بثت وكالة الأنباء الفرنسية مساء يوم الخميس 22 ديسمبر 2016 تقريرا لها من مدينة حلب السورية جاء فيه: أعلن الجيش السوري مساء الخميس استعادته كامل مدينة حلب، ثاني أهم المدن السورية، في انتصار يعد الأكبر للحكومة السورية على الفصائل المسلحة منذ اندلاع النزاع في 2011. واكد بيان الجيش السوري ان "هذا الانتصار يشكل تحولاً استراتيجيا ومنعطفا هاما في الحرب على الإرهاب من جهة وضربة قاصمة للمشروع الإرهابي وداعميه من جهة أخرى". وأتى الإعلان مباشرة بعد انتهاء عملية إجلاء عشرات الآلاف من المدنيين والمقاتلين من آخر جيب كان تحت سيطرة الفصائل المسلحة في عملية تمت بموجب اتفاق روسي إيراني تركي بعد نحو شهر من هجوم عنيف شنه الجيش السوري على الأحياء الشرقية. بلاد الشام بين الحرب والسلام اما الفصائل المعارضة السورية فرأت في ما يحصل "خسارة كبيرة"، بحسب تعبير ياسر اليوسف عضو المكتب السياسي لحركة نور الدين زنكي، احد الفصائل التي كانت موجودة في مدينة حلب السورية والتي تتمتع بدعم تركي. ورأى اليوسف ان "خسارة حلب بالجغرافيا والسياسة هي خسارة كبيرة، وتعد في ما يتعلق بالثورة منعطفا صعبا على الجميع′′، مؤكدا في الوقت ذاته "لن نتراجع عن مطالب اسقاط نالظام". ومباشرة بعد اعلان الجيش السوري، نزل الآلاف من السكان في مدينة حلب التي لم تعد مقسمة الى الشوارع، واطلقوا العنان لابواق سياراتهم ورفعوا الاعلام السورية والروسية وصور الرئيس بشار الاسد، واطلق البعض الرصاص في الهواء ابتهاجا، وفق ما نقل مراسل فرانس برس في المدينة. وقال عمر حلي، احد المحتفلين لفرانس برس "فرحتنا كبيرة جدا"، مضيفا "لا نحسب الخمس سنوات التي كان الارهابيون فيها هنا من حياتنا، الآن عادت حلب". وعلت ايضا نغمات الاغاني الوطنية التي رقص المحتفلون على انغامها والتقطوا الصور التذكارية عبر هواتفهم الخلوية، ومنهم رنا السالم 29 عاما. وتقول الشابة بمعطفها الاحمر والكحل الذي زين عينيها "ما ان اعلن الانتصار على المسلحين حتى نزل اهالي حلب الى الشوارع. نزلوا ليعيشوا لحظات ينتظرونها منذ خمس سنوات". وردا على سؤال عن شعورها بما يجري حولها، تجيب وعيناها مغرورقتان بالدموع "بعد خمس سنوات تعجز أن تصف مشاعرك". وشكلت مدينة حلب منذ العام 2012 مسرحا لمعارك عنيفة تسببت بمقتل الاف من المدنيين وبدمار هائل في الابنية والبنى التحتية في شرق المدينة. وبتقدم الجيش السوري باتت المدن الخمس الرئيسية في البلاد، دمشق وحلب وحمص وحماة واللاذقية، تحت سلطة الحكومة السورية. وتشكل استعادة حلب تحولا جذريا في مسار الحرب في سوريا وتعد الانتصار الابرز لدمشق وحلفائها الذين قدموا لها منذ بدء النزاع دعما سياسيا ودبلوماسيا وعسكريا وابرزهم روسيا وحزب الله اللبناني. وهي تشكل في المقابل ضربة قاسية بالنسبة الى المعارضة السورية التي سيكون من الصعب ان تعوض خسائرها ميدانياً وسياسياً. كما انها تعد خسارة للدول الداعمة للمعارضة وتحديدا بعض دول الخليج العربي وتركيا ودول الغرب التي رات في المعارضة بديلاً محتملاً للنظام السوري. ويضيف تقرير وكالة الأنباء الفرنسية أنه بهزيمتها في