تميزت الخطب الملكية السامية بطابع خاص جعلها وثائق مرجعية قارة وخرائط طريق لمختلف المراحل كانت ولاتزال باستمرار صالحة للاهتداء نحو المسار السليم. وخطاب جلالته الذي افتتح به السنة التشريعية الثانية من عمر الولاية النيابية الثانية بعد ظهر يوم الجمعة الماضي لم يخرج عن هذا الإطار. فبعد أن حرص جلالة الملك في خطبه السامية السابقة على التوجه إلى مساءلة الحكومة والإدارة والسلطات العمومية والمنتخبين والأحزاب السياسية، كل من موقعه، وركزت المساءلة على الاختلالات وأشكال العجز والقصور التي لا تزداد إلا تراكما وتعقيدا في غياب أي تفاعل حقيقي مع حاجيات المواطنات والمواطنين، أو أية مساهمة فعلية ملموسة في بلورة المقاربات والحلول والبدائل التي يكون بمقدورها تحسين ظروف عيش الساكنة، كما يكون من شأنها توفير أسباب الارتقاء الاجتماعي لجميع المواطنين من خلال توفير الصحة ذات الجودة والتعليم الملائم والشغل اللائق، خاصة لفائدة الشباب. فقد عمد جلالة الملك محمد السادس نصره الله في خطابه السامي الأخير إلى إرساء مسالك الإصلاح والتطوير والتقويم بهدف تجاوز الاختلالات، مع إعمال مبدإ المحاسبة المقرونة بالصرامة والقطيعة مع كل المفاهيم والتصورات السياسية والممارسات التي وصلت إلى مداها بل أوصلت البلاد إلى الأزمة. إن التركيز في الخطاب الملكي على هذا المنهج يعني بوضوح أن جلالته لا يفضل مزيدا من التشخيص عديم الجدوى، فالواقع يعرفه الجميع ويعيشه والوضع لا يستحمل التنميق أو المجاملة فيما يتعلق بوضع مسالك للإصلاح واقتراح البدائل. إن الإقرار بهذه الحقائق والمعطيات يؤشر على ضرورة الإدراك بأن سقف الجرأة والشجاعة والمبادرة والابتكار في بلورة الحلول العملية لتجاوز الصعوبات ارتفع بشكل كبير. وفي هذا السياق فإنه مهم جدا أن نسجل أن جلالة الملك سلط في خطابه السامي الأضواء الكاشفة على الأولويات، والمتمثلة في تنمية متوازنة ومنصفة، وتعميم التغطية الصحية والولوج إلى الخدمات الاستشفائية ذات الجودة، والتعليم الجيد الذي يكون كفيلا بضمان الشغل، وقضاء منصف وفعال وإدارة ناجعة في خدمة المواطن. ولتحقيق ذلك فإنه لابد من اعتماد قطائع أربعة وهي: 1 – اعتماد الحكامة الجيدة: من أجل وضع آليات دائمة وممنهجة ومندمجة في كل مشروع على حدة (فضلا عن العمل الذي يقوم به المجلس الأعلى للحسابات) وذلك بهدف تتبع إنجاز المشاريع التنموية والاجتماعية بانتظام وتقييم نتائجها بالنزاهة والصرامة التي تقتضيها المحاسبة. 2 – النموذج التنموي الجديد: وذلك عبر المرور إلى السرعة القصوى في التفكير والتصور لإرساء نموذج تنموي جديد مندمج وفق مقاربة تشاركية يهدف بالأساس إلى القضاء على الفوارق الاجتماعية والمجالية، وإحداث قطيعة مع العقليات والممارسات المعيقة للتقدم والتطور، ولابد في هذا الصدد من مخاطبة الذكاء الوطني للإبداع والابتكار لبلورة هذا النموذج التنموي بدون محاذير ولا احترازات. والأكيد أن جلالة الملك سيتجاوب مع مخرجات هذه الاستشارات، وإن اقتضى الأمر إحداث «زلزال سياسي». 3 – تفعيل الجهوية المتقدمة على أرض الواقع: وذلك عبر وضع جدولة زمنية لنقل الاختصاصات والموارد المالية، واضطلاع المنتخبين بمسؤولياتهم في التجاوب مع حاجيات الساكنة ومطالبها المشروعة، وأيضا من خلال السعي نحو بلورة المبادرات الخلاقة في هذا الصدد، ثم عبر إخراج ميثاق اللاتمركز بنقل الاختصاصات المهمة إلى الأجهزة والمصالح الموجودة في الجهات والأقاليم. 4 – تحويل الشباب وجعله محركا للتنمية وليس عائقا لها أو أمامها: ولابد أن نلاحظ في هذا الشأن ضعف نجاعة وتناسق وفعالية السياسات والبرامج العمومية الموجهة إلى هذه الفئة، إن هذا الإقرار يؤكد في نظرنا وجوب تعبئة كل الفعاليات والقوى والجهود بهدف التمكن من وضع سياسة جديدة مندمجة تتضمن مبادرات مبتكرة تتعلق بالتكوين والشغل والإدماج الاجتماعي للشباب مع الإسراع بإخراج مجلس الشباب إلى حيز الوجود كفضاء دستوري للحوار والترافع والمشاركة بالنسبة للشباب. إن الخطاب الملكي الأخير يمثل بحق وثيقة مرجعية بهوية جديدة ينتقل بنا من مستوى الرصد والتشريح إلى مستوى تسطير الحلول والبدائل الجذرية. العلم الافتتاحية: القطيعة من أجل تعزيز الثقة