إصابة عنصر من القوات المساعدة بحروق خطيرة في حريق سوق بني مكادة بطنجة    المغرب يعود إلى الساعة القانونية    المغرب ينجح في توقيف فرنسي من أصل جزائري مبحوث عنه دولياً في قضايا خطيرة    التحولات الهيكلية في المغرب.. تأملات في نماذج التنمية والقضايا الاجتماعية الترابية" محور أشغال الندوة الدولية الثانية    الأسير الإسرائيلي الذي قَبّل رأس مقاتلين من "القسام" من أٌصول مغربية (فيديو)    افتتاح أخنوش رفقة ماكرون للمعرض الدولي للفلاحة بباريس يشعل غضب الجزائر    تذكير للمغاربة: العودة إلى الساعة القانونية    نهضة بركان يحسم لقب البطولة بنسبة كبيرة بعد 10 سنوات من العمل الجاد    فيروس غامض شبيه ب"كورونا" ينتشر في المغرب ويثير مخاوف المواطنين    مقتل شخص وإصابة عناصر شرطة في "عمل إرهابي إسلامي" في فرنسا    الجيش والرجاء يستعدان ل"الكلاسيكو"    تمارة.. حريق بسبب انفجار شاحن هاتف يودي بحياة خمسة أطفال    التعادل يحسم مباراة آسفي والفتح    اختتام رالي "باندا تروفي الصحراء" بعد مغامرة استثنائية في المغرب    منتخب أقل من 17 سنة يهزم زامبيا    انطلاق مبادرة "الحوت بثمن معقول" لتخفيض أسعار السمك في رمضان    توقيف عميد شرطة متلبس بتسلم رشوة بعد ابتزازه لأحد أطراف قضية زجرية    في أول ظهور لها بعد سنة من الغياب.. دنيا بطمة تعانق نجلتيها    الملك محمد السادس يهنئ العاهل السعودي    أخنوش يتباحث بباريس مع الوزير الأول الفرنسي    توقعات أحوال الطقس ليوم الاحد    "مهندسو طنجة" ينظمون ندوة علمية حول قوانين البناء الجديدة وأثرها على المشاريع العقارية    المغرب بين تحد التحالفات المعادية و التوازنات الاستراتيجية في إفريقيا    تجار سوق بني مكادة يواجهون خسائر كبيرة بعد حريق مدمر    السينما المغربية تتألق في مهرجان دبلن السينمائي الدولي 2025    الصويرة تحتضن النسخة الأولى من "يوم إدماج طلبة جنوب الصحراء"    البطلة المغربية نورلين الطيبي تفوز بمباراتها للكايوان بالعاصمة بروكسيل …    مسؤول أمني بلجيكي: المغرب طور خبرة فريدة ومميزة في مكافحة الإرهاب    الرئيس الفرنسي يعرب عن "بالغ سعادته وفخره" باستضافة المغرب كضيف شرف في معرض الفلاحة بباريس    عجز الميزانية قارب 7 ملايير درهم خلال يناير 2025    "البيجيدي" مستاء من قرار الباشا بمنع لقاء تواصلي للحزب بالرشيدية    التخلص من الذباب بالكافيين يجذب اهتمام باحثين يابانيين    مساءلة رئيس الحكومة أمام البرلمان حول الارتفاع الكبير للأسعار وتدهور الوضع المعيشي    "الصاكات" تقرر وقف بيع منتجات الشركة المغربية للتبغ لمدة 15 يوما    مشروع قرار أمريكي من 65 كلمة فقط في الأمم المتحدة يدعو لإنهاء الحرب في أوكرانيا دون الإشارة لوحدة أراضيها    رئيسة المؤسسة البرازيلية للبحث الزراعي: تعاون المغرب والبرازيل "واعد" لتعزيز الأمن الغذائي    في حضور أخنوش والرئيس الفرنسي.. المغرب ضيف شرف في المعرض الدولي للفلاحة بباريس    رفض استئناف ريال مدريد ضد عقوبة بيلينغهام    بين العربية والأمازيغية: سعيدة شرف تقدم 'الواد الواد' بحلة جديدة    إحباط محاولة تهريب مفرقعات وشهب نارية بميناء طنجة المتوسط    الكوكب المراكشي يبحث عن تعزيز موقعه في الصدارة عبر بوابة خريبكة ورجاء بني ملال يتربص به    متابعة الرابور "حليوة" في حالة سراح    استثمار "بوينغ" يتسع في المغرب    السحب تحبط تعامد أشعة الشمس على وجه رمسيس الثاني    تحقيق في رومانيا بعد اعتداء عنيف على طالب مغربي وصديقته    الصين تطلق أول نموذج كبير للذكاء الاصطناعي مخصص للأمراض النادرة    رمضان 2025.. كم ساعة سيصوم المغاربة هذا العام؟    