حلب، باتت الفصائل المعارضة تسيطر بشكل رئيسي فقط على محافظة ادلب شمال غرب، ومناطق متفرقة في محافظة حلب وريف دمشق وجنوب البلاد، وهو ما يشكل فقط حوالي 15 في المئة من الأراضي السورية. ويقول الخبير في الشؤون السورية في معهد واشنطن للابحاث فابريس بالانش ان الرئيس السوري بشار الأسد بحاجة الى هذا الانتصار لانه لن يكون رئيساً فعلياً من دون حلب. ويوضح "كان من الصعب عليه تولي زمام الأمور في سوريا مستقبلا من دون ثاني مدنها، وبالتالي بإمكانه من خلال هذا الإنتصار ان يقدم نفسه على أنه رئيس سوريا بكاملها". وتضع استعادة حلب النظام السوري على طريق تحقيق هدفه باستعادة كل المناطق الخارجة عن سيطرة الدولة. ويرى محللون انه بات بإمكانه ان يمسك بمفاتيح مفاوضات السلام المحتملة بعد فشل ثلاث جولات من المحادثات غير المباشرة السنة الحالية باشراف الاممالمتحدة. أسئلة تنتظر أجابة تفاوتت التقديرات بشأن أعداد المسلحين الذين سمح لهم بمغادرة شرق حلب. حسب إحصائيات روسية وتركية غادر في البداية حوالي 2600 مسلح من جبهة النصرة بينهم عشرات المسلحين من دول عربية وخاصة تونس والسعودية ومصر، ثم تبعهم آخرون من تنظيمات مختلفة وكان ضمن كل هؤلاء مئات من الأجانب وجنود وضباط تابعين للقوات الخاصة الأمريكية ولوحدات من الجيش الإسرائيلي وأطراف أخرى لم يتيسر إجلاؤهم بطرق سرية قبل ذلك عبر خطوط الجيش السوري. بلاد الشام بين الحرب والسلام.. تحولات استراتيجية وخيارات صعبة تعثرات عديدة واجهت عمليات الإجلاء لأسباب منها ما تعلق بمن أصطحب المسلحون معهم، حيث تبين أنه كان هناك أسرى وكميات هائلة من الدولارت والذهب وكذلك أتراك بعضهم من ضباط الجيش والإستخبارات. أنقرة تدخلت عبر موسكو لتذليل هذه العقبات، وإذا كانت قد نجحت فإن الكرملين زاد من تحفظه تجاه أنقرة. سيمون باغداساروف، النائب السابق في مجلس النواب الروسي "الدوما"، ومدير مركز دراسة الشرق الأوسط وآسيا الوسطى، أشار في حديث مع صحيفة "فزغلياد" إلى أن موقفي روسيا وتركيا في الواقع "لم يتقاربا". ووصف حادثة اغتيال السفير الروسي في أنقرة بأنها "طعنة أخرى في الظهر". وأشار الخبير إلى أن هدف الأتراك السابق لم يطرأ عليه تغيير، وهو إسقاط بشار الأسد إذا استطاعوا ذلك، وإنشاء "شبه دولة في شمال-غرب سوريا عاصمتها شرق حلب، وكذلك الحيلولة دون إنشاء كيان كردي في الشمال السوري". أما بشأن تصريح وزير الدفاع التركي فكري إشيك، خلال وجوده في موسكو حول "نجاح" عملية حلب، فرآه الخبير "فريدا"، وذلك في حال النظر إلى حقيقة أن التشكيلات العسكرية الموالية لتركيا شاركت في الدفاع عن شرق حلب. وقال إن "الأتراك هم بالذات من نظم الهجوم المعاكس من جهة إدلب وحمص في محاولة لفك الحصار عن شرق حلب، كما قال باغداساروف، الذي فسر هذه التناقضات في الموقف التركي بما سماه "نوعا من الدبلوماسية الشرقية الصافية". وعلى النقيض من باغداساروف، بدا المحللون السياسيون الأتراك أكثر تفاؤلا. وأكد دكتور العلوم التاريخية في جامعة اسطنبول محمد بيرينتشيك، مشيرا إلى تصريح فكري إشيك، أن هناك توافقا الآن بين المصالح الروسية