حديث الجمعة: مع هنري لاووست في كتابه: "نظريات شيخ الإسلام ابن تيمية في السياسة والاجتماع 19 * بقلم // ذ. محمد السوسي لقد اعتدنا في هذا المدخل الذي نقدم به حديث الجمعة أن نتناول قضية من القضايا، ولكن في بعض الأحيان نورد وجهة نظر شخصية من الشخصيات من خلال نص نرى أنه منسجم مع الموضوع الذي يوجد في صلب الحديث وجريا على هذا الاستثناء فإن حديث اليوم سنفتتحه بنص للشيخ "ابن تيمية" رحمه الله وهو نص لهه ارتباط قوي بموضوع التضامن الإسلامي الذي عالجناه في الحديث السابق وأتممناه في حديث اليوم، والنص يتعلق بموضوع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والنص في مضمونه يشهد بأوضح بيان وأفصح كلام أن الدعوة الى العنف ليس مما يحبذه الرجل بل على العكس من ذلك فهو من دعاة الرفق واللين، والنص مأخوذ من المجلد الثامن والعشرين من فتاوى "ابن تيمية" الذي يتناول فتاويه في الجهاد، ومن مراجعة ما جاء فيه وهو مجلد في حوالي سبعمائة صفحة نجد كم يتجنى الكثيرون على الرجل وهم يتناولون آراءه ومواقفه بقول النص: ولما كان العمل لابد فيه من شيئين: النية والحركة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أصدق الأسماء حارث وهمام) فكل أحد حارث وهمام له عمل ونية، لكن النية المحمودة التي يتقبلها الله ويثيب عليها: أن يراد الله بذلك العمل. والعمل المحمود الصالح، وهو المأمور به، ولهذا كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول في دعائه : "اللهم اجعل عملي كله صالحا، واجعله لوجهك خالصا، ولا تجعل لاحد فيهه شيئا". وإذا كان هذا حد كل عمل صالح: فالآمر بالمعروف والناهي عن المنكر يجب أن يكون هكذا في حق نفسه، ولا يكون عمله صالحا ان لم يكن بعلم وفقه، وكما قال عمر بن عبد العزيز: "من عبد الله بغير علم كان ما يفسد أكثر مما يصلح". وكما في حديث معاد بن جبل رضي الله عنه: (العلم إمام العمل والعمل تابعه)، وهذا ظاهر فان القصد والعمل ان لم يكن بعلم كان جهلا وضلالا واتباعا للهوى كما تقدم، وهذا هو الفرق بين أهل الجاهلية وأهل الإسلام. فلابد من العلم بالمعروف والمنكر والتمييز بينهما . ولابد من العلم بحال المأمور والمنهي ومن الصلاح ان يأتي بالأمر والنهي بالصراط المستقيم، وهو اقرب الطرق إلى حصول المقصود. ولابد في ذلك من الرفق، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما كان الرفق في شيء إلا زانه، ولا كان العنف في شيء إلا شانه)، وقال: (إن الله يحب الرفق في الأمر كله، ويعطي عليه ما لا يعطي على العنف). ولابد أيضا أن يكون حليما صبورا على الأذى ، فإنه لابد أن يحصل له أذى، فان لم يحلم ويصبر كان ما يفسد أكثر مما يصلح، كما قال لقمان لابنه: (وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك، إن ذلك من عزم الأمور)، ولهذا امر الله الرسل – وهم أئمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر –بالصبر، كقوله لخاتم الرسل: بل ذلك مقرون بتبليغ الرسالة فانه أول ما أنزلت عليه سورة (يا أيها المدثر)، بعد أن أنزلت عليه سورة (اقرأ) التي بها نبئ فقال: (يا أيها المدثر، قم فأنذر، وربك فكبر، وثيابك فطهر، والرجز فاهجر، ولا تمنن تستكثر، ولربك فاصبر)، فافتتح آيات الإرسال إلى الخلق إلى الأمر بالنذارة، وختمها بالأمر