إنتشر فن الرينجا خلال القرن الخامس عشر في اليابان وهو عبارة عن قصائد يكتب كل قصيدة فيها عدد من المؤلفين بشكل جماعي بالتناوب، حيث يضيف كل شاعر أبياتاً شعرية مكونة من سبعة عشر مقطعاً لفظياً (5- 7- 5) أو أربعة عشر مقطعاً لفظياً (7- 7) حتى تنتخب قصيدة تتكون من مائة بيت شعري؛ أما عن جو القصيدة فكان كلاسيكياً يستلهم الجماليات القوطية. في القرن السادس عشر ساد نمط الهايكاي الكوميدي، وهو شعر هزلي يطلق عليه إسم ( هايكاي – رينجا) لأنها مثل الرينجا تتكون من 17 أو 14 مقطعاً لفظياً، لكنه أشبه بالشعر الحلمنتيشي يتناول نكاتاً عامة عصرية واللعب بالألفاظ، ثم انفصل عنهم شعراء الهوكو، وهو البيت الأول من الهايكاي – رينجا ويتكون من سبعة عشر مقطعاً يسمى الكيجو (أي أن يكون البيت الأول يصف أحد فصول الطبيعة كما كانت أشعار الجاهلية عن العرب أياً كان موضوعها لابد وأن تبدأ بوصف الطبيعة). باشو ماتشويو هو أعظم من كتب الهوكي الهزلي لقدرته البارعة على استخدام الألفاظ بألاعيب معينة في جناس وسجع وتورية، ثم بدأ يميل إلى الفلسفة في مواضيعه متأثراً بالفيلسوف الصيني تشوانج تسو الذي احتقر النباهة والذكاء وأنكر المحسنات البديعية والزخارف اللفظية واستخدام الكلمة قصداً، واعتبر أن القيمة الحقيقية تكمن في الأشياء التي تبد ظاهرياً بلا معنى أو هدف وأن الحياة وفقاً للطبيعة هي أفضل وسائل العيش. كتب (باشو): سنمدد قائمة البلشون حين نضيف إليها قائمة التدرج مخالفاً نص المعلم تشوانج: (عندما نرى شيئاً طويلاً، لا ينبغي أن نفكر أنه أكبر طولاً إذا كان في الواقع طوله طبيعياً، قوائم الحذف قصيرة، لكنه سيطرح إذا مددناها له بالقوة، قوائم الكركي طويلة، لكنه سيحتج باكياً إذا قطعناها بسكين)، هذا الهايكو الذي يبين عبثية ونفعية البشر ويسخر من ضعف ذكاء الإنسان المغرور، يتلاعب فيه باشو عن عمد بالألفاظ (بفعل تمديد قائمة طائر الذي سبق أن ألغاه تشوانج). لكن الفكرة هنا أن هايكو باشوليس مجرد كلام ساخر، لكنه حدث مسرحي يعالجه كوميديا أو تراجيديا، بالنكتة أو بالتشاؤم، بالانتشاء أو الالتباس، ودائماً بشكل مبالغ فيه. دراما مليئة بالمتناقضات بين الفرح والغم، بين الفكاهة والحزن، حياة شاملة موجزة تبرز تفاهة الإنسان وتسخر من ضعفه أمام عظمة الطبيعة. فوق المروحة أضع الريح الآتية القادمة من قمة فوجي هذه ذكرى إيدو النعاس على صهوة فرس قمر في حلم مستمر دخان تحميص الشاي الربيع يمر الطيور تصرخ عيون سمك غارقة في الدموع الشاي في الخلوة يتزحزح ويدخل الجبل والحديقة مرحى! وادي الجنوب محنط بالثلج ريح الخريف أشد بياضاً من حجر رابية من كل الجهات تحمل الرياح تبلات الكرز إلى بحيرة الطيور حتى الخنزير البري يوشك أن يؤخذ في هذه العاصفة الهلال يضئ الأرض المضببة تزهر الحنطة دون أن تسقط قطرة ندى. قلّت شعبية الهايكاي – رينجا في القرن الثامن عشر، لأن الشعراء قد ركزوا إبداعهم في الهوكوس، وبدأوا في تطوير المفردات، حتى أن الشاعر بوسون نجح في استحضار صوراً