والتركية في سوريا. وعلاوة على ذلك، "ستعمل أنقرة على إصلاح العلاقة مع دمشق، وسترون، سيكون ذلك قريبا"، كما أفاد الخبير التركي. صلة غامضة يوم السبت 24 ديسمبر وبعد أربعة أيام من إجلاء المسلحين من شرق حلب أكدت صحيفة الزمان التركية، نقلاً عن مصادر لم تسمها مقربة من تحقيقات الشرطة الأولية، أن قاتِل السفير الروسى في أنقرة، سافر إلى سوريا في 2015 للقتال في صفوف جبهة النصرة، وبعلم من القيادة والسلطات التركية. وكانت سلطات أنقرة قد أفادت من جانبها كذلك أن مارت مولود ألطنطاش شارك 8 مرات في تشكيلات حماية للرئيس أردوغان خلال نشاطات متعددة له. وأوردت الصحيفة نقلاً عن هذه المصادر أن مارت مولود ألطنطاش كان من "المقاتلين الشرسين في حلب، ضمن جبهة النصرة، وساهم في احتلال أبنية ومواقع في المدينة، وفي العمليات ضد الجيش النظامي السوري". ونقلت الصحيفة أن المحققين يعتقدون اعتمادا على خلفيته النفسية أنه "قتَل عددا من الجنود السوريين، وأن رفاقا له قتلوا أيضا في المعارك، قبل عودته إلى تركيا". مصادر صحفية تركية أفادت كذلك أن من بين من حرصت أنقرة على إجلائهم بسرعة من حلب خبراء مصريون في حرب المدن ينتمون إلى تنظيمات متفرعة عن جماعة الإخوان المصرية وبعضهم قاتل الجيش المصري في سيناء أو ساند جماعات مشابهة في ليبيا. ويشير ملاحظون أنه خلال محادثات موسكو يوم الثلاثاء 20 ديسمبر بين وزراء خارجية روسياوإيران وتركيا لم تخل المفاوضات حول سوريا، من وخزة دبلوماسية من الجانب التركي، حيث طالب مولود جاويش أوغلو نظيره الإيراني الذي كان يجلس إلى جانبه ب "التوقف عن دعم "حزب الله" اللبناني في سوريا، حيث يقاتل إلى جانب دمشق"، وذهب الوزير التركي الى المساواة بين "حزب الله والتنظيمات الإرهابية مثل "داعش" و"جبهة النصرة". وحول هذا الموضوع قال ياكوف كيدمي، المحلل السياسي والرئيس السابق لأحد أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية، إن تصريح مولود جاويش أوغلو، يؤكد وجود تناقضات بين تركيا وإيران.. وأضاف كيدمي إن "حزب الله صرح مرارا بأن وجوده في سوريا مؤقت، وأن نشاطه الرئيس في لبنان، ونحن في إسرائيل بالذات نقف ضد تعزيز "حزب الله" في لبنان، وخاصة على مقربة من حدودنا. إنتقام أمريكي خلال الأيام الأخيرة من معركة شرق حلب سجل الملاحظون أن القوات الأمريكية في العراق والجيش التركي غضا أنظارهما عن تحرك أكثر من 3500 مسلح ينتمون لتنظيم داعش نحو غرب سوريا وقد اعتبر البعض ذلك إنتقاما أمريكيا غير مباشر لهزيمة حلفاء واشنطن في حلب. يوم 23 ديسمبر جاء في تقرير لوكالة فرانس برس: اتاح تركيز القوات الحكومية السورية على معركة استعادة كامل حلب لتنظيم الدولة الاسلامية تسجيل تقدم في مناطق اخرى بما في ذلك في مدينة تدمر الاثرية وقلص فرص انزال الهزيمة قريبا بالجهاديين، وفق خبراء. وقال تشارلز لستر من "معهد الشرق الاوسط" الامريكي للابحاث ان "الوسائل التي زجت بها دمشق وحلفاؤها من اجل استعادة حلب اتاحت لتنظيم الدولة الاسلامية تسجيل سلسلة من الانتصارات الانتهازية" اذ استعاد مدينة تدمر الاثرية في 11 ديسمبر بعد ان خسرها