دراسة: هذه أفضل 4 أطعمة لأمعائك ودماغك    رفع الستار عن فعاليات الدورة الثالثة من مهرجان روح الثقافات بالصويرة    المؤتمر الوطني للعربية ينتقد "الجائحة اللغوية" ويتشبث ب"اللسانَين الأم"    حوار مع "شات جيبيتي".. هل الأندلس الحقيقية موجودة في أمريكا؟    "ميزانية المواطن".. مبادرة تروم تقريب وتبسيط مالية جهة طنجة للساكنة    الحصبة.. مراقبة أكثر من 9 ملايين دفتر صحي وتخوفات من ارتفاع الحالات    على بعد أيام قليلة عن انتهاء الشوط الثاني من الحملة الاستدراكية للتلقيح تراجع نسبي للحصبة وتسجيل 3365 حالة إصابة و 6 وفيات خلال الأسبوع الفارط    اللجنة الملكية للحج تتخذ هذا القرار بخصوص الموسم الجديد    أزيد من 6 ملاين سنتيم.. وزارة الأوقاف تكشف التكلفة الرسمية للحج    الأمير رحيم الحسيني يتولى الإمامة الإسماعيلية الخمسين بعد وفاة والده: ماذا تعرف عن "طائفة الحشاشين" وجذورها؟    التصوف المغربي.. دلالة الرمز والفعل    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



التشيّع..ذلك " الإسلام " الهرمسي
نشر في هسبريس يوم 07 - 02 - 2010

الحق في الاختلاف ضمانة إلهية،و كل ما يتنافى مع هذا الحق من تكميم الأفواه و إقصاء الآخر أو أي شكل من أشكال الاستبداد،فصاحبه مرتكب لحماقة فكرية، ويسير على غير سنة الله تعالى القائل في محكم كتابه "ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة و لا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك" ،غير أن الإيمان بالتعددية الفكرية والحق في الاختلاف لا ينبغي أن نفهم منه قبول ما يقول هذا "الآخر" و التسليم بصحته من غير نظر،بالفعل قد أدافع عن حقك في إبداء الرأي لكن لا تصادر حقي في أن أختلف معك مادمت أومن يقينا بأن الحق أحادي الوجه و النقيضان كما أنهما لا يرتفعان فإنهما لا يجتمعان،من هنا نرى ضرورة التمييز و الفصل بين الاعتراف ب"الآخر" كمكون سوسيوثقافي و بين الاعتراف بصحة ما يقول ذلك "الآخر".
إن التشيع بالفعل يشكل جزءا من الفسيفساء المذهبي في مجتمعنا المغربي،و هذه المسألة لا يمكن أن ننكرها على الرغم من تمثيله لأقلية قليلة جدا بالمقارنة مع الإسلام القائم على الولاء للسلف رضي الله عنهم بمن فيهم آل بيت رسول الله صلى الله عليهم جميعا،و الكثير من "الأعراف" الشيعية استطاعت أن تتوغل في الثقافة المغربية،و هذا ما دفع البعض للمزايدة بقوله أن أول مذهب عرفه المغرب هو التشيع،و حتى إن افترضنا جدلا صحة هذا القول،فهل هو المذهب الشيعي كما عرفه الأوائل،ذلك التشيع السياسي الذي يرى أحقية آل البيت بالخلافة؟أم تشيع الإساءة للصحابة القائم على مغالطات تاريخية و أكاذيب ملفقة لا سند لها؟ يقول شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه في منهاج السنة : " كانت الشيعة المتقدمون الذين صحبوا عليا أو كانوا في ذلك الزمان لم يتنازعوا في تفضيل أبي بكر وعمر وإنما كان نزاعهم في تفضيل علي وعثمان،وهذا مما يعترف به علماء الشيعة الأكابر من الأوائل والأواخر،حتى ذكر مثل ذلك أبو القاسم البلخي،قال سأل سائل شريك بن عبد الله ابن أبي نمر(من كبار الشيعة) فقال له أيهما أفضل أبو بكر أو علي فقال له أبو بكر فقال له السائل أتقول هذا وأنت من الشيعة، فقال نعم إنما الشيعي من قال مثل هذا،والله لقد رقى علي هذه الأعواد فقال ألا إن خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر أفكنا نرد قوله أكنا نكذبه؟ والله ما كان كذابا، ذكر هذا أبو القاسم البلخي في النقض على ابن الراوندي اعتراضه على الجاحظ ،نقله عنه القاضي عبد الجبار الهمداني في كتاب تثبيت النبوة. "اه
و لابد من التنبيه هنا إلى كون أبحاث الأنتروبولوجيين أكدت بأن ثمة الكثير من الطقوس تنسب إلى "اللامعقول الشيعي" و هي في جوهرها طقوسا كانت سائدة في شمال إفريقيا قبل دخول الإسلام،مثل عاشوراء،يقول بهذا الصدد إدوارد فسترمارك : "على الرغم من الاعتقاد السائد في مناطق المغرب بأن عاشوراء حداد على مقتل أبناء علي بن أبي طالب،و أحيانا على موت الرسول،و على الرغم من توقيتها الذي يصادف اليوم الثاني من محرم و هو الشهر الأول للسنة الهجرية المحمدية،فإنها طقس شمال إفريقي لا ينتمي إلى الإسلام و لا إلى الوثنية العربية" و قوله على درجة كبيرة من الصحة،و يشهد له أجواء المرح و الفرح التي تمر فيها هذه المناسبة،حيث جرت العادة أن يرمي الأطفال بعضهم البعض بالبالونات المائية و يشترون الألعاب،فهم أقرب إلى الناصبة منهم إلى الشيعة،كما أننا لا نلحظ معالم الحزن في المجتمع المغربي،فلا تقام المآثم و لا تلطم الخدود و لا تضرب الأظهر و الرؤوس بالسلاسل و السكاكين كما يفعل شيعة المشرق في مشهد همجي لاإنساني، تقشعر منه جلود الأسوياء و يقف له الشعر عجبا من هذه الحماقات و السخافات،و يتبرأ منه الإسلام الرسمي قبل ذلك.
قد نعترف أن أساس الاختلاف بيننا و الشيعة تاريخي بالدرجة الأولى،و يعترف الكثير من الباحثين الشيعة أن مذهبهم تبلور من خلال القراءة "العميقة" للتاريخ! فهم - بزعمهم- استطاعوا أن يستشفوا الوجه الآخر للصحابة،بينما قراءات أهل السنة للتاريخ تفتقر للموضوعية حسب المزاعم،و لم تتناول بحياد الخلافات الناشبة بين الصحابة بدءا من السقيفة و مرورا بالجمل و صفين و النهروان.. فنحن إذن في حاجة ماسة إلى إعادة قراءة التاريخ قراءة منصفة،بحيث نترك جانبا كل أولئك الذين تلاعبوا بالتاريخ لخلفياتهم الإيديولوجية و منهم الشيعة الرافضة،فمعلوم عند المؤرخين و علماء الجرح و التعديل بأن التشيع من المدارس الكبيرة التي تخرج منها عدد لابأس به من الكذابين،و لن نتحفظ من القول بأن التشيع كله مبني على الكذب أو ما يسمى عندهم ب"التقية".
و نحن في محاولتنا هذه لكشف حقيقة المذهب الشيعي لن ننساق مع طرحهم "التاريخي"،و إنما سنعمد إلى تقييم عقائد الشيعة باعتماد المنهجين الفيلولوجي و الإبستمولوجي،أما الفيلولوجيا فمنهج استشراقي رغم نمطيته إلا أنه سيساعدنا على تفكيك المنظومة العقدية للفكر الشيعي ثم رد كل فرع إلى أصله،إنه منهج قائم على الفصل و الوصل،أن نفصل الموروث الشيعي عن تراثنا الإسلامي ثم نصله بنا ،و الوصل هنا بوضعه حيث ينبغي أن يكون أي خارج حدود المعقول الديني و الإسلام الرسمي.أما المنهج الإبستمولوجي فإنه المنهج الذي يكشف عن بنية العقل و أسلوب التفكير و طريقة إنتاج المعرفة.