تعبيرية جديدة تختلف عن صور باشو الفلسفية، ولا الصور الطبيعية الفخمة، كان بوسون عبقرياً ذو تعبيرات صافية رائعة يجعل من هدوء الطبيعة خلوداً ومن وصف الواقع مثاليات، ويدخل من الوصف النظيف إلى الجوهر بمنتهى اليسر؛ مفرداته ثرية، متنوعة، متشعبة، تفتن الشعراء قبل القراء، وبالإضافة إلى كونها باللغة اليابانية، ترجمتها في حكم المستحيل: البخار الصاعد من الأرض رف أبيض الحشرة مجهولة الاسم سحابة ثابتة مزروعة تختفي فيها طائرة ورقية في نفس المكان حيث كانت بالأمس عندما ينتهي احتراق البخور النجار المزيف في ليلة صيف قصيرة قطرة ندى فوق ظهر بعوضة تنط زهرة عسل ذات أربع أو خمس بتلات يسقط فوقها القمر يتجاوز حياً فقيراً يسهر ينام في ليلة خريف باردة طائر فوق ماء الخندق قنديل للقلعة. جاء (شيكي ماسواكا) لينتقد باشو متسويو، وقال أن الصفاء الشعري ينقصها ويثقلها أحياناً بعناصر النثر والتفسير مما يتخطى طبيعة القصيدة؛ وبالطبع مدح بوسون للأناقة والنقاء التقني في أبياته وأنها تصل إلى قلب القارئ ببساطة وبتعابير غاية في الرشاقة. وعندما درس شيكي الثقافة الغربية قرر أن الوصف البليغ الموجز هو الأهم للتعبير الأدبي وتصاويره، لهذا امتاز أسلوبه باللطف والإيجاز والتركيز؛ فانتشر بسرعة في اليابان وأحيا الهايكو من جديد: يسقط المطر الدافئ فوق الشجرة العارية والمستنقع المتجمد يتحرك القريدس بين طحالب بائدة عجوز يلفها الشعب مزمجراً برعم شجرة ينتعش في الهواء تحت المطر عربة ثلجية صغيرة تتسلق الصنبور في المستنقع تسبح أوراق اللوتس تتحرك فوق الماء أمطار يونيو يدور الدخان بعد مرور القطار أوراق الحور طاحت في العاصفة دامت نصف يوم كسرت ساق زهر الخباز لا نرى القهر حين تصعد الأمواج العالية فوق تجويف اللبلاب أزهرت نبتة الليف أنا روح مخنوقة باللعاب. أدار (كيوشي تكاهاما) مجلة الهايكو (هوتوتوحيسو) التي صارت المصدر الأساسي للهايكو وتلقت جوالات من رسائل القراء. وتميزت قصائد (كيوشي) بأنه لا أسلوب محدد يميزها، فبعضها خشن الملامح، دسم العبارة، والبعض الآخر، ناعم تنبؤي، بعضها يهيم في الخيال، والآخر يصف الحياة اليومية، الوصف الصحيح لهايكو كيوشي هو الفوضى، كأنه حقل حافل بالزهورو الأعشاب معاً، بانوراما شاملة؛ فهو يكره الصور الرقيقة الذكية، بل يريد تصوير العتمة التي يستحيل تفسيرها ذهنياً؛ كما أعلى قيمة الرمز: ثعبان هرب حدق في عيني ثم بقي وحيداً في العشب زهرة فوانيا بيضاء بها قليل من الحمرة تتناول الفتيات شتلات الأرز بريمة الماء يهتز فوق ظهر قبعات البردي ظلال المساء الكثيفة كذلك في الطحالب على سطح شاطئ الربيع رسمت دائرة فيها كلب يرقد رأسه بين قائمتيه منزل الأقحوان أشاهد النهر قشرة موز تسقط من يدي عندما نضع شيئاً الفراشة الأولى القادمة لهذا العام (ما هو لونها؟) أصفر. حاول البعض في عصر الميجي وعصر تايشي إدخال اللهجة العامية في الأسلوب الكلاسيكي الرصيد السامي عن لغة المحكي، وللسبب الأخير جاءت ضرورة إدخال ألفاظ تعبر عن