في مارس. بلاد الشام بين الحرب والسلام.. تحولات استراتيجية وخيارات صعبة وكتب جوناثان موتنر من "معهد دراسات الحرب" في واشنطن ان روسيا والقوات السورية "وضعت كل ثقلها في حلب لاخراج المعارضة والفصائل المقاتلة منها وقدمت ذلك على الدفاع عن تدمر امام تنظيم الدولة الاسلامية ما زاد من خطر الجماعات السلفية الجهادية في شمال وشرق سوريا". بين حزب الله وروسيا أفادت مصادر رصد في برلين ساسة إسرائيل يقدرون وبعد إنسحاب الفصائل المسلحة من شرق حلب أن فرص نجاح رهانهم على تمزيق سوريا إلى دويلات قد ضعفت وبالتالي زادت أخطار حزب الله على أمنهم، ومما زاد من خشيتهم التقارب والتواصل الذي سجل خلال الثلث الأخير من شهر ديسمبر 2016 بين حزب الله وموسكو. فقد شهدت مدينة حلب أول لقاء مباشر بين قادة ميدانيين من حزب الله وضباط من الجيش الروسي الموجودين في سوريا. اللقاء جاء بطلب من جانب موسكو وسببه الرسمي حضور حزب الله الكبير في معركة حلب الأخيرة ونجاحه في إفشال هجوم الجماعات المسلحة التي نجحت مؤقتا في رفع الحصار عن شرق حلب، وقد ذكر أن اللقاء سيفضي إلى تواصل دائم عبر القنوات الأمنية في سوريا حسب مصادر رسمية في موسكو. اللقاء حضره ضباط روس كبار، وأثنوا فيه على القدرات الكبيرة التي أبدتها عناصر حزب الله في المعركة وعن تفاجئهم بميزاتهم القتالية والاستعلامية، رغم معرفتهم أنّ التطورات الميدانية السريعة كانت توحي بخسائر متدحرجة بعد الخرق الكبير للفصائل المسلحة. ومنذ الدخول الروسي إلى سوريا آثرت أجهزة حزب الله هناك الابتعاد عن أي تواصل رسمي مع الجانب الروسي، وكان "الاحتكاك" في حده الأقصى مترتبا عن وجود الطرفين في غرفة عمليات سورية كتلك المتعلقة ببعض العمليات في محافظة درعا معركة الشيخ مسكين نموذجا. يومها طلب الروس خطة تحرير المدينة وتفاصيلها العسكرية، وابلغوا مندوب حزب الله أنه تقرر اعتمادها للتدريس في كليات القوات الروسية. لكن تدحرج الأخطار، وخصوصاً في خلال ميدان حلب المفتوح على مصراعيه، ودور الحزب الرئيسي في جوانب عدة متعلقة بالمعركة ومتطلباتها، أفضيا إلى الموافقة على اللقاء الأخير وتأطيره في شكل مختلف عن السابق. هذه القناة المفتوحة حاليا جاءت نتيجة مسألة عملياتية بحتة، ولا تترتب عليها ملفات أو خلافات أساسية في نظرة كل من الطرفين للصراع مع إسرائيل على سبيل المثال. وفي هذا السياق، تجدر الإشارة لما قاله رئيس لجنة الخارجية والأمن التابعة للكنيست الإسرائيلي آفي ديختر بعد زيارته لموسكو خلال ديسمبر بما يوضح خلاف روسيا مع تل أبيب في ما يخص تفاصيل مشاركتها في الحرب السورية. ديختر صرح في مقابلة مع موقع "واللا" العبري بأن "الجانب الروسي يعارض إسرائيل في موقفها من أعدائها، وتحديداً ما يتعلق بحزب الله". وأشار إلى أن "الروس أعربوا له عن تقديرهم لإسرائيل… لكنهم أضافوا أن من ناحيتنا حزب الله ليس منظمة إرهابية، وإيران ليست دولة عدوة، والجانبان إيران وحزب الله شركاء لروسيا في قتالها في سوريا". خسائر الفصائل المسلحة يوم الخميس 22 ديسمبر أعلن وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو إن