فؤاد اليزيد السني، يعد من الشعراء الذين أسسوا حداثة القصيدة المغربية في الثمانينات. و لسوء حظنا، نحن المتتبعين لمنشوراته الثقافية في جل الميادين، أنه لم يجمع قصائده، تلك التي نشرت في صحف عربية مختلفة، في ديوان موحد. و مما يحيرنا في هذا الاختيار لكاتبنا المفضل، و هو أنه قد أصدر من ناحية أخرى، ديوانا باللغة الفرنسية، بالإضافة إلى رواية باللغة العربية و سلسلة مقررات لغوية، " لغة و نحو" لتعلم اللغة العربية، لغير الناطقين بها. بل ضف عليها، عدة مقالات أدبية و سياسية. إلا أنه، ما يَهمّنا في هذه الأثناء، هذه القصائد "المُدُنِيّة"، التي يعد شاعرنا من أوائل الشعراء المغاربة المؤسّسين لها. و هذه الرؤية الشاعرية تكمن في سر طفولة الشاعر الذي قال بنفسه عنها :" إن شاعريتي هذه التي أسستها على ذاكرة المدن، هي بالنسبة لي مجموعة هذه الطبقات "الأركيولوجية" أي الحفرية التي تربط حاضري بكل تواريخ المخلوقات الكونية ." فمن "طنجة" إلى "العرائش". و منها مرورا "بأصيلة" إلى آخر مدن المعمورة، يقودنا شاعرنا فؤاد اليزيد، نحو مجاهل و مفاتن تاريخية عبر مفردات قد تعد في حد ذاتها عتيقة . إلا أنها في سياقها اللفظي الجديد تبدو حديثة المعاني، فاتنة بروعة إيقاعها على شؤون الروح. و مما وقفنا عليه أخيرا، أن شاعرنا ينحت ألفاظه كنحات متمرس. و يصقلها كجوهري متمكن، و ينفث من روعه فيها كفيلسوف مجرب. و نسوق من الديوان بضعة مقاطع نموذجية متفرقة. فعن طنجة مثلا: إِنْ كان في كُلّ أَرض، ما تُشَاُن و تُزانُ بِه، فَإِنّ "بِطَنجة" العُمْقُ و الرّيحُ. و بِها زُرْقَةُ الرّيحانِ، و أُسطورَةُ الأُنس البَلَدي.
* * *
يَأْتيكَ النّسيمُ بِغَرام الشّمال، و طيبُ العَذارى يُلاعِبه، و البَحرُ الغجَريّ من وراءِ التّلال، يُرَقّصُ خُيولَ مَوجِه صُوَرًا، أشْهى رُضابا، من لَمى سُعاد، و تَمَنُّع لَيلى، و فِتْنَة أبي لَهَب.
و عن العرائش التي ينتشلها من واقع غارق في الأسطورة العرائشية: في "العَرائِِشِِ" المسْكونَةِ بِرَوْعَةِ بَحْرِ الظُّلُماتِ، وَ بِأَشْرِعَةِ ضَبابِ عُصور الفِتنَة، تُعَرِّسُ بقايا تَواريخٍَ مَهجورَةٍ، على أَنْقاضِ قُصورٍ كانَتْها ..! زَمَنَ مَنْصورٍ و عبد رحمان و مُعتمَِد، صواريّ مُذَهّبة بِحبر الحِكاياتِ، على زمَن، كانت قُشوره .. كما لُبّه عَرَبُ. * * * أُُناديها "العَرائِشُ" و أَخُصُّكِ أَنْتِ أَنْتِِ المَسْكونَة بِحجارَةِ الإسْلام، و بِمَقصورات الحُزْنُ الأَبدي، و بِمخطوطات دُموعُ العَربِ. كَيْف كُنتِ..؟ و ها كيف صِرتِ ..! تَحتَ أَضواءِ أَعْمِدَة "الّلكسوس"، حِجارَة روميّة مَضَغتها العِبارة، فِضّة حُبّ في عُيون المَتاهَة، سَقَفاٍ رديئاٍ في دار البَسوس، و حَماسةِ كَلامِ مَمْنوعِ مِن دَهْشَة النُّبًوّة، و قَد أَسْدَلَ القَدَرُ عَليك مِن بقايا الأنين، هكذا مجَّانا لِمَن عَشِقَ حُزْنَ تِشرين، و لِمَن عَشِقَ مَوْسِمَ هِجْرَة المَراكِبَ، و افْتَتَنَ برأسه المَغْرِبيّ المِسْكين و باعَ إِنْسانَه المَجْذوب مَجّانا، في أَسْواق بَيّاعي المَفاتِن.
و كذلك "أصيلة"، فهي الأخرى لها أسطورتها و لها تاريخها و ثقلها الساحر: أصيلة نَبِيّة ..! بَقايا خُرافَةٍ عَرَبِيّة، تَحوكُ مِن أَسْلاكِ المَوْجِ و حرير المناديل، و مِن ذَهَبِ الشُّموسِ المُكَوّرَةِ عَشِيّة، لِلشُّعَراء المَغْضوب عَلَيْهم و لِلنّدْمان الشَقِيّة، أَرائِكَ مُنَعّمة و خَوابِيَ صَبِيّة، و اَقْفاصا ذَكِيّة لِأَبناء البلية.
-4- أصيلة خَبيلَة، هَبيلَة مِن قَبيلَةِ التّيه، تَصيحُ مِن خَلْفِ صور البَحر، و جِنُّ الإلهام قابضَة على مِعْصَمَيْها، و عَرّافُها الأَعْمى يَدُقّ أَجراس المُحيط، واقِف على جَبَل البَحْر يُنادي فيها، وفي الملإ المَذْهولِ بِالأطلال المُغيرة، و شِيَعَ رهبان مَدسوسين في ثياب الوَليد، و شُعَراءَ بَكّائين مِن شِدّة الغيرَة، - أَيّها المُسافِر بَيْنَ عَيْنَيْها ..! إِيّاكَ ثم إِيّاك أَنْ تُناديه الغَريب، أَنْ تُحاوِل العُبور مِن سَنَم النّاقة، أَو أَن تَأْكُلَ الطّيرُ الأَبابيل من مُقْلَتَيكا. لقد كنا نود أن نسوق دراسة مكتملة عن الديوان، الشيء الذي أرجأناه لدراسة، هي قيد التحقيق. و نكتفي بهذه التغطية التي نعتبرها كمقدمة لها دلالتها الأدبية الخاصة على التجربة الشعرية عند الشاعر فؤاد اليزيد السني.