لنقل بادئ ذي بدء إن الإسلام السني هو امتداد للإسلام الناصح الخالص من المعتقدات الفلسفية القديمة التي انبعثت في عصر التدوين،فهو مذهب قائم على "المعقول الديني" في مقابل "اللامعقول العقلي" عند الشيعة،معقول ديني لأنه يكرس خطاب العقل القائم على الحس.إن المعقول الديني يتحدد من خلال العلاقة الجدلية بين المعقول واللامعقول في الخطاب القرآني،الخطاب الذي صور في مواضع عدة التاريخ كدورة مغلقة لصراع بين المعقول و اللامعقول الدينيين،حيث إن الزمن يذوب في هذه الدائرة التي تعيد نفسها بعد أن تتم دورتها و تعود إلى درجة الصفر.و أول ما يتحدد به المعقول الديني هو الإيمان بالله و توحيده،ذلك لأن الشرك بالله ينطوي على تناقضات إذ "لو كان فيهما آلهة غير الله لفسدتا"،بينما في "اللامعقول" ثمة الوسائط و التجسيد و التعدد،ثم الإيمان بالنبوة،نبوة محمد صلى الله عليه و سلم،و لأنه خاتم المرسلين فذلك يعني أن الاتصال بالله لتلقي الوحي لن يكون إليه سبيلا لا بالكشف و لا العرفان، و توحيد الله و الإيمان بالنبوة قائم على الحس،فتوحيد الله يكون بالنظر في الكتاب المنظور(= الكون)،و نبوة محمد تثبت بالنظر في الكتاب المسطور(= القرآن)،بينما اللامعقول يطالب بحضور ما وراء الطبيعة في الطبيعة،فهو قد يذهب إلى أبعد مدى فيطلب حضور الله لكي يؤمن بالنبوة "يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة"، و مطالبة أصحاب اللامعقول بالمعجزات هو من هذا القبيل كذلك،إذن فالمعقول الديني يتحدد من خلال القول بوحدانية الله أي نفي الشريك،بمعنى نفي تأثير الكواكب،و الإيمان بالنبوة إنكار لإمكانية الاتصال بالله و التلقي منه مباشرة(ثمة الكثير من الملاحدة العرب كفروا بنبوة محمد أو بالأحرى "استغنوا" عنها لا من منطلق مادي، بل لأنهم كانوا يرون إمكانية تلقي الوحي عن الله بما يسمى عندهم التطهير و الخلاص، و بأن ذلك ليس مخصوص بالنبي كالطبيب الرازي أبو بكر مثلا)،و إذا كانت معجزات الأنبياء قبل محمد صلى الله عليه و سلم طبيعية،أي خرق لنواميس الطبيعة و قوانينها،فإن معجزة محمد بيانية على مستوى اللغة و البيان.
هذا عن المعقول الديني،أما "اللامعقول العقلي" فإنه يتحدد بنقيضه و كما يقال فإن الأشياء بضدها تتميز،لكن ما هو هذا اللامعقول العقلي الذي نهلت منه الأدبيات الشيعية؟ إنها باختصار تلك الفلسفات التي انبعثت في العصر الهيلنستي و تزامنت مع التهام العقل الإغريقي لنفسه، و استسلامه للخرافة التي قدمت باسم العقل،فهو لامعقول(=خرافة،أسطورة) لكنه عقلي(=يقدم باسم العقل)،إنه إذن "ميثوس" في قالب "اللوغوس"،و يؤكد لنا "فيستوجييرFestugière " أن هذه الفلسفات-بما فيها الهرمسية- إنما رأت النور نتيجة ظروف تاريخية عقب فتوحات الإسكندر،و حروب تلتها محدثة أزمات اجتماعية فكرية متمثلة بالأساس في عجز العقل اليوناني عن تطوير نفسه،فهذا الأخير لم يحدث ما قد نسميه مع "باشلارد" قطيعة إبستمولوجية(الطابع التراكمي للمعرفة إنما هو ناجم عن قطائع إبستمولوجية)،لأن العقلانية اليونانية أطلقت العنان لنفسها محتقرة المنهج التجريبي بله الاحتكام إليه،و عندئذ قدّمت "اللاعقلانية" كبديل للعقلانية،و حلّ الاحتكام إلى "الغنوص" و العرفان محل الاحتكام للعقل و الإنصات لسلطانه و الإصغاء لندائه،حيث نقرأ في نص هرمسي يصف الفلسفة المثالية بأنها "تلك التي لا يدنسها أي فضول سئ للعقل"،عندئذ استقال العقل اليوناني الذي بلغ أوجه مع أستاذ الاسكندر "أرسطو طاليس" حيث تعالى في سماء العقل بمنطقه الصوري،فأرسطو لم يفكر بالعقل فقط بل فكر في العقل و وضع قوانين تعصمه من الخطأ،و هذه درجة من المعقولية أعلى لاشك.