الضربات الجوية الروسية في سوريا أسفرت عن مقتل 35 ألفا من مقاتلي الفصائل المسلحة ونجحت في وقف سلسلة من الأزمات في الشرق الأوسط. وخلال لقاء لقادة كبار في الجيش الروسي لاستعراض الإنجازات العسكرية لروسيا قال شويغو إن تدخل موسكو منع انهيار الدولة السورية. وخلال اللقاء الذي أقيم في مقر وزارة الدفاع في موسكو صرح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين "نحن الآن أقوى من أي معتد محتمل". بلاد الشام بين الحرب والسلام.. تحولات استراتيجية وخيارات صعبة وذكر شويغو إن الطيران الروسي نفذ 18800 طلعة في سوريا منذ بدء عملية الكرملين هناك في سبتمبر 2015 مما أسفر عن تدمير 775 معسكرا للتدريب و405 مواقع لصناعة الأسلحة إضافة إلى مقتل 35 ألفا من المقاتلين و1500 آلية قتالية كانت بحوزة "الإرهابيين". وأضاف أن الجيش السوري تمكن خلال هذه الفترة من تحرير 12360 كيلومترا مربعا من الأراضي السورية، بما في ذلك استعادة السيطرة على 499 مدينة وبلدة. وأكد شويغو إن "سلسلة الأزمات التي انتشرت في أنحاء الشرق الأوسط وأفريقيا انكسرت"، وقدر ملاحظون أنه كان يشير إلى عملية نشر ما سماه المحافظون الجدد في أمريكا بالفوضى الخلاقة. الحل السياسي في سوريا بعد إنتصار الجيش السوري في شرق حلب تجدد الحديث عن العودة إلى المفاوضات من أجل إنهاء هذه الحرب شبه الدولية على أرض الشام. بعض المراقبين قدروا أن فرص إيجاد تسوية سلمية قد تحسنت في حين رأى أخرون أن المعسكر المناهض لدمشق لم يتخل عن أهدافه ولم يعترف بالهزيمة ولذلك فليس هناك على الأقل في الأمد القريب فرصة للخروج بإتفاق تسوية وإنهاء الحرب. في العاصمة اللبنانيةبيروت التي يجس غالبية المراقبين عبر نبضها حقيقة التطورات في سوريا، صدر تقرير يوم 21 ديسمبر جاء فيه: لم تنته الحرب في سوريا، رغم أن مسار إنهائها وضع على السكة. طرف منتصر يسعى لتثمير انتصاره سياسياً، وطرف مهزوم، يسعى للحدّ من خسائره. هذه هي حقيقة أولى اللقاءات الثلاثية في موسكو، وفي سياقها، بين روسياوإيران وتركيا… والدولة السورية عبر حليفيها. اغتيال السفير الروسي في تركيا، لا يمكن وليس من شأنه، التأثير سلباً في توجه الدولتين لتطبيع العلاقات بينهما. إرادة التطبيع أقوى من أي تداعيات ل"حادثة تكتيكية"، رغم أهميتها. تبعاً لذلك، لا تغيير جدياً متوقع لاستراتيجيتي موسكووأنقرة، وتوجهاتهما حيال المسألة السورية. جاءت عملية الاغتيال في مرحلة حساسة جداً، ويُتوقع لها أن تدفع موسكو أكثر إلى التمسك بمواقفها في سوريا، وهي ستتوقع وستعمل بناء على هذا التوقع، أن تعمد أنقرة إلى تليين مواقفها في المقابل، في الوقت الذي تتجه الإدارة التركية لسلوك مرحلة "التليين القصري" لهذه المواقف بعد تقلص آمالها في الساحة السورية، وتحديداً في أعقاب قصور اليد التركية على تغيير مسارات الحرب. لقاء موسكو بين وزراء خارجية ودفاع روسياوإيران وتركيا، يعدّ أهم حدث سياسي في مرحلة ما بعد استعادة الدولة السورية وحلفائها مدينة حلب. هي خطوة أولى باتجاه سحب إقرار من الطرف الآخر بالنتائج السياسية للانتصار الميداني. السؤالان المترابطان في سياق لقائي موسكو هما الآتيان: هل وصلت أنقرة إلى الحد الذي تقرّ به بخسارة الحرب ووفقاً لذلك ستقلص آمالها وتطلعاتها في الساحة السورية؟ أم أنها لا تريد أو لا تقوى على التعايش مع النتائج المقدرة سياسياً للحرب الميدانية، وستواصل مساعيها الهادفة إلى تخريب أو تأجيل الانتصار المتبلور؟ الوقائع الحالية والمقدرة لاحقاً، تشير إلى أن نتائج الحرب الميدانية بات بالإمكان تقديرها، وهي مسألة وقت لا أكثر. في الساحة السورية، ميدانياً، يوجد شبه منتصر وشبه مهزوم، بلا ضرورة كي يعلن أحد الانتصار الكامل أو الإقرار بالهزيمة الكاملة. المفاوضات السياسية في هذه المرحلة، وبناء على هذا الواقع، هي التي تقرر حدود التثمير السياسي للواقع الميداني المحقق حالياً، أو ذاك الذي بات بالمقدور تحقيقه لاحقاً: ماذا بإمكان الدولة السورية الحاضرة بالوكالة بمعية حليفيها في لقاءات موسكو، سحبه من تركيا بعد أن كادت تكون وحيدة في الميدان؟ وفي المقابل، ماذا بإمكان تركيا أن تقوم به، سياسياً، للحد من الانكسار؟. مستوى الانتصار… والهزيمة ولكي تتبلور المعطيات، التي تمكن استشراف المآل السياسي في سوريا، من المفيد التذكير والإشارة إلى عوامل القوة والضعف، في موقف الأطراف: خرجت وأخرجت الدول الخليجية الداعمة للجماعات المسلحة في سوريا. الفشل الذي منيت به ميدانياً، أخرجها بشكل مذل. لم يعد لهذه الدول تأثير مباشر على المجريات الميدانية، وبالتالي السياسية. نعم قد تكون حافظت على كونها قوى رديفة من ناحية إعلامية، وهي حرب تقودها بلا هوادة وما زالت مستمرة في زمن انكسارها الفعلي، ولا يقدر لها أن تنتهي قريباً. هذه الدول، من ناحية عملية، لم تعد ذات وزن في المعادلات. خرجت أيضاً، الإدارة الأمريكية الحالية وأخرجت بعد فشل، رغم كل المحاولات التي قامت بها ضد الدولة السورية وحلفائها. نعم، جهدت الإدارة الأمريكية الحالية للانتصار في هذه الحرب، لكن منعة ومثابرة وموقف الطرف الآخر أحبط جهودها، فآثرت التراجع بعد أن وضعت أمام خيار لا تريده، وربما لا تقوى عليه: التدخل العسكري المباشر الواسع، بعد فشل كل الخيارات البديلة الأخرى. الحديث عن أن أمريكا تراجعت لأن الإدارة تجبن في الصعاب وامام التحديات، هو حديث تسفيهي للواقع والوقائع التي واكبت الحرب السورية، فالتراجع الأمريكي ليس نتيجة رؤية لدى إدارة، اكثر من كونه تراجع دولة وإمبراطورية لم تعد قادرة على خوض خيارات متطرفة. في السياق نفسه، ثبت أن الجماعات المسلحة على اختلافها، غير قادرة على تحقيق المهمة. هذه الجماعات هي الخاسر الأكبر، وعليها وعلى أنقاضها، ستبنى التسوية السياسية كيفما اتجهت.. أقصى ما يمكن وفي حده الأدنى على السواء، سيكون على حساب هذه الجماعات. حان الآن موعد اجتثاثها بعدما أخفقت في تحقيق الوظيفة المسندة إليها، وكان في الأساس سيحين حصادها بعد ان تنهي وظيفتها، إن هي نجحت. فشل الإدارة الأمركيية في سوريا، والإعلان غير المباشر عن هذا الفشل على لسان الرئيس الأمريكي الحالي، باراك أوباما، يأتي في موازاة وسياق استعادة حلب وتداعياتها على الميدان السوري، ومن شأنه أن يلقي بظلال