-1- في منتصف القرن الماضي، تفجرت بالشرق العربي حركة إبداعية تشكيلية جديدة / قديمة، تعتمد» الحرف العربي» وحركاته وصياغاته المختلفة، وبعد هزيمة 1967 أطلق على هذا الاتجاه في الحركة التشكيلية العربية : «المدرسة الحروفية» ثم « مدرسة البعد الواحد» خاصة بعدما أصبح العديد من الفنانين العرب يشتغلون عليها بحثا عن الهوية العربية في المنجز البصري الحديث، نظرا لصفته المتميزة، وجماليته وصياغاته التي تتيح للفنان التشكيلي إمكانات كبيرة للتعبير. وقد حاول العديد من الفنانين العرب خلال هذه الفترة (سبعينيات القرن الماضي) أن تندمج «الحروفية العربية» في الحركة التشكيلية العالمية، وأن تعمل على تغذية هذه الحركة بروافد عربية أصيلة، وأن لا تبقى مدرسة معزولة عن باقي الاتجاهات والمدارس الفنية السائدة في الزمن الحضاري الراهن. وقد استطاعت المدرسة الحروفية العربية، أن تؤكد للغة البصرية العالمية، أن وراء الحرف العربي أكثر من صوت وأكثر من معنى وأكثر من لغة، فالحرف العربي الذي لعب في الحضارة العربية الإسلامية دورا تشكيليا وجماليا مازال في الزمن الراهن، يتوفر على موسيقى خاصة، إضافة إلى قيمه الجمالية والصوفية التي تمنح المنجز التشكيلي مقومات تفرده واختلافه وهويته، والتي تطبعه بسحر خاص ليس بمقدور غير العاشقين له من الوصول إلى كنهه. -2- مغربيا ظهرت « المدرسة الحروفية» على الساحة التشكيلية في أفق سبعينيات القرن الماضي، بعدما توسعت هذه المدرسة على جسد الخارطة العربية، وطرحت على الساحة الثقافية العديد من التساؤلات والاستفهامات التي كانت تستمد مشروعيتها من التجارب الحروفية نفسها، وهي تجارب كانت وما تزال تسعى في عملياتها إلى إثبات ذاتها، والى تقديم قراءتها الجديدة لمفاهيم التراث والهوية والتشكيل، وإعادة الشخصية العربية إلى اللوحة العربية بعيدا عن الصيغ التشكيلية الغربية وقوالبها الخاصة، من خلال معطيات تراثية، نابعة من البعد الحضاري العربي ومقوماته الثقافية والفنية، هكذا ظهرت أولى المحاولات الواعية والجادة لهذه المدرسة / الاتجاه / في أعمال الفنانين احمد الشرقاوي / المليحي / السنوسي / الحريري / موسيك / حنين / الصديقي / صدوق / البوكيلي، وغيرهم من الفنانين الذين ارتبطوا خلال تلك الفترة، بالحرف العربي وتشكيلاته، والذين اعتمدت أعمالهم كليا أو جزئيا أو مرحليا على مفردات الثقافة العربية، وعلى تشخيص المنابع التي استقى منها الفن الإسلامي حضوره في الماضي، في محاولة لبلورة القيم الإبداعية التشكيلية لهذه المنابع وتجانسها مع منابع مغايرة وفنون مغايرة. يعني ذلك، أن الأعمال الحروفية المغربية، ظهرت على جدارية الفن التشكيلي المغربي الحديث، من صميم جدلية الثقافة العربية مع مكونات فنونها وجوهر فلسفتها وعمق رؤاها وجمالية تصوراتها، وانطلاقا من صراعاتها وتفاعلها المتواصلين مع المحيط العالمي في عملية التغيير المحتملة. لقد سعى الفنانون الأول الذين انخرطوا في هذه المدرسة / الاتجاه، إلى إبراز رموز الخصوصية العربية، لتأخذ أبعادها ودلالاتها في المسار التشكيلي الوطني، فبلورت على امتداد