الأفكار المعاصرة. آمن الشعراء أن إقحام اللهجة العامية على الهايكو في حكم المستحيل لتعامله الرقيق مع الأسلوب الكلاسيكي، إذ يقتصر على المقاطع الخمسة أو السبعة، بينما يمتد الأسلوب الشفهي إلى ستة أو ثمانية مقاطع. فعلها (إيبيرو نكاتسيكا) وحرر قصائد الهايكو من الحد القاطع للمقاطع السبعة عشر فأسس الهايكو الحر، واستبعد الكيجو، ثم أقر مبدأ الشك في منجزات أساتذة الهايكو كبداية للتجديد في الأساليب الشعرية الشخصية. صورتي الخارجة من المرآة تعرض الأقحوان آه يا يدي المنزلقة على الهيباتشي الأبيض آه يا بلادي الحاضنة توقفت بدلو ملئ ببزاق البحر ثم تمضي كالكلب الحزين طويل الخاصرة حيث يزهر نبات السلجم وراء عربة الكلأ في يوم صيفي وأمي بالملابس الخفيفة في نافذة الصبح الحصيد الأبيض يأتي الوليد للعالم حاملاً شعر الفجر في حقل سنابل الأرز وأيضاً القلقاس تدلى أوراقه في كوخ قذر يستقبل الضيوف تحت شمس حارقة. ظهر شعراء (الهتوت وجيسو تليشو) الواصفين للطبيعة، العاشقين للسرمد، المكتنفين بالأسرار، بأسلوبهم الراقي الكلاسيكي، حيث ترى الجبال والبحر والسماء في كل قصيدة لهم. أعلى التبة وريدات الأقحوان تتمايل بعنف في مهب الريح الشجرة اللزجة تفلق ببلطة صوتت امرأة سليطة اللسان ألعاب نارية تفاجئ الحيوانات يتدفق ظل الجبل على سطح المعابر القهر فوق الجبال الثلجية يسقط أمطار البرد قضيب الأروروت يلمس خد الحطاب يكدس الغيوم ينفصل اللون الأخضر عن / يلاحق السلامون الحبيس يدق الجرس / أيدي النساء موجودة لتفريع الحبار في الربيع رياح الحزن طبقان بزخارف مختلفة الفراغ من جعل الأجنحة الرقيقة لليعسوب تطن. وبدأ نشر الهايكو بين النساء فيما عرف باسم (أناشيد المطبخ) وظهرت الشواعر (كناجو هاسيجاوا) و(ميدور جيو أبي) و(هيساجو سوجيتا) وابتدعن المنظور الزائف الجامع للمشهد الخلفي والمشهد الأمامي الندى / فوق ورق القلقاس / ظل الجبل / في عمق الوادي / كفراشة ترتفع (ظل الجبل (المشهد الخلفي) + الندى فوق ورقة القلقاس (المشهد الأمامي) + فراشة ترتفع (مشهد أمامي) + عمق الوادي (مشهد خلفي). على أن تفاصيل المشهد الأمامي لهدف منها هو زخرفة المشهد الأساسي (الخلفي). زهر اللبلاب السماء فوق هذا الحي بدأت تغيم بتلات الأقحوان تتقوس في بياضها في ضوء القمر عيد الأقحوان أهز شعري المبلل وأمشطه تتساقط القطرات في مجرى الجزر الربيعي كتلة طحالب تمر كالسهم طي مروحة خريفية صعب صدى صوت يهيمن على الجبال عندما ننحني من على قارب كي نقطف زهرة كستناء المال نحس وكأنه لمستنقع يغلي. فاض شعر الهوتوتو جيسوتا يشو بالرومانسية بشكل كاد يؤدي إلى أن يخرج عن طابع الهايكو ويتحول إلى الشكل الشعري التقليدي، ومن هنا بدأ الشاعر كيوشي تكاهاما في تحديث هذا التيار ليعود إلى وصف الطبيعة والابتعاد عن الوصف العقيق والملاحظة الصحيحة، واخترع مصطلح (كياكان ساسيي) ليصف الطبيعة بشكل طبيعي جاعلاً منها مبدأ أساسياً لكتابة، وظهر العهد الجديد بريادة تشيوكشى ميزوهارا 1892 1981، وسوجو