* بقلم // محمد أديب السلاوي خارج اهتمامات وضوابط المناهج المدرسية للتربية التشكيلية في مغرب الألفية الثالثة، تتحرك الفنون التشكيلية المغربية، بمختلف تعبيراتها وإشكالها وتوجهاتها، داخل ثقافة تتميز بتجاذب هائل بين تراث عريق يمتد إلى عصور ما قبل التاريخ، وبين حداثة تترابط مع فنون الغرب ومدارسه واتجاهاته الإبداعية. إن الباحث/ الناقد/ المؤرخ، وحتى المربي المختص، يلمس بوضوح، أن الفنون التشكيلية المغربية المعاصرة تنسج أشكالها/ رموزها/ اتجاهاتها من مرجعيتين أساسيتين: – فنون المغرب العتيق/ المغرب الإفريقي، الأمازيغي، الإسلامي، في أشكالها الهندسية، وخطوطها ورسوماتها ونحوتها ونقوشها وعمارتها. – وفنون المغرب الحديث، التي تحمل بصمات احتكاك فنونها بالغرب ومدارسه واطروحاته وتوجهاته، الكلاسيكية والحداثية. فبعد قرن من الزمن، من انطلاقتها الحداثية، نجد الحركة التشكيلية المغربية اليوم، تمتد على رقعة واسعة من مشهدنا الثقافي، نجد تاريخ الفن برمته، يتحرك على لوحاته التشكيلية، من البدائية والفطرية، إلى الواقعية الكلاسيكية، ومن الرمزية إلى التجريدية، ومن الوحشية إلى التكعبية، إلى الحروفية والهندسية والتراثية، إلى كل الجذور الجمالية المؤسسة للفن الحديث والمعاصر بكل انساقه ومدركاته البصرية المتعددة، نجد الطرائف والمدارس والاتجاهات تتساكن وتتطاحن، بطرق عشوائية أحيانا وسلمية أحيانا أخرى... إنها حركة متسارعة تحمل الكثير من القلق والجمالية، تنخرط بقوة في الإشكالية الثقافية/ تتجدر في المسار الثقافي للمغرب الحديث، وتبحث عن ذاتها في كل الدروب والمسارات القادرة على تحصين الذات ومنح الشخصية الإبداعية استقلالها وفق حالات مختلفة، يطالها التغريب كما يطالها البحث في الهوية أحيانا، وإلى العبث الفني أحيانا أخرى. إن الفنان المغربي، وبعد أن جرب خلال القرن الماضي، بفضل احتكاكه مع البعثات الغربية ومناهجها المدرسية، واتجاهاتها الثقافية كل أشكال التعبير التشكيلي الحديث، بصيغه الغربية المختلفة، في سبيل التواصل مع الحداثة. ومن أجل إيجاد ذاته/ هويته، نجده في حالة وعيه المتأخر بالإشكاليات الثقافية المترابطة حوله، يعود إلى التراث الماضي، إلى رموزه/ ألوانه/ صيغه/ مفرداته، ينبش في أغواره لعله يجد الذات/ الهوية، التي كادت تضيع من عمله الإبداعي، في زوبعات المدارس والاتجاهات والمذاهب التشكيلية الغربية الغازية، التي هيمنت بقوة على الثقافات الأخرى، ومن ضمنها الثقافة المغربية. هكذا يجد الفنان التشكيلي نفسه في المغرب الراهن، أمام اشكالية صعبة، إذ عليه أن يكون مبدعا حداثيا/ مبدعا معاصرا، وفي ذات الوقت عليه أن يكون فاعلا/ واعيا بهويته الثقافية العريقة في تراث الماضي/ يستقطب النماذج والمعاني الجمالية النبيلة التي أبدعها المخيال الشعبي في العصور الغابرة والتي تشكل الجذور الإبداعية والجمالية لثقافته البصرية المتعددة، وهو ما يجعل ابداعه البصري، يتحرك بوعي، أو بدون وعي داخل ثقافة تتميز بالتجاذب بين التراث والمعاصرة... بين الذات والاغتراب. هذه الإشكالية الغريبة، أدت بعدد من الفنانين المغاربة إلى الاتجاه نحو طرق وأساليب لا علاقة لها أحيانا بالثوابت الأكاديمية، للتوفيق بين التراث والمعاصرة/ لدمج عناصر التراث الإبداعي المغربي وخزانه الرمزي، مع رموز الحداثة الغربية ومدارسها وأطروحاتها الثقافية، وهو ما يبعث بشحنات من القلق لهذه الإشكالية. إن الفنان المغربي اليوم، سواء كان يبدع انطلاقا من تراثه التقليدي، أو انطلاقا من مفاهيم الحداثة الغربية، فإنه لا يستطيع ممارسة فنه/ إبداعه، خارج القاعدة الأوربية المنشأ، أي اللوحة ذات الحامل، وهو ما يعني بوضوح، أن ما ينتجه (هذا الفنان) يستجيب لمفاهيم الفن الحديث بشكله الأوربي، في مدارسه وتأثيراته، ولكنه أصبح يتحول إلى ذاكرة بصرية تعكس أحاسيسه ومشاعره ومخزونه الجمالي. في نظرنا لا يوجد عمل فني بلا جذور/ بلا فكرة، يبرز المنطق الجمالي لمبدعه، ذلك لأن العمل الفني لا يعود فقط إلى عناصره الحرفية/ التقنية/ الفنية، ولكن بالأساس يعود إلى جذوره الثقافية/ إلى هويته.