العقود الماضية توجهات وأفكار ورؤى وقيم الحرف العربي،في سبيل التخلص من عقدة الغرب ومفاهيمه وتقنياته. -3- ونحن اليوم نبتعد بحوالي نصف قرن، عن مولد هذه المدرسة بالمغرب، نجد أمامنا نموذجين متطورين لها مازالا فاعلين متفاعلين على ساحتنا التشكيلية، سنتوقف عندهما قليلا، لملامسة الإطار الموضوعي / التشكيلي والإبداعي لتوجهات هذه المدرسة، على الساحة التشكيلية المغربية. النموذج الأول : ويمثله الفنان إبراهيم حنين، الذي استخدم الحرف العربي خارج دلالاته اللغوية في كتل لونية تملأ الفراغات المحيطة به، ليترك للحرف رصد قدراته التشكيلية والتجدر في طموحاته الإبداعية. وبصفته تشكيليا وخطاطا في نفس الوقت، قطع إبراهيم حنين شوطا كبيرا في الاتجاهين، وهو ما أعطى أعماله تميزها بحالتين وبعدين، لكل واحد منهما قيمته الخاصة. في البداية، كان التعبير بالحرف العربي، لدى الفنان إبراهيم حنين، إفصاح بلاغي عن المعاني، كل حركة، كل جسم، كل إيحاء، هو معنى داخل فضاء اللوحة، وبعد ذلك تتحول هذه اللوحة بضياءها الزخرفي، بألوانها المتشابكة والمتداخلة، إلى فضاء صوفي، يستقطب القيم الروحية للحرف، للهندسة، للتركيب، لتصبح في نهاية المطاف قطعة من نور الحقيقة...أو مجموعة كيانات روحية ملموسة، يمكن أن تحس من خلالها بالملمس وتدرك جماليتها بالرؤية...ولكنها في المعنى الصوفي تسكن البصيرة، قبل أن تصل إلى البصر. في الحقيقة لا يمكن الوصول إلى هذه المرحلة من الإبداع بسهولة ويسر، فالأمر يتطلب إتقان ومعرفة واجتهاد وثقافة وحس صوفي وممارسة روحانية... بل الأمر يتطلب ابعد من ذلك انصهارا وجدانيا في لغة الإشكال وفي تقنينها، وهو ما يعكس عند حنين، تلك المقولة المأثورة : الممكن المستحيل. إن مراجعة متأنية للتراكمات التي أنجزها هذا الفنان خلال العقود الخمسة الماضية، التي تشكل تاريخه الإبداعي، والتي سجلها على جدارية هذا التاريخ بقوة ومثابرة وتحدي أحيانا، تؤكد لنا بما لا يدع مجالا للشك، إن جوهر هذا الفنان اتجه منذ البداية، نحو الحرف المقدس، والى فضائه الصوفي، اتجه نحو خلق عناصر ومكونات الإبداع المتركزة أحيانا على أبعاد فلسفية وثقافية، وأحيانا أخرى على أبعاد دينية خالصة، وهو ما جعل هذه الروح تسيطر على ما أنتجه من أعمال وجداريات وإبداعات. لربما كانت قدرة إبراهيم حنين الخلاقة، في فنون الحرف هي نفسها قدرته في فنون النقش والتركيب والزخرفة التي عكست / تعكس ارتباط رؤيته بالمقدس، وقدرته على تطويع هذه الفنون جميعا لتلتقي في رحاب الحرف العربي، تخضع لإرادته على مدى واسع من الإبداعات المحكومة بالخلود. لقد اكتشف هذا المبدع مبكرا أهمية الحرف العربي وجمالياته وما يملكه من عناصر تشكيلية بلاستيكية / تجريدية، وما يحمله من قدسية تستمد قوتها ومناعتها من قوة القرآن الكريم ومناعته...