عدا العربيات، هناك الشقراوات المنحدرات من الشعوب الجائعة. و«الشعوب الجائعة» مصطلح نحتته العبقرية المغربية المشردة في أوربا لكي تفرق بين الأوربيتين، الغربية والشرقية، بعد سقوط الجدار واختلاط الحابل بالنابل. شقراوات الشعوب الجائعة قد يبتسمن لك بلا مناسبة، في الشارع، في عربات المترو، في السوبر مارشيات، في الحدائق العامة. تلتقي عيناك بعيني إحداهن فتسارع بالابتسام. أتذكر جيدا فيرجينيا. ليتوانية شقراء ساحرة، تعرف بالكاد ثلاث أو أربع كلمات بالفرنسية، ما تبقى ابتسامات توزعها ذات اليمين وذات الشمال. جمعني بها فصل واحد في الجامعة مع فتيات كثيرات قدمن من غياهب أوربا الجائعة: ليتوانيا، بلغاريا، رومانيا، روسيا، كرواتيا... وهلمّ جوعا! «في المغرب كنت أعتقد أن الحب هو أن تدق في صدرك طبولا ويشتعل قلبك مثل مصباح. في فرنسا عرفت أن الحب لا يحتاج طبلا ولا مصباحا ولا هم يحزنون: الحب هو أن تحصل على أوراق الإقامة!» ج. لولاش لا بد أن تعرفوا أن الزواج من فرنسية صار اليوم من قبيل المعجزات. عندما تحطّم برجا نيويورك في ذلك الثلاثاء البعيد، تحطّمت أبراج كثيرة في أحلام الشباب العربي المهاجر. أصبح العربيّ والغربية خطّين متوازيين فوق ورقة ممزقة، ينظران لبعضهما البعض بتوجس وسوء نية ولا يلتقيان أبدا. كلّما أراد الواحد منا أن يقبّل صديقته الشقراء فوجئ بلحية كثة وطويلة تتدلى من ذقنه وتعطي للقبلة مذاق الدخان. يتصاعد دخان كثيف من رأسك ومن أنفك وأذنيك وتتحول إلى برج مشتعل. منظرك المفْزع يسبّب للشقراء إغماءة طويلة. تهرع نحو المرآة وتجد نفسك لا تشبه أسامة بن لادن فحسب... بل أنت هو ميلياردير القاعدة الرهيب! صارت للفرنسيات حساسية مفرطة تجاه من له بشرة سمراء. فيما ارتفعت أسهم الجلدة السوداء القادمة من أدغال إفريقيا في بورصة الحب، لأنها مطيعة ووديعة، ويشاع أن لها عصيا طويلة تحت الحزام. هكذا جلسنا نحن على رصيف الغرب نحصي الخسارات ونشتم الطائرات والأبراج والدخان واللحى وصمويل هنتنغتون... في فرنسا وكل الدول الغربية، إذا كنت بلا أوراق إقامة تعيش مطاردا مثل مجرم فارّ من العدالة في فيلم أمريكي رديء. لكي تنتهي المطاردة، عليك أن تدخل إلى مبنى بلديّة ما متأبطا ذراع شقراء ويعلنكما العمدة زوجا وزوجة. ولكي تصطاد فرنسية حقيقية عليك ألا ترمي شصوصك كيفما اتفق. بل تتبع خطة طويلة وذكية ومخاتلة. قبل كل شيء، حاذر أن تكون مغفلا فتعتقد أن كل الشقراوات التي قد تصادف في طريقك يحملن أوراق الخلاص... الشقراوات ضروب وأصناف يا صديقي. ومثل «أديداس» و«نايك» و«لاكوست» وبقية الماركات العالمية، فيهن الأصيل والمزيّف، فاحذر التقليد. احترس من العربيات المتنكرات: الجزائريات والتونسيات والمصريات واللبنانيات والسوريات... والمغربيات طبعا! عليك أن تبالغ في الاحتياط لأنهنّ يحكمن التنكّر. يتقمصن دوْر الشقراء الغربية بشكل خطير. يزيفن لون العينين وشعر الرأس واللكنة وطريقة التدخين وإمساك الكأس، لدرجة أن بعضهن يصبحن ممثّلات سينمائيات... في أفلام رخيصة وماجنة، فيما تنتهي أخريات على حافة الطريق المحيطة بباريس في غابة بولوني أو في شارع ستراسبورغ سان- دوني، يمارسن مهنا شريفة جدا تقضي الوقوف بثياب البحر، وتوزيع ابتسامات وغمزات داعرة على العابرين. إذا صادفت شقراء متنكرة، طبعا سوف تنتهي بأن تكتشف مزحتها السخيفة، لكني أخاف عليك أن يحدث ذلك بعد فوات الأوان. أقصد بعد أن تنبت لك أذنان وخطم وذيل طويل، وتمشي وراءها في الشوارع والساحات والأسواق فاغرا فاك كأبله، ولأنكما معا بلا أوراق إقامة، تصبح حياتكما ليلا طويلا: عمل أسود ومستقبل أسود وأحلام سوداء. في النهار، هي تنظف بيوت أسر فرنسية وتحرس أطفالها الصغار وأنت تصبغ الحيطان أوتكنس الأرصفة أو تسرّح القواديس. في المساء تشعلان شاشة ملونة، تسميانها شاشة الأمل، لكنك تنهض في نومك، وتصعد سلّما عاليا وتصبغها، تصبغ شاشة الأمل الملونة... بالأسود! عدا العربيات، هناك الشقراوات المنحدرات من الشعوب الجائعة. و«الشعوب الجائعة» مصطلح نحتته العبقرية المغربية المشردة في أوربا لكي تفرق بين الأوربيتين، الغربية والشرقية، بعد سقوط الجدار واختلاط الحابل بالنابل. شقراوات الشعوب الجائعة قد يبتسمن لك بلا مناسبة، في الشارع، في عربات المترو، في السوبر مارشيات، في الحدائق العامة. تلتقي عيناك بعيني إحداهن فتسارع بالابتسام. أتذكر جيدا فيرجينيا. ليتوانية شقراء ساحرة، تعرف بالكاد ثلاث أو أربع كلمات بالفرنسية، ما تبقى ابتسامات توزعها ذات اليمين وذات الشمال. جمعني بها فصل واحد في الجامعة مع فتيات كثيرات قدمن من غياهب أوربا الجائعة: ليتوانيا، بلغاريا، رومانيا، روسيا، كرواتيا... وهلمّ جوعا! طوال المحاضرات، كانت فيرجينيا لا تكفّ عن رشقي بسهام عيونها. تحدق فيّ وتسهو. حين تبتسم، أبادلها الابتسامة متمتما: «ça va ?»، كي أكسّر الحرج. فيرجينيا الوافدة من أقاصي فيلنيوس لم تكن تعنيني. لم أضعها في قائمة أهدافي الحيوية. كنت قد نصبت فخاخي كلها ليابانية لطيفة اسمها أوهايا وبقيت أترقب سقوطها في الشباك. بعد عدّة أسابيع سقطت أوهايا فعلا... لكن في حبال دافيد ابن الكلب، صديقي الروماني القادم من مدينة حقيرة تدعى كلوج. ذات يوم، متأثرا بهزائمي، أسقطت من رأسي كل الحسابات الخاوية وألقيت في سطل القمامة رزمة التخطيطات التي حملت معي لكي أقبض على المستقبل في هذه المدينة العنيدة. فتاة تتأبط ذراعك إلى أقرب بلدية وتحولك بخاتم سحري إلى مواطن أوربي لتنسى جنسيتك المغربية إلى الأبد، هذا هو المستقبل!