الفن الحديث، الذي ليس له أي تفسير اديولوجي، أو الذي لا يستخدم أي هدف، فإنه يستند دائما على فكرة تستمد قوتها وهويتها من الجذور، من ثقافة الفنان ومفاهيمه الإنسانية والحضارية. والحداثة، حتى وإن كانت نقيض التراث أو ضده... فهي من يرى في التراث على أهميته في التاريخ والثقافة، شيئا غير قابل للاستعمال، ليس لأنه ينتمي إلى الماضي، ولكن لأن صلاحيته في نظر "أنصارها"، انتهت في الزمان والمكان.والحداثة في هذا النوع من الفهم والقراءة التشكيلية، تسعى إلى قطع كل صلة بالماضي، وعدم الالتفات إلى الوراء، أو التطلع بحرية مطلقة إلى الأمام... ومن تمة تصبح الحداثة التشكيلية في المطلق... بحث لا يقوم على مصادر أو اتجاهات، ولكنها تقوم على رؤى تنطلق من الذات... لتبحث في الذات. ففي مثل هذه الظروف يعول على التربية التشكيلية في المدارس... والجامعات، للقيام بدور أساسي وكبير في رفد الإنسان بعالم غني وجديد، شأنه في ذلك شأن الإيديولوجية والسياسة، والثقافة في مفاهيمها الواسعة والشاملة، لذلك نرى، على مناهج التربية التشكيلية الاقتراب من النماذج الإبداعية التي رفضت السعي وراء التقنيات السهلة، والتي جددت ارتباطها بمصادر وموارد الهوية الثقافية المصوغة بالقيم الروحية العربية والإسلامية، في محاولة للاقتراب من عالم الإشارات والرموز والوحدات الهندسية والتقاليد التي ظلت شاهدا على مناعة الهوية التراثية، واستمراريتها. وبمراجعة متأنية للتجارب التشكيلية المغربية، التي تعاملت مع التراث المغربي في تنوعاته المختلفة، سنجد أن الفنان المغربي قد تداخل في وقت مبكر، مع كل أصناف التراث، من الحرف العربي/ الأمازيغي، إلى المعمار الحضري/ القروي/ الصحراوي/ الإفريقي، ومن النقوش التقليدية وفنون الحفر والنقش والنحت، العربية المشرقية إلى فنون الخزف والنسيج، إلى فنون الوشم والفسيفساء والتطريز وغيرها من الآثار المغربية العريقة. إن ما تركته الحضارات والعصور المتعاقبة على الجغرافيا المغربية من آثار ومن ثراء إبداعي، في العمارة والنحت والحرف والفنون، من رقي وتمدن، تجعل المبدع التشكيلي المغربي أمام تراكمات إبداعية، لا تشكل له فقط ذاكرة بصرية تعكس أحاسيس ومشاعر الأجيال المتعاقبة على هذه الأرض، ولكنها أيضا تضعه بأحاسيسه ومشاعره داخل متحف كبير، يزخر بالأوابد والشواهد من كل العصور والعهود الفنيقية والرومانية والبيزنطية والعربية والإسلامية، وهو ما أعطى/ يعطي لهذا المبدع هويته وحضوره الثقافي. لذلك، يرى العديد من النقاد والباحثين، في الشأن الثقافي/ التشكيلي، أن عودة الفنان التشكيلي المغربي إلى تراثه، لم يكن فقط من أجل التعبير عن مكبوتاته الإبداعية، وإنما –أبعد من ذلك- كان من أجل التعبير عن حنينه إلى ماضيه البعيد/ القريب، ومن أجل بحثه عن أسلوب تشكيلي ذاتي، أكثر ارتباطا والتصاقا بهويته، يميزه عن أسلوب المدارس الغربية، إلا أنه في كل ذلك لم يتوصل حتى الآن إلى خلق/ إيجاد فلسفة فنية نابعة من هذا التراث العظيم، ومن جذوره العريقة/ لم يستطع إيجاد خطاب مميز لطروحاته التشكيلية، ولكنه دخل المغامرة، وانخرط في ذاتيته العريقة، وهو ما يجعل تجاربه التشكيلية المرتبطة بالتراث، ارهاصات، لم تتبلور في الكثير من مناحيها، فيما يمكن أن نطلق عليه مدرسة/ أو اتجاها في الحركة التشكيلية المغربية، ولكنها فتحت الباب أمام البحث والاجتهاد الذي من شأنه أن يجعل من هذه المرحلة، مدخلا أساسيا لتاريخ تشكيلي جديد. السؤال هنا، إلى أي حد تستطيع التربية التشكيلية في مغرب الألفية الثالثة، التي تعتبر الفنون التشكيلية، الصورة الأكثر وضوحا للهوية الحضارية، توظيف هذه الإشكالية في مناهجها/ إلى أي حد تستطيع مناهج التربية التشكيلية الاستفادة من وضعية التراث التشكيلي في المغرب الراهن..؟