوربي، وحدهم الجزائريون معفيون من رخص الشغل في فرنسا. بإمكان الطالب الجزائري أن يعمل أينما أراد دون أن تجرفه متاهات القوانين التمييزية التي تتربص بالأجانب. يبدو أن فرنسا تسهّل حياة الجزائريين فوق أرضها على سبيل الاعتذار عن قرن وثلاثين سنة من التنكيل والاستعباد ونهب الثروات. الجزائر نقطة سوداء في ذاكرة الفرنسيين. حاولت الجمهورية الخامسة أن تنظّف الماضي من آثار الدم، لكنها لم تتمكن من إسكات صرخات مليون جثة. هاهم أحفاد الأمير عبد القادر، بعدما فقدوا كل البوصلات، يطالبونها اليوم بالفاتورة. الجزائريون تسكنهم رغبة جامحة في الإنتقام من فرنسا. لذلك، على الأرجح، تجدهم يسرقون ويحرقون السيارات ويكوّنون العصابات ويعيثون في الضواحي تخريبا! لا أفهم لماذا يرسل الطالب الأجنبي إلى إدارة تحمل اسما مهينا كهذا: اليد العاملة! كلما تأملت التسمية أشعر بالإحباط والغضب، وبالغثيان أحيانا. اليد العاملة، لا يمكن أن تذكّرك إلا بعمّال المناجم البؤساء الذين فتكت الجحور برئاتهم في جيرمينال. أو بالمهاجرين الذين يحرثون حقول أوربا ليطعموا الأسياد البيض. تذكرني أيضا بالنهاية. بيوم الحشر. أجل يوم الحشر، حين تصير اليد شاهدة على ذنوب الفرد. تفضحه، تكذّبه، تقدّم لائحة بخطاياه، وتسلمه إلى آلة العذاب الجهنمية: اليد العاملة على خراب صاحبها! وحدها تلك التسمية كفيلة بأن تعكّر مزاجك وتشعرك كم أنت حقير وتافه في هذه البلاد. بلاد المنتصرين... اللعنة على من وضع تلك العبارة فوق البناية الزجاجية وأوقفنا أمامها ننتظر في صفوف طويلة! لم يكن ثمة صفّ. الطلاب محتشدون كيفما اتفق. ينتظرون. الساعة تشير إلى الثانية وعشرين دقيقة. يبدو أن الإدارة لا تفتح قبل الثانية والنصف. قرأت على الواجهة الزجاجية إعلانا يحدّد الوثائق التي عليك أن تحملها للحصول على رخصة الشغل: الوعد بالعمل، بطاقة الطالب، بطاقة الإقامة وظرف يحمل طابعا بريديا. كنت أحمل معي جميع هذه الأوراق. لحسن حظي أنني دخلت إلى موقع الإدارة على الأنترنت قبل أن أجيء. بعد عشر دقائق سيفتحون الباب، لأنتظر. لقد تعودت على ذلك. منذ جئت إلى هنا وأنا لا أفعل شيئا غير الانتظار! حصلت أخيرا على رخصة الشغل وأصبحت أعمل في مطعم جامعة جوسيو. يبدأ الشغل على الساعة الحادية عشرة صباحا. أنا أستيقظ في العاشرة. أحتسي قهوة أعدّها على مهل ثم أركب المترو رقم 7 من محطة بورط ديطالي في اتجاه جوسيو. المسافة قصيرة: بورط ديطالي، طولبياك، ساحة إيطاليا، ثم ليغوبلان، سونسيي دوبانتون، بلاص مونج... وها أنت في جوسيو. دقيقة أو دقيقتان تكفي للذهاب من محطة إلى أخرى. بعد ربع ساعة يقذفني المترو وأذوب بين حشود الطلاب مهرولا نحو المطعم. إذا جئت مبكّرا أعرّج على الإدارة لآخذ البذلات البيضاء التي نرتديها نحن الثلاثة المكلّفين بالصناديق: إيمانييل وأوليفيي وأنا. آخذ أيضا مفاتيح الأجهزة التي نغلقها بإحكام قبل أن نغادر. إذا أتيت متأخرا أذهب مباشرة إلى المطعم. هناك أجد جميع العاملين وقد تحلّقوا حول الموائد لتناول وجبة الغذاء قبل مباشرة العمل. إيمانييل هو الذي يأخذ البذل والمفاتيح في معظم الأحيان لأنه يأتي مبكّرا. إيمانييل طالب في جوسيو بجامعة بيار كيري، باريس السادسة. يحضر دكتوراه في علوم الوراثة. تفرض عليه دراسته حضورا مستمرا في المختبر. لا أعرف ماذا يصنع إيمانييل في مختبره العجيب، لكن الدراسات التجريبية تبدو هنا في منتهى الجدية. عندما يحدّثني عن رسالته في علم الوراثة، أتذكر السنوات التي أهدرتها في المغرب في كلية العلوم.