دعوة القرءان هو العنوان الذي اختاره المجاهد الاستاذ عبد الكريم غلاب للكتاب الذي جمع فيه المقالات التي تمكن من جمعها من انتاج الشهيد وبمناسبة الذكرى الخمسين، فأخذ جزءا من دراسة كتبها الاستاذ غلاب في كتابه (الماهدون الخالدون). ************* عرفت تحناوت يوم 24 ابريل 1959 القرية الهادئة في حجر الأطلس الشامخ، جريمة لم يرتكبها بنوها، ولا رضيت أن يسيل على ترابها الدم الطاهر لرجل لم تكن ترقى إليه العين في صلاحه وطهارته ونضاله وتضحيته وعلمه. عرفته وأنا بعد طفل أسعى الى الصفوف الأولى في المدرسة الابتدائية فلم تقتحمه عيناي، كان يعلمنا الكلمة والرقم والنظرية، ولكن مع كل كلمة أو رقم يخرج من فيه تسعى الفكرة الوطنية لتتلقفها النفس الطرية، والعقل المتطلع والقلب الواعي، وكأنها وحي ينزل من سماء. كان يعتبر تلاميذه أبناءه فلا يكتفي بالمعلومات يثقف بها عقولهم، ولكنه يعقبها بالتوجيه الخلقي يثقف به نفوسهم، ولا يكتفي بالفكرة الوطنية يشرحها مع درس الجغرافية او التاريخ، وانما يقدم المثل فيما به من نضال. وغاب عنا، فلم نلجأ للسؤال، عرفنا أنه اعتقل فيمن اعتقل من قادة كتلة العمل الوطني وسمعت لأول مرة اسم «ميسور». وسألت فقيل لي انها قرية في الأطلس، وفي سجنها الموحش كان عبد العزيز يقضي المدة التي حكم عليه بها. كنت أحسب انه سيعود ان هو عاد رجلا كسرت همته «الإهانة». السجن كان يحمل معه الإهانة وفقدان الكرامة. عاد بعد عدة اشهر رجلا أدرك الحقيقة... سألناه عن السجن، عن ميسور، عن الغربة والوحشة والعذاب... كانت ابتسامته العذبة أكبر تعبير عن رضى النفس. كما لسانه يعبر عن معنى الانتصار. الانتصار...؟ تساءلت معجبا متعجبا، دخلوا السجن مقهورين، وخرجوا يحدثون عن الانتصار..؟ لعلي لست وحدي الذي بهره الجواب فتساءل . هناك آخرون ممن كان يقترن السجن في تفكيرهم بالإهانة والمحنة والعذاب و «السمعة السيئة»... وكان الجواب بكلماته العذبة المختصة المقنعة: انتصرنا، أولا، على أنفسنا. نحن أيضا كنا نعتبر السجن عالم المجرمين والمهانين وسيئي السمعة. السجن الآن وفي عصر المسخ أصبح يحمل معنى آخر هو «الحرية». الحرية...؟ لاتسألوا. ولكن اسمعوا: حينما يدخل جسمك السجن تخرج نفسك الى عالم الحرية. لأنها تتحرر من السجن الأبدي الذي سكنها وسكنته. أن تناضل، يعني أنك تحررت من الجبن والرضى بالهوان... ان تقول: لا، فتدخل السجن يعني أنك تجرأت فسلكت الطريق الممنوع. أن تدخل بكل كرامتك السجن يعني أنك أخرجت حرية بلادك وكرامتها من سجن كبير فرض عليها بقوة الحديد والنار. أفهمت كيف يتعانق السجن مع الحرية..؟ ما أحسب أن سقراط كان يحاور تلاميذه بمثل هذا الوضوح. وما أحسب أني كنت أفهم عن غيره كما أفهم عنه. ولم يكن يشكك في أننا نفهم. ذكاؤه الخارق كان يضفيه على كل تلاميذه فيحسب أنهم جميعا فهموا، ولم يكن حسن الظن بقدر ما كان واقعي الظن. كنا نفهم عنه، لأنه كان ينطق بالكلمة الصادقة القوية. يختار كلماته المعبرة، القوية التعبير النافذة الدلالة. لا يوارى ولا يلغز ولا يتكتم. تعلم من النضال مهنة التبشير. كان يعلم ويدرس ويناقش ويرأس الاجتماعات، وفي الليل حينما تخلد «عيون» الإدارة الى الراحة كان يخرج من منزله ليطوف على الجماعات والخلايا ينظمها ويسيرها ويبشرها بتطورات العمل الوطني. كانت مدينة فاس جميعها تحت توجيهه، من تلاميذ مدارسها حتى عمال الدباغة والخرازة والصفارين والعطارين... كلهم كان يدين لعبد العزيز بنصيبه من الوعي الوطني. وفي جلبابه الصوفي وتواضعه الجم وحيويته النادرة كان يشع على القرى القريبة والبعيدة من المدينة. لم يكن يختار القرية أو الجهة التي يقصد. المغرب كله بالنسبة لرسالته مكان صالح للدعوة. في الصباح الباكر يقصد الى أي باب من أبواب فاس، وفي كل منها حافلات تنقل الغادين الى القرى، القريبة والبعيدة. كان يركب إحداها لايسألها عن اتجاهها. عند موقفها ينزل فيقصد المسجد او السوق، وفي المسجد إمام ومصلون، وبعد «السلام عليكم» يحيي جاره: تقبل الله.... ثم يبدأ التعارف... ولا يروح مع نفس الحافلة في المساء إلا وقد تكونت خلية أو خليتان من الوطنيين. وتسري جماعات الحزب وخلاياه في المنطقة سريان الفكرة التي بثها عبد العزيز بن ادريس. في السجن كان يجد الراحة الكبرى. سألته وأنا معه في عنبر واحد من سجن «عين قادوس» بفاس. أهي راحة جسم من نصب العمل الذي يأخذ من يومك قدر ما يأخذ من ليلك...؟ لا... ولكنها راحة الضمير. أقيس نجاحنا بعدوان الإدارة علينا. لو لم نكن قد بلغنا رسالتنا لما ضاقت الإدارة بنا فاعتقلتنا. ويبتسم رحمه الله ابتسامته العذبة وهو يضيف: حمق هؤلاء المستعمرون... لايدرون أنهم باعتقالنا يساهمون في نشر رسالتنا. الرسالات العظمى انتشرت وانتصرت بأصدقائها وخصومها على السواء. وإذا كان أنصارنا يتكاثرون فلأن المستعمرين يضيقون بالفكرة الاستقلالية ويناصبونها العداء. والمواطن العادي بتفكيره الفطري السليم يتعلق بما يعاديه هؤلاء الغرباء.... ويودي الرسالة مرة أخرى من جره وحريقه معا فما يكاد يدعو الفرنسيين داعي الانتقام متى يكون عبد العزيز في مقدمة من تمتحنهم. وحينما قدم الحزب وثيقة المطالبة بالاستقلال كان الثلاثة في مقدمة من اعتقلوا من قيادة الحزب في فاس: ويعلق الثلاثة من أرجلهم فيجلدون. هذه المرة دون الباشا ابن البغدادي. فالشرطة العسكرية الفرنسية تضم مئات البغداديين، وإن لم ينتسبوا الى بغداد، حتى إذا خيل إليهم أن المعتقلين أشرفوا على الهلاك فكوا وثاقهم ليستريح الجلاد لا ليستريحوا هم. وانتهت محنة الثلاثة: عبد العزيز والهاشمي الفيلالي وأحمد مكوار دون أن يمسوا بسر مزعوم : العلاقة بين الحزب ورابطة الدفاع عن المغرب في القاهرة. فقد ظنت إدارة الحماية أن مطلب الاستقلال الذي قدمته الرابطة في نفس الوقت كان بتنسيق بين الحزب والرابطة. وأن المنسق كان هو الثالوث الذي يسير الحركة في فاس. ويمتحن عبد العزيز مرة أخري في ثباته، فينتصر على المحنة، وما درت الشرطة العسكرية أن عبد العزيز إذا قال: لا، لن يغيرها بنعم. وكانت شهادة في سجل زميليه: أحمد مكوار والهاشمي الفيلالي. كان يضحك وهو قول لي: علمناكم صغارا ورددتم لنا الجميل كبارا... ويشير إلى أن ما تعملت منه جماعة الرابطة وكلهم كانوا من تلاميذه من العمل من أجل الاستقلال ، عاد عليه بالمحنة، وهو يتهم بعلاقة سرية مع الجماعة في مصر، والوقت يومئذ وقت حرب، لاصلة بين البلدين إلا عن طريق سري. وهل يكون السر في عرف الادارة الفرنسية زمن الحرب إلا عن طريق الاتصال بالعدو. وضاقت الإدارة الفرنسة بعبد العزيز وكيوم يضع مخططه الأخير «للقضاء» على حزب الاستقلال فكان من مخططه أن يقص أجنحة الطير حتى يسهل وضعه في القفص، ولذلك أخذ يعتقل القيادات الاقليمية قبل أن يجهز على القيادة المركزية. اعتقل عبد العزيز مرة أخرى لينفي الى معتقل في أعماق الصحراء، ما يدري أحد أين هو. ويجدها عبد العزيز فرصة لدراسة شيء جديد. كانت دراساته دائما جديدة. حتى كتب التاريخ وكان مغرما بتاريخ المغرب والأندلس كان يلجأ الى الكتب النادرة ليدرسها مع طلبته. في المنفى شعر بأن عليه ان يدرس الأمازيغية. ولم يكن في سجنه المنفى غير أربعة جدران وحراس يتناوبون على حراسته وتقديم قوت يومه. ولا كتاب ولا أنيس ولا سجين غيره يبادله الكلمة والرأي. وكان سجانوه معلمين بمقدار ماكان معلمهم. نفس الأسلوب استعمله معهم فكون الخلية الاستقلالية في القفر المعزول. ومن سجانيه الأمازيغيين تعلم الأمازيغية. ومن أفواههم استنبط نحوها وصرفها. وبالقلم والورق الذي هربوه اليه كتب «اجرومية» الامازيغية». عرفته سنوات الاستقلال القصيرة التي عاشها كما عرفته سنوات الكفاح الطويلة مناضلا في صفوف الحزب، جوّابا في آفاق الوطن، مكافحا في صمت أينما انتدبه الحزب من فاس الى أكادير ، إلى مراكش لم تبطره حرية الاستقلال، ولا أصاب من نعمه المادية. وإنما ظل المثل الذي عرفناه كأستاذ كبير ومسير عادي لخلية من الدباغين والخرازين والدرازين. عاش مناضلا ومات مناضلا.