من المنتظر أن تنطلق جولة جديدة من الحوار الاجتماعي خلال الشهر المقبل بهدف تعميق النظر في المقترحات التي تقدمت بها الحكومة خلال الأيام الأخيرة ومناقشة مطالب المركزيات النقابية بغية إيجاد الحلول الملائمة لها . ومن البديهي ألا تحسم هذه الجولة في جميع القضايا ، حيث يمكن مواصلة الاشتغال على الملفات العالقة في إطار لجان خاصة .. إن جولات الحوار الاجتماعي بين الحكومة ومختلف الفاعلين يجب أن تضع في مقدمة اهتماماتها إعداد استراتيجية مشتركة لحل مختلف الخلافات ذات الطابع الاقتصادي والاجتماعي، ومناقشة جميع المحاور ذات الأولوية، حيث يبقى التشاور المستمر بين الفرقاء الاقتصاديين والاجتماعيين مهما للغاية ، بهدف الوصول إلى تحقيق شراكة حقيقية تأخذ بعين الاعتبار ضمان التوازن بين حاجيات ومتطلبات الشغيلة والضرورات الاقتصادية والمالية للمقاولة والحكومة . لقد ترسخ الاقتناع بأن النقابات فاعل مهم في العملية الإنتاجية و شريك أساسي للحكومة وأرباب المقاولات في رسم خريطة الطريق التي توفر الظروف الملائمة لعمل الشغيلة وتحسين أوضاعها الاجتماعية وتحفيزها على بلوغ الجودة والفعالية وبالتالي المساهمة في تحقيق التنمية الشاملة . وقد شكلت المقترحات الأخيرة التي تقدم بها الوزير الأول للنقابات إشارة قوية لضرورة الانتباه إلى العناية بالأوضاع الاجتماعية للشغيلة وتوفير شروط الاستقرار الاجتماعي والإقلاع الاقتصادي التي تعتبر من أولوليات الحكومة ، وهي مهام لن يتم إنجازها إلا عن طريق مأسسة الحوار عبر تنظيم جولات متلاحقة ترتكز على تشخيص دقيق للأوضاع العامة للبلاد ، وتجنب ردود الفعل الطارئة ، وتجاوز ثغرات ونقائص الماضي ،وتوضيح منهجية وآليات الاشتغال وتحديد الأهداف والغايات المنشودة .. ويأتي هذا التوجه نتيجة الحركية الجديدة التي يعرفها المجتمع المغربي المتسمة بانتقال أطراف الإنتاج في المغرب من علاقات الاصطدام والمجابهة ، إلى علاقات التفاوض والحوار من أجل معالجة القضايا المطروحة ورعاية المصالح المشتركة لأطراف الإنتاج ، باعتبار أن الحوار الاجتماعي أداة مهمة لتحريك وتنشيط الحياة الاقتصادية ، وتوفير المناخ الملائم لتطوير الإنتاج، وتمكين المقاولات من مواجهة التحديات الاقتصادية التي تفرضها العولمة والتنافسية الاقتصادية ، وباعتباره وسيلة لتقوية وتعزيز مكتسبات الشغيلة على مستوى حماية الحقوق والحريات النقابية وتحديث التشريعات الوطنية و تشجيع الاستثمار توفير فرص الشغل .. ويبدوأن المنهجية الجديدة تنسجم مع توجهات الحكومة التي تؤكد أنها تركز على إيلاء عناية خاصة للبعد الاجتماعي في التنمية ونهج أسلوب الحوار، واتخاذ كل الإجراءات الهادفة الى إنعاش التشغيل والرقي بالاقتصاد الوطني وضمان التوزيع العادل للثروة الوطنية؛ وهي التوجهات التي تم التأكيد عليها في التصريح الحكومي ، وتمت بلورتها في القانونين الماليين لسنتي 2008 و2009 ، وفي إطلاق مسلسل الحوار الاجتماعي ومأسسته بغية الانتقال به إلى مرحلة متقدمة . ولا شك أن هذه التوجهات تعتبر الأرضية المناسبة لالتزام الحكومة والمركزيات النقابية والاتحاد العام لمقاولات المغرب بسلم اجتماعية كمسؤولية مشتركة وعامل حاسم في تأهيل الاقتصاد الوطني لمواجهة مختلف التحديات وخوض غمار المنافسة. ومن المؤكد أن هذه المسؤولية تستحضر الظرفية التي تمر منها بلادنا والمرتبطة أساسا بالأزمة الاقتصادية العالمية والتحولات التي يعرفها العالم على الصعيدين الاقتصادي والاجتماعي ، هذه الظرفية التي تفرض على الأطراف الثلاثة التحلي بروح عالية من التضامن والوعي بضرورة الانخراط الكامل في المجهود الهادف إلى النهوض بالعالم القروي ورفع المعاناة عن المواطنين في البوادي والمناطق المهمشة من خلال إنجاز مشاريع استثمارية مهيكلة ، وضمان احترام الحريات والحقوق و معالجة النزاعات الاجتماعية بهدف تصفية الأجواء في الساحة الاجتماعية، عبر تفعيل مختلف آليات الحوار والتفاوض الجماعي لفض نزاعات الشغل ، واتخاذ كل التدابير لتشجيع الاستثمار في القطاعات المنتجة لمناصب الشغل، وإيلاء الدعم والمتابعة اللازمين لبرنامج التشغيل الذاتي ؛ وتعزيز برامج التكوين الاندماجي والتأهيلي ، وتحسين القدرة الشرائية لفئات المأجورين ، دون إغفال تحقيق التراضي والتوافق حول تطبيق مقتضيات مدونة الشغل والاهتمام بقضايا السكن والتغطية الصحية و الحماية الاجتماعية ومواصلة إصلاح نظام التقاعد في القطاعين العام و الخاص.. والواقع أن دور النقابات المهنية لا يقتصر على النضال من أجل تحقيق مطالب الشغيلة التي تمثلها بل قد تسعى إلى لعب دور أساسي في اتجاه القيام بالمزيد من الاصلاحات السياسية ، ودمقرطة المؤسسات واحترام حقوق الإنسان، ودعم مختلف القضايا العادلة، وتوفير شروط السلم والاستقرار الاجتماعيين ،وبشكل عام المساهمة الفعلية في بناء المجتمع الديمقراطي.