لننظر الآن في الخطوط العريضة لهذه الفلسفة الهرمسية التي اغتالت العقل و استسلمت للغنوص و العرفان،و هو النظام المعرفي الذي ستتبناه صفوف عريضة ممن ينتسب إلى الإسلام كالحركات الباطنية و المتصوفة و الشيعة.
لنسجل بادئ ذي بدء أن المؤرخين للفلسفة اختلفوا حول أصل التسمية هرمس(المثلث بالحكمة) فمنهم من اعتقد بأنه اله من آلهة اليونان و طابقوا بينه و بين إله مصري يسمى طوط thoth،و اليهود يرون بأنه النبي موسى نفسه،أما في الأدبيات العربية فقد طابقوا بين هرمس و النبي إدريس المذكور في القرآن،و الفكر الهرمسي مزيج من المعتقدات الدينية و الفلسفات التي تحتل فيها العلوم السحرية مكانة مهمة،أما الرؤية الكوسمو-أنطولوجية الهرمسية فإنها تقرر بأن فوق السماء إله متعال لا تدركه الأبصار و العقول،و إزاءه توجد المادة الغير المتعينة و هي مبدأ الفوضى و ميدان النجاسة و القذارة،و أما العالم السماوي و الإنسان فقد قام الإله الصانع(و هو غير الإله المتعالي) بخلقهما بتكليف من الإله المتعالي و هذا الإله الصانع قابل للإدراك و المعرفة،و أما الإنسان فيتكون من جسم نجس يعتريه الموت،و النفس و هي الجزء الأشرف في الإنسان ،ذات أصل إلهي ،و هي الطريق لمعرفة الإله بعد تطهيرها لأنها جزء منه أصلا حسب المزاعم،و كذا القول بارتباط العالم السفلي بالعالم العلوي بل و توقف أجزائه بعضها على بعض، فهي عبارة عن دوائر بعضها داخل بعض(يمثل لذلك إخوان الصفا بقشرات البصلة..و إخوان الصفا فلاسفة من الشيعة الإسماعيلية).
هذا عن الفكر الهرمسي في العصر الهيلنستي،و الآن قبل أن ننظر في المواقع التي احتلها هذا "الركام الجيولوجي" من المعتقدات التي شكلت ما سمي في عصر التدوين ب "علوم الأوائل" في "الثقافة الإسلامية" ، قد نتساءل و التساؤل هنا مشروع عن حقيقة الحضور الهرمسي في التيارات الإسلامية التي جعلت من هذا الموروث القديم معينا لا ينضب لتأويلاتها المتسمة بالباطنية،ذلك أن المتأمل لتراثنا لا بد أن يستشف بسهولة بأن ثمة اختلافات في الأنظمة المعرفية بين الفرق الإسلامية،فهناك فرق بيانية و هي تلك التي انصب اهتمامها على فهم النصوص باعتماد البيان العربي(التركيز على الازدواجية لفظ/معنى)،و ثمة فرق عرفانية غنوصية جعلت من "التأويل الباطني" غطاءا "شرعيا" للتلاعب بالنصوص،و هم المتصوفة و الشيعة بالأساس.