ثقيلة جداً على الإدارة الأمريكية المقبلة. التقدير، ما قبل حلب، ان تعمد إدارة الرئيس دونالد ترامب الى ما يشبه التملص من وعوده الانتخابية في سوريا، عبر طلب أثمان تراجعه فيها، لكن من شأن الواقع الميداني في مرحلة ما بعد حلب ان تدفع ترامب الى التمسك أكثر بمواقفه الانتخابية، بمعنى التراجع ضمن تسوية ما، بإمكان الدولة السورية تحمل كلفتها. ضمن هذه المعطيات، تبقى الدولة التركية شبه وحيدة في الميدان، مع التشديد على شبه وحيدة. مخالب خطرة لكن ذلك لا يعني ان الأطراف الداعمة للجماعات المسلحة ومعها إسرائيل بلا مخالب.. الوجود العسكري التركي المباشر في الأرض السورية الذي لا يمكن تجاهل تأثيره، وقدراتها اللوجستية الفعلية على إطالة وتأجيل الانتصار العسكري عبر الجماعات المسلحة في الشمال السوري، يمكنها من الجلوس على طاولة المفاوضات مع أوراق، قد تراها معتبرة، وهي كذلك، لتحقيق حد أدنى من مصالحها في سوريا، وإن لم تكن في حجم ومستوى المصالح الواسعة التي كانت محددة في الماضي، التي وصلت الى حد التطلع لإسقاط الدولة السورية والامساك بها وتفتيتها. في هذا الاطار يشار الى جملة من المصالح التركية في سوريا، تتقاطع مع مصلحة الدولة السورية وبالتبعية مع حلفائها أيضاً.. كما هو الحال مع التطلعات الكردية في سوريا، وهي مصالح تعد من ناحية انقرة محققة مهما كانت نتيجة التسوية، لأنها لا تتعارض بل تتوافق مع مصلحة خصومها واعدائها في الميدان. تطلع انقرة سيتجه نحو دائرة أوسع من دائرة التقاطع في المصالح، فهل أوراقها تسمح لها بفرض توسيع هذه الدائرة؟ في الخلاصة، الحرب السورية لم تنته، وإن كانت سكة الحل موجودة ووضعت خياراتها وفرضياتها عليها، وبما يتوافق الى حد كبير مع مواقف الدولة السورية. مع ذلك، المسار طويل الى حين اعلان الانتصار وتثبيته، رغم ان المسار واضح بالإجمال. في المقابل، الطرف المقابل خسر ولم يتنازل حتى الآن، وإن تراجع فلأنه مضطر للتراجع لا اكثر، وهو معني بتأخير اعلان الانتصار وتأخير تثبيته، وسيسعى في سياق وموازاة ذلك لتحقيق اكبر قدر من المصالح، بمعنى الحد من الخسائر قياساً بالمكاسب التي كانت في متناول اليد في مراحل سابقة. بين هذا وذاك، ستدار المفاوضات السياسية الفعلية بين الأطراف، وأولها، اللقاءان السياسي والعسكري في موسكو، وذلك بانتظار الإدارة الأمريكية المقبلة، التي إن تمسكت بمواقف ترامب الانتخابية، لتعذر البدائل امامها، فستوضع الحرب على سكة انهائها. غموض نوايا ترامب رغم الكثير من تصريحاته العلنية الخارجة عن سياقات ومسلمات عديدة في واشنطن، فإن نوايا الرئيس الأمريكي ترامب غامضة إلى حد كبير رغم أن الأهداف الإستراتيجية لواشنطن لا تتبدل في العادة مع تغيير الرؤساء. الأمر الأساسي في منطقة الشرق الأوسط هو شكل العلاقة بين واشنطنوطهران وكذلك مع دول الخليج وعملية التسوية في فلسطين. عدد من المحللين يقولون أن الحقيقة في تصريحات ترامب المعادية لطهران هي أنه غير راض عن الحصة التي أعطاها سلفه أوباما لإيران فيما يخص تقاسم النفوذ في منطقة الخليج وأنه يريد تقليص هذه الحصة ولكن الإحتفاظ لها بدورها الأمني