/ إلى أي حد تستطيع مناهج التربية التشكيلية في مدارسنا الثانوية، الاستفادة من الوضعية الراهنة للفنون التشكيلية المغربية، للإسهام في بناء الإنسان المغربي/ لتحقيق الحداثة التي يعتبرها الفنان المعاصر هي الطريق المؤدي لعراقة التراث الإبداعي/ لإغناء الحياة اليومية بعناصر الفن الأصيل/ لمجابهة التيارات الفنية الدخيلة/ وبالتالي لتحقيق قفزة نوعية في بناء حركة تشكيلية مغربية مستقبلية، قائمة على قيم الهوية الوطنية/ وكيف لهذه المناهج أن تقوم على مدركات وقواعد بصرية قوية قادرة على تحصين الهوية الثقافية الوطنية، ومنح الشخصية الإبداعية استقلالها من أجل البحث والتنقيب والتأطير وفق المناهج الأكاديمية الصحيحة. وهل تستطيع مناهج التربية التشكيلية في المغرب، أن تضمن لطلاب التعليم الثانوي التفاعل مع الحركة التشكيلية المغربية بمختلف تجاذباتها واتجاهاتها وانتماءاتها، في غياب كتاب مدرسي خاص بهذه المادة، كتاب يجعل المتعلم أكثر ارتباطا بالمادة التشكيلية، خاصة وأن المجال التشكيلي المغربي، أصبح يتوفر على عديد من القراءات النقدية التي تم انجازها ونشرها على يد كتاب ونقاد ومؤرخين مغاربة وبعضها على درجة هامة من الحرفية. إن هذه الوضعية، تطرح على التربية التشكيلية أسئلة أخرى عليها مسؤولية الإجابة عنها بدقة وموضوعية، بعد بحثها أكاديميا وثقافيا. – في نظر المسؤولين عن هذا القطاع، إلى أين يمضي التجريب التشكيلي بالمغرب ونحن في قلب الألفية الثالثة من تاريخنا الحضاري/ الإنساني. – هل علينا إعادة النظر في تجربتنا التشكيلية؟ – هل يستحق ما راكمناه من أعمال/ من ممارسات التقييم الموضوعي – من هم في نظر أساتذة التربية التشكيلية، رواد تجربتنا التشكيلية المؤسسون والمحدثون، وما هي أنساقها الفنية والإبداعية..؟ – وهل تعكس هذه التجرية أي منظور إبداعي/ فكري في نظرهم – وإلى أي حد تتوافق انساق هذه التجربة وتتفاعل مع تحولاتنا الثقافية/ مع المنجز الجمالي العالمي..؟ – هل حقق الفنانون المغاربة حتى الآن، وبعد مرور حوالي قرن من الزمن على انخراطهم في "فن اللوحة" أي قفزة نوعية من داخل الممارسة، أم أن الأمر مازال يتعلق بتجارب طفولية تستعيد وجودها/ فاعليتها، من خارج الممارسة المحلية..؟ إن الإجابة عن هذه الأسئلة وغيرها من طرف قطاع التربية التشكيلية في المغرب الراهن، يعني أن هذه التربية في مناهج التعليم الثانوي عليها اليوم، أن لا تساهم فقط في تنمية ذوق الأجيال الصاعدة، وحسهم الجمالي الفني، ولكنها أبعد من ذلك، عليها أن تمنحهم القدرة على قراءة وفهم مدلول الصورة باعتبارها أهم وسائل التواصل، إضافة إلى بناء كفاءات المتعلم وتكوينه، ليكون قادرا على الخلق والابتكار... وليكون متشبعا بهويته وقيمه الثقافية والحضارية، مستقلا في اتخاذ وتحديد اختياراته... ولم يحدث ذلك، خارج شروطه الموضوعية... ولن يحدث ذلك ، خارج شروطه الموضوعية. كيف لنا أن نحقق ذلك في مناهجنا للتربية التشكيلية، ذلك هو السؤال الذي علينا الإجابة عنه بموضوعية وشفافية، في هذا الملتقى الذي يضع الفنون التشكيلية المغربية، في موقعها الثقافي والحضاري.