«يقولون إن إسمي بالعربية معناه جبان... أجل أنا جبان: جبان كل وبان !» ج. لولاش هل أعود؟ لقد عدت. لقد عدت... أنا المغربي الذي فشل. أرمّم الآن ذاكرتي في أماكن كنت أجلس فيها قبل أن أرحل. في مقاه حقيرة جداّ. رفقة أناس أحقر. أصبحت موظّفا بائسا، تتآكل مؤخرته على مكتب مهترئ في وزارة ميّتة. انضممت إلى عصابة التافهين الذين يأتون إلى العمل متأخرين وعابسين ليقرؤوا الجريدة، في انتظار وقت الخروج. لم أكن أتوقع أن أحصد، في النهاية، كل هذه الحقول من الرماد. لم أكن أعرف أنني سأنتهي على هذا النحو. أنا الذي طالما ضحكت من هؤلاء الأغبياء، الذين يلبسون ربطات عنق ويحنون رؤوسهم أمام المدير ورئيس القسم ورئيس المصلحة. «الناس» الذين لا همّ لهم سوى إحصاء السلالم والأدراج وترقّب الراتب الذي يتقدم ببطء كأيّ سلحفاة، وعندما يصلون إلى نهايات السلّم، يكون الشيب قد اشتعل في الرأس والإنهاك تمكّن من الجسد وتكون الحياة قد انفلتت بمكر من يديك ومن أحلامك، كأي عاهرة محتالة. تكتشف أنك بدّدت عمرك على مقعد حقير في مكتب كئيب، ولم يبق في رصيدك إلا قيلولة صغيرة وأكواب لبلع أقراص ضدّ وجع الرأس وتعب المفاصل واختناق الصدر ومغص المعدة وانتفاخ الأمعاء... تكون قد حجزت تذكرة الذهاب، وجلست تنتظر في قاعة مظلمة. صعدت من الحضيض ورأيت الحياة ثم رجعت مفلسا. الناس يعودون من فرنسا محمّلين بالحقائب والعملة الصعبة، وأنا رجعت أحمل ركاما من الهزائم والخيبات، عدت من رحلتي كما يعود من غرق به مركب في بحار بعيدة وفقد كل شيء. المغرب بلادي الآن. صار وجهي أسمر من كثرة الشمس والكذب. عندما أنظر إلى صوري التي التقطتها في عواصم العالم، لا أعرفني. أجدني شخصا آخر تماما. لم يعد له وجود. رجعت كتاجر في رواية قديمة، جرف البحر كل ما يملك. لكنّ أحلامي ما تزال مشتعلة كمصابيح البلدية. طموحاتي عنيدة مثل مدرسة من الأطفال الأشقياء. قلبي بيلدوزير يدهس كل من يقف أمامه. يداي مطرقتان وسأهدّم الجبال التي تنتصب في وجهي. سأصبح محتالا أكثر وأكثر لكي أنجح. لكي أعيش مرتاحا في هذه البلاد الملأى باللصوص. عليّ أن أتعلّم الكذب من جديد، أن أتعلّم إخلاف المواعيد، وأدرّب وجهي على ابتسامات من كل الألوان. أن أكذب أكثر من أربع وعشرين ساعة في اليوم. أن ألبس أكثر من مائة قناع في الساعة. أن ألعب مئة شخصية كل يوم. علي أن أصير وقحا مثل قمامة مرمية في المشور السعيد. أن أتحول إلى نذل مستعد لبيع كرامته وعائلته وأحلامه، لكي يصل. إلى أين؟ لا أعرف، لكن لا بد من الوصول، لأن الجميع في المغرب يريد الوصول. هل أعود؟ يبدو أنني سافرت أبحث عن الحياة وضيّعت نفسي في الطريق. لست متصوفا أسكره التوحّد والتعدّد، لكن صدّقوني: ذهبت بمفردي إلى فرنسا وعدت ثلاثة أشخاص متفرّقين. أشعر الآن كما لو أنني شارع مكتظ عن آخره بالمارّة. كأنني مصعد معطّل في طابق أرضي، يتزاحم فيه أكثر من شخص، ويتنفسون بسرعة خوفا من نفاد الهواء. أنا عيسى بن مريم: ثلاثة في واحد... أنا المغربيّ الخائب والفرنسي الجبان ومن يحدّثكم عنهما. لملم الأول حقيبة مملوءة عن آخرها بالأحلام والأوهام ذات أحد، وطار يفتش عن المستقبل في باريس، وبعد أربع سنوات لم يجد شيئا ورجع بخفّي حنين. الثاني باع هويته في مزاد رخيص، ورمى جواز سفره المغربي في سطل قمامة، وأقنع نفسه أنه صار فرنسيا إلى الأبد... وبقيت أنا متردّدا بينهما، أكتب عن هذا التمزق لكي أفهمه، ولكي أفرّق هذه الجوقة المزعجة التي تتصايح داخلي.