بالصبر، وقال: (واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا)، وقال تعالى: (واصبر على ما يقولون، واهجرهم هجراً جميلا) ( فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل) (فاصبر لحكم ربك ولا تكن كصاحب الحوت) (واصبر وما صبرك إلا بالله) (واصبر فان الله لا يضيع أجر المحسنين). فلابد من هذه الثلاثة: العلم، والرفق، والصبر. والعلم قبل الأمر والنهي، والرفق معه، والصبر بعده، وإن كان كل من الثلاثة مستصحبا في هذه الأحوال، وهذا كما جاء في الأثر عن بعض السلف ورووه مرفوعا، ذكره القاضي أبو يعلى في المعتمد: (لا يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر إلا من كان فقيها فيما كان يأمر به، رفيقا فيما ينهى عنه، حليما فيما يأمر به، حليما فيما ينهى عنه). وقد رأينا تتميما لهذه الخلاصة في موقف الرجل أن نختم حديث اليوم بنص كذلك لابن تيمية يعتبر في نظري أساس موقفه في كثير من الفتاوى التي يعتمد عليها بعض الناس في تدمير المجتمعات الإسلامية في حين أنها فتاوى خاصة بالتتر ومفاسدهم كما هو واضح في النص في آخر الحديث. اتساع الآفاق كلما توغلنا في دراسة ما كتبه الباحث "لاووست" في متابعة نظريات الشيخ ابن تيمية في السياسة والاجتماع يزداد أمامنا إدراك مدى الآفاق التي كان شيخ الإسلام ابن تيمية ينظر من خلالها إلى أحكام الشريعة الإسلامية، ومدى استجابة هذه الشريعة لمتطلبات الحياة الإنسانية في التلاؤم والانسجام بين الوحي الإلهي وما يريده الإنسان في المعاش والمعاد، وبصفة خاصة علاقات المسلمين بعضهم ببعض وعلاقاتهم بمن يساكنهم من الناس من إتباع الديانات والعقائد الأخرى. الجسد الواحد في الحديث الأخير تناولنا ما كان يسعى إليه ابن تيمية وما بذلة من جهد في توثيق الإخوة والتضامن بين الأمة الإسلامية التي لا يمكن أن ينهض جزء منها دون بقية الأجزاء ومن طبيعة الأحكام الشرعية في هذا المجال انها تزاوج بين الأمر والنهي الأمر بالأخوة والترغيب فيها، والنهي عن الفرقة والترهيب منها، وذلك حتى تكون الأمة كالجسد الواحد كما عبر عن ذلك حديث الرسول عليه السلام وابن تيمية في هذا الصدد استنفذ كل ما يمكن ان يستنفذه من النصوص والأحداث والوقائع التاريخية المدعمة للتضامن والتعاون بين المسلمين. نهاية الصليبيين وقد تمكن الباحث من استقصاء هذه الجهود التي بذلها ابن تيمية فأعطى صورة متكاملة عن هذا السعي الدءوب من لدن الشيخ إخلاصا ونصحا منه للأمة لكي تتعاون على البر والتقوى وتنهي من آفات البغي والإثم والعدوان. وابن تيمية وهو يعالج هذه الحالة استحضر ما كانت عليه الأمة في عهده وما تعانيه من خصومها الذين لم يكونوا صليبيين فقط، فهذا أمرهم كان بصدد النهاية وقد فشلت موجات هجوماتهم موجة بعد موجة. ولكن كان ابن تيمية يواجه ما تواجهه الأمة من هؤلاء الناس الذين اختلط الأمر في شأنهم فهؤلاء (التتر) الذين اكتسحوا العواصم الإسلامية، وأبادوا المسلمين بالملايين واتوا على المكتبات والمؤسسات العلمية ثم ما لبثوا ان أصبحوا وهم يعتبرون أنفسهم مسلمين وجزء من هذه الأمة، يناصرون جزء منها على حساب جزء آخر وبهذا كان المعركة معركة ملتبسة. منهج مختلف فإذا كان الصليبيون بقوا على صلبيتهم فالمهاجمون والمحتلون الجدد أصبحوا وقد التبس الأمر في شأنهم بين المسلمين