المساند للأهداف الأمريكية. جاء في تقرير نشرته هيئة الإذاعة البريطانية يوم 25 ديسمبر: "نهج الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب تجاه الصراع في سوريا ينطوي على مواقف متناقضة محيرة، ويبدو أن موقفه الأخير، الداعي لإنشاء منطقة آمنة في سوريا،جاء نتاج محادثاته الأخيرة مع مرشحين لمنصب وزير الخارجية التقاهم مؤخرا. لكن جميع بياناته تحمل في طياتها لغزا كامنا، فهناك وجهتا نظر متناقضتان سيكون من الصعب الجمع بينهما في سوريا، رغبته المعلنة في التعامل مع روسيا أو على الأقل إرضاء الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وجهوده المتوقعة لاحتواء إيران. وبالإضافة إلى التساؤل حول إذا ما كان ترامب سيحاول تمزيق الاتفاق النووي، هناك أيضا قضية قوة إيران الصاعدة في المنطقة. لم يخف ترامب إعجابه بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين ورغبته في العمل معه، وذلك أثناء حملته الانتخابية للرئاسة الأمريكية التي فاز بها. لكنه اختار ثلاث شخصيات في إدارته الجديدة مهيئين على ما يبدو لخوض صراع ضد إيران، وهم الجنرال مايكل فلاين مستشارا للأمن القومي، وجيمس ماتيس وزيرا للدفاع، ومايك بومبيو مديرا لوكالة المخابرات المركزية. وترى راندا سليم، المحللة السياسية في معهد الشرق الأوسط بواشنطن، بعدم وجود أية مؤشرات من أي من المحيطين بترامب على أن لديهم صيغة تتيح لترامب توفيق هذين الموقفين المتناقضين تماما في سوريا. وقالت "يمكن لترامب التفاوض مع روسيا لكن إذا لم يكن مستعدا للقبول بصيغة تسمح للأسد بالبقاء في السلطة فسيكون من الصعب التعامل مع الإيرانيين". ويحتاج الرئيس المنتخب عقد صفقة تحظى بقبول المملكة العربية السعودية ودول الخليج الأخرى المنخرطة هي الأخرى في الصراع السوري. وشهد الأسبوع الماضي ولأول مرة دعوة ترامب بإقامة مناطق آمنة في سوريا. وقال ترامب أثناء مؤتمر في ولاية فلوريدا "سوف نحاول تسوية ذلك وسوف نحاول مساعدة الناس، وسوف ننشئ مناطق آمنة، وسنطلب من دول الخليج أن تمول إنشاء تلك المناطق". وتسبب هذا الإعلان في خلاف بينه وبين روسيافموسكو لا ترغب في انشاء تلك المناطق الآمنة، إذ أن ذلك قد يساعد المعارضة المسلحة على إنشاء مناطق خاصة بها لتجميع قواها والاستمرار في القتال ضد الأسد. وركز ترامب، إبان حملته الانتخابية، على القتال ضد تنظيم داعش وأشار في الوقت ذاته إلى رغبته في التوقف عن دعم المعارضة السورية. وهو ما قوبل بترحاب من الرئيس السوري بشار الأسد فور إعلان فوز ترامب بالانتخابات. وقال الأسد لتليفزيون برتغالي في 9 نوفمبر، "لو أن ترامب سيحارب الإرهابيين، بالطبع سوف نكون حلفاء، طبيعيا سنتحالف في هذا الصدد مع الروس والإيرانيين والعديد من الدول الأخرى". اختيار ترامب للثلاثي الهام في إدارته في وزارة الدفاع والأمن القومي والمخابرات طمأن حلفاء أمريكا في الخليج العربي، الذين شعروا أن حرص الرئيس المنتهية ولايته باراك أوباما على توقيع اتفاق نووي مع إيران جاء على حسابهم ومنح طهران المزيد من الجرأة ونصبها شرطيا للخليج كما كان الأمر خلال حكم الشاه.