يوجد من يدعو إلى العقل والعقلانية، في هذا العصر، من منطلقٍ لا يعترفُ بدينٍ، ولا يؤمن بوحي، حتى وجدنا منهم من ينكر أن يكون الإسلام دين العقل، بل من يذهب إلى أن أتباعه المؤمنين به، فاقدون للعقلانية. وهم، في دعوتهم إلى هذه العقلانية المنفصمة عن الإيمان وحقائقه، والوحي ودلائله، الساعية إلى ألاّ يوقنَ النّاسُ إلا بالعقل المجرّد، ينسون أنَّ العقل نفسه يدلّ أوّل ما يدلُّ على صحّة ومصداقية دين الإسلام بوصفه منهاجاً للحياة، ومصدراً للمعرفة في نفس الوقت. وحينئذ يتبيّنُ لكل ذي فطنة أنّ دعوى هؤلاء داحضة، ودعوتهم إلى العقلانية مجرّد تضليل وتمويه. لأنّ العقلانية التي يروّجون لها زائفه، ولأنّ العقلَ بما هو ملكةٌ إنسانيةٌ لا تكتمل أحكامه، وتستقيم رؤيته في شؤون هذه الحياة إلاّ إذا استكمل نوره بنور الدّين الحقّ. هذا الدّين الذي أعلى قيمة العقل ونوّه بالعقلاء، وأرشد إلى طرق إنماء الطاقات العقلية، وتحريرها من الهوى، والظّن، والتقليد، والتعصّب، والانغلاق، والأحكام المسبقة، واتباع الشّهوات، بقدر ما حرّرها من الغُلوّ والخرافة والأسطورة والوهم وتقديس العقل أو تأليهه والجمود والجحود. فبيّن الإسلام أنّ العقل هو مناط التكليف، وهو معراجُ الترقّي المعرفي، ومفتاح الاجتهاد والإبداع، مثلما أثنى على الذين يعقلون، وذمّ الذين لا يعقلون. إنّ الذين ينفون أن تكون للعقل مكانة في الإسلام، يحاولون طمس حقائق قرآنية وسنّية واضحة، ووقائع تاريخية حضارية شاهدة على سموّ تلك المكانة، ووعي المسلمين لعمق الدّعوة الإسلامية إلى التّفكير والاجتهاد والإبداع، وتحكيم العقل في تدبير شؤون الحياة، وفهم النُّصوص والاستنباط منها سواء بسواء. تاريخ الحضارة الإسلامية التي علّمت أوروبا، في العصر الوسيط، مبادئ المعرفة العلمية، والإبداع العلمي، دليل على المكانة الرفيعة للعقل في الإسلام، فضلاً عن النّصوص القرآنية والحديثية التي لا تعد وتحصى والتي اشتملت من التّنويه بالعقل والعقلاء، ومن بيان سُبُل تصحيح منطلقات التفكير وغاياته، على ما لا يخفى على من قرأ شيئا من تلك النّصوص. أما عقلانية الغرب التي يروّج لها «العقلانيون» في بلاد المسلمين، فهي مناقضة للمفهوم الإسلامي للعقل، ولمنطلقاته وغاياته. ذلك أنّ العقل والوحي في الإسلام منسجمان، غير متناقضين أو متعارضين. فالوحي إنما يُفهمُ بالعقلِ، والعقل إنّما يرشُدُ بالوحي. عقلانية الغرب المفصومة عن الدّين ليست عقلانية أنوار كما يدّعون، بل هي عقلانية ظلمات، لأنّها محصورة في أفقٍ دنيوي مظلم تكتنفه الأزمات الرّوحية والفكرية والمادّية، ولا تضيء دياجيره أنوار الإسلام. في حين أن العقلانية الإسلامية هي الجديرة بوصف النّورانية، والحريّة بأنْ تُنسب إلى الأنوار، لأنّها مستنيرة بتعاليم الوحي الصّادق الصحيح، مسترشدة بتوجيهاته الربّانية. ولذلك كانت عقلانية منسجمة مع الكون كله، موصولةً بخالقه، على بصيرةٍ من مبدإ الحياة ومنتهاها، ومصدرها ومآلها، ورسالة الإنسان فيها، والغاية من خلقه وإيجاده «أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى. إنما يتذكر أولو الألباب» [سورة الرعد، الآية 21]