لأنهم انتسبوا للإسلام اتخذوا من بعض العلماء ومن أرباب بعض المذاهب والفرق الإسلامية شيوخا يستفتونهم فيفتونهم ولم تكن هذه الفتاوى بتلك التي تنسجم مع الكتاب والسنة في نظر ابن تيمية مما استلزم ان تتضافر جهود الأمة لبقاء العقيدة دون أن تشوبها شوائب تعيد ما عرفته بعض الديانات من الانحراف بعدما اعتنقها حكام لم يكونوا من أبنائها الأصليين، ولا من الذين نشأوا على العقيدة التي ينتمي إليها الشيخ رحمه الله، إذ منهج السلف مختلف. نصوص مؤيدة وقد أحسن (لاووست) صنعا عندما ختم الفصل الذي عقده حول دعوة ابن تيمية للتضامن بين المسلمين. بحشد كثير من النصوص والشواهد لفكرة التضامن. يقول "لاووست" ويحدد ابن تيمية فكرته عن التضامن الإسلامي في العبارات التالية: «يروي في الصحيح أن الرسول قال: مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر» «والمؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا» ثم شبك أصابعه. وفي الصحاح أن النبي قال: «والذي نفسي بيده، لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه» ويقول النبي أيضا «المسلم أخو المسلم لا يسلمه ولا يظلمه». السعي النزيه مما لاشك فيه أن الإنسان وهو يقرأ هذه النصوص التي استشهد بها ابن تيمية ونقلها "لاووست" من مختلف كتب الشيخ يشعر ان ابن تيمية كأنه يتوجه إلى الأمة وهي تعاني اليوم من شدة الفرقة بين شعوبها، وتتمزق ألما من التباعد والتباغض الحاصل بين قادتها، ويصبح من الأكيد والحثيث ان ينبعث من بين الأمة من بعيد لهذه الدعوة أصولها وقواعدها ويسعى بين الأمة سعيا خالصا ونزيها من اجل الوحدة والتضامن ونبذ ما يسعى إليه خصومها ومن يكيدون لها من إحياء النعرات المذهبية أو القبلية. في مواجهة التحديات إن الأمة الإسلامية اليوم وهي تواجه منعطفا صعبا وخطيرا في تاريخها تحتاج إلى دعوة قوية تهز مشاعر الأمة، وتستقطب عناصر الخير فيها، لا لمناصرة فئة على فئة ولا لتقوية مذهب على مذهب، ولا شعب على حساب شعب آخر ولكن لتكون الأمة كلها وحدة متراصة أمام التحديات التي تواجهها وليس من اجل الحروب والقتال ولكن من اجل الخبر والتعاون الذي لا يستثني منه الإسلام أي عنصر من العناصر المتساكنة داخل الأمة. المنبع الأصيل لقد كانت فكرة الجامعة الإسلامية النهضوية تغرف وتستقي من هذا المنبع منبع الدعوة الإسلامية الأصيلة للإخوة الإسلامية، لقد كانت المواخاة الفكرة الرائعة والصائبة عقب هجرة الرسول عليه السلام فأدرك الناس أن القبلية التي كانت مستحكمة وأن الحروب التي كانت تعاني منها القبائل العربية وجدت حلها في أن الأمة الإسلامية أمة واحدة، وأن الرب الواحد تعبده هذه الأمة كما أمر وتتعاون كما أمر من اجل الخير والفضيلة. الأفكار المحركة إنها الأفكار التي حركت مشاعر دعاة الإصلاح الاجتماعي والسياسي في بداية القرن وإنها الأفكار التي حركت بها بعض الناس اليوم ليشعوا الفتنة بين الأمة ويسعى الخصوم التاريخيون والعقديون للأمة لكي ينحرفوا بروح لتضامن ويتجهوا به نحو ان تكون الأمة متناحرة ويكون بعضها إلبا على بعض، حتى لا تتوجه بوصلتها نحو البناء والحرية والعدالة والتضامن. ويسترسل "لاووست" في ذكر أسس التضامن لدى ابن تيمية فيقول: وتزخر مثل هذه النصوص في القرآن والسنة. ويتجلى فيها أن الله قد جعل عباده المؤمنين