تكاد تجمع مصادرنا الإسلامية أن "أول نقلة من لغة إلى لغة" بتعبير ابن النديم في فهرسته كانت مع أمير أموي يدعى خالد بن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان الذي جاء إلى دمشق من الإسكندرية -التي كانت مركزا ثقافيا مهما- بالفلسقة الهرمسية،و أنه إنما تعاطى لهذه الفلسفة التي تضم بين ثناياها "علوما" كالكيمياء ( تعنى بتحويل المعادن الخسيسة إلى معادن نفيسة) من أجل الحصول على المال و استعادة الخلافة التي وعد بها في مؤتمر الجابية المنعقد في 64ه،إذن فالتشكيك في حضور الموروث الهرمسي بالثقافة الإسلامية تفنده مراجعنا الإسلامية،و ما يزيد من تأكيد ذلك أننا نقرأ نصوصا ذات حمولة هرمسية في الكتب التي اعتنت بالعقائد الشيعية ككتاب إمامنا الأشعري رحمه الله "مقالات الإسلاميين"،يقول عن فرقة شيعية من أصحاب عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر ذي الجناحين "يزعمون أن عبد الله بن معاوية كان يدعي أن العلم ينبت في قلبه كما ينبت الكمأة والعشب وأن الأرواح تناسخت وأن روح الله جل اسمه كانت في آدم ثم تناسخت حتى صارت فيه قال‏:‏ وزعم أنه رب وأنه نبي" و لاشك أن القول ب"نبات" العلم في القلب معتقد هرمسي لا غبار عليه كما قلنا سابقا،و أيضا القول بالأصل الإلهي للنفس البشرية،و كذلك "يزعمون أن المعارف كلها اضطرار و ان الخلق جميعا مضطرون و ان النظر و القياس لا يؤديان الى علم و ما تعبد الله العباد بهما" و في هذا النص الشيعي نلحظ التطابق بينه و بين النص السابق الذي مفاده أن الفلسفة لا ينبغي أن تدنس بأي فضول سئ للعقل،و في نفس السياق نجد نصا لفرقة شيعية تدعى الخطابية تكرس دائما خطاب اللاعقلانية و الغنوص الهرمسي حيث يزعمون ب"أن كل ما يحدث في قلوبهم وحي،و أن كل مؤمن يوحى إليه".أما رسائل إخوان الصفا فهي مدونة هرمسية و موسوعة ل "اللامعقول العقلي"، حيث تجدهم يؤكدون على المبدأ الهرمسي المتمثل في ضرورة تطهير النفس قبل الكلام عن ذات الباري "و اعلموا أيها الاخوان أنه لا ينبغي أن يتكلم أحد في ذات الباري تعالى و لا صفاته بالجزر و التخمين،بل ينبغي أن لا يجادل فيه إلا بعد تصفية النفس".و الأهم من كل هذا هو توظيفهم لشظايا الفلسفة الهرمسية في الحقل السياسي،فمثولوجيا الإمامة القائمة على وراثة النبوة إنما تجد سندها و دعامتها في الفلسفة الهرمسية،إنهم يعتقدون في "الأسرار" التي تمنح بعض الأشخاص(و هم المعصومون) قوى خارقة للعادة من خلال الاتصال بالعالم العلوي حسب المزاعم،و من هنا خاض الشيعة على مر التاريخ الكثير من الثورات التي يقودها أشخاص لهم قدرات خارقة !و هم الأئمة الذين غلى الناس فيهم حتى سموا في مراجعنا ب "الغلاة"،إن الغاية إذن من القول بعصمة الإمام هي تعبئة الجمهور و كسب الأتباع و تكريس الزعامة الروحية،و قد نجحوا باعتماد هذا النهج في تجنيد الساخطين على الحكم الأموي و الانقلاب عليه،لكن محاولاتهم باءت بالفشل في الحقبة العباسية،حيث قام الخليفة المأمون بذكائه السياسي من تحويل المعارك المسلحة ضد الشيعة إلى مجادلات فكرية،و هو الأمر الذي أدى به في آخر المطاف للاستنجاد بفلسفة أرسطو التي تحصر الحسن فيما حسنه العقل و الشرع و الجمهور،ما يعني الرفض القاطع للعرفان كمعيار لتقييم الأشياء،و بالتالي رفض التأويل الباطني الذي وظفته الفرق الشيعية.
إنه في الوقت الذي يظن فيه الشيعة بأنهم يأخذون سنتهم عن آل البيت عليهم السلام،تأبى الأبحاث العلمية الرصينة القائمة على مناهج صارمة إلا أن تؤكد "أجنبية" الفكر الشيعي،يقول ماسينيون "إن الغلاة الأوائل من شيعة الكوفة قد اطلعوا على نصوص هرمسية"،و يضيف قائلا "فليس من الغريب أن تكون الشيعة أول من تهرمس في الإسلام"،و في نفس السياق يلح محمد عابد الجابري على أنه "بالفعل حفظت لنا كتب الفرق و المقالات كثيرا من الأطروحات التي قال بها الغلاة و الروافض و التي لا يمكن الشك في هرمسيتها"..
إن التشيع ليس سنة نبوية على نهج آل البيت،بل هو إسلام في قالب هرمسي،فالإسلام في فتوحاته لم "يمسح الطاولة" بالتعبير الديكارتي ،و إنما انطبقت عليه قوله دودس " من النادر جدا أن تقوم بنية جديدة من المعتقدات بمحو البنية السابقة لها محوا تاما"،إن الهرمسية واصلت حياتها في الإسلام في صيغة واحدة هي الفكر الشيعي.
www.adiltahiri.maktoobblog.com http://www.adiltahiri.maktoobblog.com
[email protected] mailto:[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.