بالإضافة إلى ما يحمله في أصوله من مفاهيم تصويرية وزخرفية... ولأن الفنان إبراهيم حنين، انخرط منذ البداية في روحانية هذا الحرف، لم يكتف بنقل صورته إلى العين المتلقية، نقلا ميكانيكيا. فانغمس بقوة في جذوره المترابطة حول العقيدة والحضارة والتاريخ، مما أضفى على هذا التعامل الإبداعي شخصية متميزة، تخاطب العقل والوجدان في نفس الآن، تعزف دون تكلف على أوتار تهز المشاعر من جذورها الروحية، وتعطي اللوحة، كما لحروفها وجودا نورانيا مرتبطا بالمقدس في أبعد الحدود. في مسيرته الفنية قطع إبراهيم حنين شوطا كبيرا في صقل لغته التشكيلية، وجعلها طيعة سلسلة وشاعرية، تبوح بانشغالاته وقضاياه. اللوحة تحولها هذه اللغة، إلى سمفونية لونية حيوية الإيقاع، ومعبرة عن المخزون الروحي الكامن في هوية الجماليات البصرية العربية / تؤكد هذه اللغة على الوظيفة الجمالية للحرف، وهو ما يعبر به المبدع عن متنفسه الروحي، ويرفع عمله الإبداعي إلى مستوى المرجعية الحروفية. النموذج الثاني : ويمثله الفنان عبد الله الحريري، الذي انخرط في الحركة التشكيلية المغربية، انطلاقا من إشكالية التوافق بين التراث والتحديث / بين الهوية الذاتية، والهوية الفنية الشاملة. في بداية السبعينات، ظهر اسم الفنان التشكيلي عبد الله الحريري ليحاكي مدرسة الحرف العربي في بغداد والقاهرة ودمشق، وكان هاجس هذه المدرسة يقوم على البحث عن « الهوية». فكان الاتجاه نحو الحرف العربي لا لتجسيد الجمالية التي يتمتع بها هذا الحرف فقط، ولكن أيضا للتعبير عن هويته وأصالته. يقولالحريري عن علاقته بالحرف، إنه ليس خطاطا، ولا يأخذ الكلمة بمفهومها وإنما يستخدم الحروف بنثرها (بحيث لا تظل مقروءة) ويترك للحرف حريته في الفضاء التشكيلي لأنه يتمتع بحركية طبيعية تعبر عن حرية مطلقة ولا ينقد هالته ونوره. ناقد متخصص في أعمال الحريري، يقول : «وجد هذا الفنان نفسه، في بداية حياته الفنية يشتغل باللون الأسود « خيم الأسود على لوحاته ليمحي وليكشف الطريقة المدرسية التي كان بها يشتغل لوحات سوداء خالية من كل شيء إلا من بعض الخطوط البيضاء الدقيقة جدا، إذ جاء السواد ليحجب الشكل، أي ليحجب كل ما هو مرئي، سواد مطلق أو بياض مطلق، ألا يطرح ذلك السؤال حول علاقة العربي المسلم باللامرئي ؟ من هذا السواد المطلق بدأت تبرز علامات إن اقتربت منها خيل إليك أنك ترى حرفا عربيا «. في تقييم غربي لحروفية عبد الله الحريري تبسيط أكثر عمقا لإشكالية التزاوج بين الحرف العربي وتراثه، بين «أصالة» الحرف و»معاصرة» اللوحة التي دفعت بالحريري إلى لون السكون (الأسود)، ولون النار الأحمر، لفترة طويلة من حياته. يقول الناقد الايطالي جوفاني كراندنتي، عن هذه الإشكالية : إن الرسم العربي البعيد عن التصوير، يصبح في النهاية، مثله مثل الخط الكوفي، تمرينا خطيا يتوفر على زخرفة معمارية رائعة، وفن الخط الجميل يساعد كما يقول المثل على تعلم القراءة، فهو إشارة محملة بالايحاءات والدلالات الرمزية، إلا أن الفنان العربي الشاب الذي يجد نفسه اليوم في مفترق الطرق، والذي يعتبر نفسه ممثلا لثقافة العالم الثالث وعليه أن يستجيب لمقتضيات مجتمع تقليدي، يجد نفسه في ذات الوقت يتفاعل مع ثقافة تتبلور من خلال احتكاكها مع الغرب. الحرف عند الفنان الحريري، ذو قيمة وأهمية حتى وإن كان استهامه كعنصر مفصول عن دلالته المعنوية واللغوية، فهو المحور المحرك