بعضهم أولياء بعض، لأنهم يتعاونون ويتراحمون ويتعاطفون فيما بينهم. لقد أمرهم الله بأن يتساندوا وحرم عليهم الفرقة والانشقاق. فقال لهم «واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا». وقال الله تعالى للنبي عن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيئا «لست منهم في شيء» أما مصيرهم فسوف يقرره الله. كيف إذن بعد هذه الأحكام الصريحة، يجوز لأمة محمد أن تنقسم إلى آراء جد مختلفة، وأن يتعصب رحل لطائفة، ويكره طائفة أخرى بسبب تعصبه لرأيه أو لخصومه لهواه من غير دليل من عند الله؟. أصحاب البدع هكذا يتساءل "لاووست" على لسان ابن تيمية ونساءل جميعا ونحن نتابع ما يجري في المجتمعات الإسلامية ليواصل "لاووست" هذا العرض بقوله: «لقد برأ الله نبيه من أدنى مسؤولية تجاه هؤلاء الناس وهذا هو حال أصحاب البدع مثل الخوارج الذين فارقوا الجماعة. واستحلوا دماء من لا يشاركهم أفكارهم... ولقد أتاحت الخلافات التي وقعت في الأمة بين العلماء والمشايخ والأمراء ووجهاء الناس، لأعداء الجماعة أن ينالوا منها وأن يسيطروا عليها». إهمال الطاعة ولقد نشأت هذه الفرقة لأن المسلمين أهملوا طاعة الله ورسوله، وكما قال الله تعالى: «ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا خطأ مما ذكروا به فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة» وهكذا حين يهجر الناس حظا من الأحكام المنزلة من عند الله تنشأ بينهم العداوة والبغضاء، فإذا انقسمت جماعة من الناس سادت بينهم الفوضى ثم ذهبت ريحهم، أما إذا اجتمعوا واتحدوا، عندئذ يتحقق لهم الرخاء والسؤدد. إن الاتحاد دليل على رحمة الله بينما الفرقة من عقاب الله. كل هذا يرجع إلى كلمة واحدة هي: «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر». دور الفرد إن ابن تيمية الذي اعتمد أصول الشريعة من كتاب وسنة وما يتوافق معهما من أدوات الاجتهاد يخلص من نتائج دعوته إلى التضامن إلى الدور الأساس الذي يجب أن يقوم به الأفراد وأعضاء الجماعة الإسلامية، فهو يتحدث عن الفرد في سياق الجماعة، وكثيرا ما تحدث الاجتماعيون والسياسيون ومن يسعى لفلسفة التاريخ وأحداثه إلى الحديث عن قضية أساس وهي لدى البعض منهم نقطة الارتكاز ومربط الفرس في أحداث التاريخ وتحولاته كلها، وهي هل الفرد أو الجماعة؟ ومن المحرك الأساس في أحداث التاريخ وتطوراته؟ فهناك من يعتبر الفرد مجرد ترسس في آلة وهي المجتمع، والمجتمع هو القائد وهناك من يرى أن الأساس هو الفرد فالأفراد هم الذين تحملوا مسؤولية النهضات والدعوات الإصلاحية سواء كانت تتعلق بالثورات الدينية أو السياسية أو الاجتماعية وكل واحد له من الوقائع ما يستند إليه في دعم وجهة نظره. صراع المناهج ومن هنا كان ابن تيمية حكيما حيث لم تستقطبه نظرية من النظريات أو تستحوذ على منهاجه أي منهج من هذه المناهج التي تتصارع في معترك مناهج البحث وتقويم أحداث التاريخ وتفاعلاته، وذلك لأن ابن تيمية يستقي من معين الكتاب والسنة وهو يتتبع ما قصة القرآن من ردود فعل أقوام بعينهم مع أنبيائهم ورسلهم، وا استخلصه من ذلك هو أن هناك تفاعلا ايجابيا وبناء بين الفرد والجماعة. تفاعل إيجابي وان ابن تيمية يرى أن استقامة المجموع رهن باستقامة أحاد هذا المجموع، فكان للفرد من خلال هذه ما يجب أن