تاكانو وسيهو أوانو 1899 1992، وسيتشي ياما خوتشى 1901 1983. وتخصصوا في وصف المشاهد الأمامية، دائماً ما يصفون أشياء ينظرون إليها مباشرة، على عكس شعراء الهوتوتو جيسو تايشو الذين تخصصوا في وصف المشاهد الخلفية في الطبيعة ورأوا في الآخرين نزوع نحو الوصف السطحي يطابق وصف الكتب العلمية للطبيعة، وفي هذا ظلم كما سوف يتضح فيما بعد، إذ كانت لديهم طريقة فريدة في وصف الطبيعة أعمق من أن تكون مجرد تفسير لمكوناتها. نملة الأسد لا نسمع غير الريح تهب بين الأشجار الصنوبر بذرة لسان الحمل وثلاث ورقات ذات أحجام مختلفة خط فاصل بذور عرق سوس صوب رابية نسير في الحديقة ثلوج الربيع كالأمواج تخترق السياج برد المساء يضرب الأغصان البيضاء هذه الخوخة كانت خضراء لكنها تحمل قليلاً من الأحمر نسيج العنكبوت منصوب أمام الزنابق على حدة تطير هناك غربان لأول مرة فقاعات تتجمع تحت الجليد الرقيق أحد الصفائح تتزحزح. اختلف سيوتش ميزوهارا مع سيجو تاكانو وكيوتشي تاكاهاما؛ لأن الأول رأى أن مبدأ الوصف الموضوعي من الطبيعة يسطح من الهايكو، ورأى ضرورة البحث عن أسلوب يطمح إلي المطلق، وبسبب هذا الانفصال نشأت حركة شعرية جديدة لشباب الهايكو اسمها تشينكو هايكو أي الهايكو الجديد، متجهين نحو عصرنة الهايكو مستخدمين أمثلة من الأدب الغربي، وبعضهم أدخل أمكاراً شيوعية وفلسفة بوذية؛ وكان من أهمهم سانكي سيتو (1900 1962) وكاكيو توميزاوا وهوساكو كوتشينوهارا (1905 1936) وسوشو ثاكايا (1910 1999) وهكوسين وتاناب (1969 1913). غلبت الرمزية شعر كأليو توميزاوا مستعيراً الأساليب التعبيرية الغربية لوصف الجو الكئيب القائم الذي غلب على المثقفين من معاصريه، وبالرغم من ذلك انتقد كاكيو لأنه حول الهايكو إلى شعر تقليدي ففقد طابعه الموجز الفريد، فليس من واجب الهايكو أن يعبر عن أمور شاسعة ومعقدة وغامضة، بل يعمل على الوصف السلس البسيط مفسحاً للقارئ المجال ليتخيل بنفسه باقي الأغراض في نفس الشعر. ودافع كاكيو عن نفسه وعن كلماته بأن الانتقادات التي طالته ما كانت تهتم إلا بجانب واحد من التقنية التي اتبعها وأنه قصد الارتقاء بالمعنى بتعدي الأوصاف البسيطة التي لا يتحمس لها إلا القاعدة البسيطة من المثقفين، إنه نوع آخر من الثورة على التقاليد وتطوير المفاهيم الجمالية وتحطيم ثوابت التعبير، بل إنه قصد عصرنة الهايكو وعولمته حتى لا ينقرض كما حدث لفنون سابقة؛ متحججاً بأن صار من العسير تقاسم ذات القيم حتى بين اليابانيين أنفسهم في اليوم والغد، وكتب: رافعة تلقى ظلها مع الغروب تسحب أجنحتها مع الدخان الرفراف يقف هنا قبور بيضاء صغيرة أصوات مكتزة لأحذية تتواصل برتابة وانتظام بجانب الفانوس تهطل الأمطار الغريزة فوق دوامة دوى المدافع قفص الفهد لا قطرة ماء بقيت في السماء يوم اللقاح ليس للطيور أثداء أفتح نافذة أصطاد نمرة الحقول متموجة فراشة تهوي فصل الجليد يصطدم بحرارة الخريف لطخات الفهد تظهر لفرحة تحت شعاع الشمس حلم فراشة شتوية قطرة جليد ذائبة في جبال القرم.