لجل أعماله، تركيبه بسيط ومباشر، يحضر فيه اللون بقوة، مع الاحتفاظ بالنسب الهندسي للصارم للحظوظ والأشكال التي تملأ فراغ المساحة المحيطة... بمعنى آخر، إنه يستغل الجوانب التشكيلية للحرف العربي من حيث الحركة والتكوين والشكل الذي يميل لقواعد (الخط الفارسي) كتذكير بهوية شكله وتحديد أصوله. وخلال مسيرته الإبداعية، ساهم الحريري، إلى حد بعيد في تعميق بحثه التشكيلي، بتوظيف الحرف العربي، بنزوع تجريدي، مطبوع بإيقاعات هندسية وأشكال جمالية، حيث أتت توظيفات الحرف، كوسيط بصري، يسعى إلى إعطاء معنى بصري واضح وبليغ. استعمل الحريري، لغة جديدة، تطابق اختياراته المبدئية، حول العديد من أعماله إلى ما يشبه النقد الذاتي، الذي يجمع عن قصد الماضي بالحاضر، والتقليد بالحداثة، من أجل تمثيل كل الثقافات من نقطة الصفر، وأعطى بذلك تنظيما بصريا جديدا للتراث ولمنابع استلهامه، وهو ما جعل أعماله لا تستلهم الحرف العربي فقط، ولكنها تواجهه بسلسلة من الاشتقاقات التقنية ذات الارتباط الوثيق بالقيم التشكيلية المغربية، فزاوجت بذلك طواعية الحرف وحميمية الألوان الدافئة والداكنة المعبرة، التي جعلت من «حروفياته» فضاءا بصريا للحوار والتواصل والحميمية. -4- من خلال الأعمال الحروفية لإبراهيم حنين وعبد الله الحريري،»التي اتخذناها في هذا العرض نماذج حروفية مغربية»، نجد أنفسنا أمام تيار إبداعي، لا يعيش معزولا عن باقي الاتجاهات والمدارس السائدة في حياتنا الفنية، تيار هدفه الأسمى، تحقيق هويته الذاتية والقومية في المنجز البصري / هدفه الابتعاد عن الطغيان الهائل للاتجاهات والمدارس والأساليب الغربية وإبراز العناصر التشكيلية للحرف العربي، وهي عناصر قادرة على التجاوب مع الثقافة البصرية وقيمها. السؤال الذي يطرحه هذا الموضوع واسع عريض : هل استطاعت الحروفية العربية عموما، والمغربية خاصة، الوصول إلى أهدافها...؟ هل استطاعت تحقيق هويتها الإبداعية ؟، أم أنها ما زالت تتصارع مع الأساليب والتقنيات والتوجهات والمدارس الغربية من أجل هذه الغاية ؟. إذا ما قمنا باستعراض ما أنتجته الحروفية العربية خلال النصف قرن الأخير، في العمل التشكيلي، بما فيه الفنون التي نفذت بمواد وخامات مختلفة في العمارة والفنون التطبيقية، سنجد أن النصوص التشكيلية في كل مجالاتها، قد لعبت دورا إبداعيا / جماليا / أساسيا، أعطت لهذا الفن موقعه واستقلاليته التي جعلت منه مدرسة على قدر كبير من الأهمية في الفضاء العالمي، بشهادة نقاد الغرب وفنانيه. على هذا الأساس، وبهكذا دوافع نبيلة ومشروعة، تبنى الفنان عبد الله الحريري وزميله إبراهيم حنين، بهاجس إبداعي متفرد، ذلك الشعار الذي يربط « التراث بالمعاصرة، انطلاقا من الحرف العربي، الذي جعلا منه فنا كبيرا ومشرقا في قلب الفنون التشكيلية المغربية، حيث اكتشفنا أن وراء كل حرف عربي، أصوات ومعاني وإشارات إبداعية، وهو ما اكتشفه الخطاطون العرب القدماء الذين آمنوا بالقيم الجمالية والصوفية للخط العربي، حيث جعلوا منه قيمة إبداعية ذات مقومات تفرده، عما كان في الساحة الإبداعية العالمية في الزمن القديم.