يؤخذ بعين الاعتبار في تقييم الأحداث وإيجاد رابط التضامن بين أعضاء الجماعة، فدعا الأمة الإسلامية إلى هذا التماسك والترابط الضروريين لبقاء الجماعة كلها، وفسح المجال أمام أفرادها ليشعر كل واحد بدوره، وبمسؤوليته في إطار الجماعة ولاسيما والجماعة في سياق أحكام الإسلام منوط بها القيام بأعباء الأمانة هذه الأمانة التي تحملها الإنسان فردا و جماعة هي التي توجب تعاضد الجميع وتكاثف أفراد الأمة ومن هنا كان من مستلزمات هذا التضامن إن الأفراد لا يمكن إهمالهم أو إهمال دورهم في هذه الوظيفة النبيلة التي تقوم بها الأمة متضامنة ومتعاونة وهكذا أوصل "لاووست" إلى استنتاج مهم ختم به ما كتبه في فصل دعوة ابن تيمية إلى التضامن بين الأمة يقول "لاووست": سلسلة النتائج «من هنا نشأت سلسلة من النتائج توضح أهمية مفهوم التضامن الجماعي في مذهب ابن تيمية. فهي أولا نتائج اجتماعية، فكل فرد في الأمة الإسلامية له حق الوجود، فإذا كانت إمكانياته الشخصية غير كافية ترتب على ذلك التزام فوري على الجماعة سواء في شكل دولة أو في شكل أفراد، بأن توفر له الإمكانيات المادية اللازمة لحياته. فإذا ترك أي فرد من أفراد المسلمين في حالة العوز، كان هذا خرقا لحقوق الله بحرمانه من أحد عباده». فرق الدرجة والطبيعة أما من الناحية السياسية فليس هناك الا فرق في الدرجة وليس في الطبيعة بين المهام التي يقوم بها أفراد الجماعة. وأخيرا فإن النظام القانوني عند ابن تيمية على درجة كبيرة من اليقظة في نظرته لمفهوم التضامن بحيث يوسع –كما سنرى- الدور المسند إلى ذوي الظروف المتواضعة في المجتمع ويقاوم المشاركة في الجريمة، ويجزل الثواب على المشاركة في عمل جماعي». إن هذه الخلاصة تبين إلى أي مدى كان ابن تيمية يسعى إلى تحقيق التكافل الاجتماعي والتضامن الإنساني، والتعاون على البر والتقوى ومن خرج عن هذا النهج فقد افترى على الرجل ومنهاجه. وأما الأصل الآخر وهو معرفة أحوالهم. فقد علم أن هؤلاء القوم جازوا على الشام في المرة الأولى: عام تسعة وتسعين، وأعطوا الناس الأمان، وقرؤوه على المنبر بدمشق، ومع هذا فقد سبوا من ذراري المسلمين ما يقال إنه مائة ألف أو يزيد عليه، وفعلوا ببيت المقدس، وبجبل الصالحية ونابلس وحمص وداريا، وغير ذلك من القتل والسبي ما لا يعلمه إلا الله، حتى يقال أنهم سبوا من المسلمين قريبا من مائة ألف، وجعلوا يفجرون بخيار نساء المسلمين في المساجد وغيرها، كالمسجد الأقصى والأموي وغيره، وجعلوا الجامع الذي بالعقيبة دكا. وقد شاهدنا عسكر القوم، فرأينا جمهورهم لا يصلون، ولم نر في عسكرهم مؤذنا ولا إماما، وقد اخذوا من أموال المسلمين وذراريهم وخربوا من ديارهم ما لا يعلمه إلا الله. ولم يكن معهم في دولتهم إلا من كان من شر الخلق. إما زنديق منافق لا يعتقد دين الإسلام في الباطن، وإما من هو من شر أهل البدع كالرافضة والجهمية والاتحادية ونحوهم، واما من هو من أفجر الناس وأفسقهم. وهم في بلادهم مع تمكنهم لا يحجون البيت العتيق، وان كان فيهم من يصلي ويصوم فليس الغالب عليهم أقام الصلاة ولا إيتاء الزكاة. وهم يقاتلون على ملك جنكسخان. فمن دخل في طاعتهم جعلوه وليا لهم وان كان كافرا، ومن خرج عن ذلك جعلوه عدوا لهم وان كان من خيار المسلمين. ولا يقاتلون على الإسلام، ولا يضعون الجزية والصغار.