"إننا نتألم للآخرين، تلك بداية معايشتنا للحياة...الآخرون، إنني في الثمانين من عمري، هل تعرفون معنى ذلك، معناه أنني رأيت كثيرا وسمعت كثيرا " -1 مقدمة : نهضت القصة القصيرة منذ ولادتها على مسعى رئيسي في الكتابة السردية قوامه رفض تسطيح العصر الحديث للإنسانية في فردانية جوفاء مدفوعة بقوة غامضة نحو ركوب تدفق اللحظة، وانكماش الوعي في حالة من الشقاء متردد بين العجز والتمرد حيال المصير المجهول المنساق إليه، فلا أحد من أفراد المجتمع العصري الذي أملى ولادة هذا النمط من الحكي يعرف مثلا معنى الشعور الذي يبديه الفرد إزاء أزياء الموضة العصرية المعروضة في هذا المتجر الكبير العالية الأناقة والمتجددة باستمرار ، ولا معنى لهذا الإقبال الشديد على أقراص التهدئة وآلام الرأس ،ولا معنى لهذا الانسحاق البشري في معمل كالوحش ، ولا معنى لهذا السباق المحموم من أجل انتزاع أكبر حجم من لذة حيوانية... ، لقد أضحى الوجود مجرد مهرجان غرائبي، القيمة فيه يوتوبيا ضائعة ومطاردة في قلوب ووعي الأفراد الغارقين في انتزاع حصتهم من احتفالية ُعرضت عليهم كبضاعة ،يقر فرانك اوكونور في كتابه "الصوت المنفرد" بأن القصة القصيرة تدفعنا إلى "وعي متشدد بالعزلة الإنسانية" وبهذا المعنى تكون تجليا من تجليات العسر النفسي والقيمي في التأقلم مع مظاهر العصر المتجددة، فالتحول يدمر الذاكرة الشخصية للفرد واللحظة تسرق منه طعم الحنين ودفئ الماضي القريب وتظهر الأحلام كيوتوبيا دائمة الابتعاد.، ولا يغدو الفرد وقضاياه سوى أسرى لقدر إنساني انطلق دون رجعة ،لذا فانشغال القصة الأساسي هو انتزاع اللحظة الهاربة من زمن عام ومسرحتها حتى يستطيع الفرد تشخيص آلامه الغير مسموعة في هذا العزف الإنساني لضجيج الوجود الجماعي،إذن فكل قصة تختار لحظة ما لسباحتها ، توقظ صرخة عميقة تريد من الإنسان أن يكون سيد الأشياء وليس عبدا لها ،وإذا كانت مظاهر العصر في تاريخنا الوطني نتاج مسار مختلف لدواعي ميلاد القصة القصيرة باعتبار أن تشكلنا التاريخي ليس جموح الإنسانية في عرض مظاهر المعرفة والتطور أي كل ما يشكل مفهوم العصرنة،بل مقاومة وسائل العصر كآليات استعمارية ،ثم خذلانها كوسائل وطنية ، فلا غرابة إن بدت على شخوص السحيمي معنى مضاعف لمفهوم الضحية والغربة في مواجهة وسائل العصر نفسيا وفكريا فالوضع المفارق للهامش لا يحتمل ،الهامش الذي اظهر بسالة وطنية متروك لبؤس اجتماعي مرير وهو ما دفع إلى طرح موضوع الحرية من جديد ،"المدينة تكبر وتمتلئ بالناس ،وتمتلئ بالمصانع وبالدخان والدروب ،وهو في كل ذلك متفرجا ،تسحقه غربة مريرة"-2، تزداد وضعية القصة ارتباكا وحيرة في بناء موضوع الحكاية والرؤية ،إننا أمام تشكل تاريخي متشعب يصعب فيه صهر الوجود الجديد في صوغ حكائي درامي: -أنت مكانك في الجامعة..أستاذ في الجامعة.. -ولكن لا يمنع أن أكون مجرما في السجن..إن الأمرين عندي لا يختلفان....مخلوقات تنقصها الحرية3 ، فالممكن من المستحيل أمام مغامرة شكلية وموضوعية صعبة إذا ما استحضرنا محيطها الخاص.هل نجح السحيمي في هذا التأسيس؟ هل رسم سمة ميزت السرد المغربي ؟ وساهمت في تنويع وتطوير القول القصصي لهموم وألام جديدة للإنسانية؟ الحكاية المتشظية تتمسرح الحكاية في مدينة كشكل فضائي حديث يبدو داخله الفرد مجرد كائن ينسلخ باستمرار في موضوعاتها ،ينسلخ عن ذاته ككينونة ،وعن هويته كحضارة ،فالاغتراب الوجودي مؤسس على بؤر سردية خفية ذات أنوية قيمية ،"الحب ،العقيدة،الموت المخلص،الحرية،المسؤولية والضمير ..إن انكسار هذه التيمات في بؤس المعيش،هو ما يدفع نمو الحكاية الى متشظيات سردية يتداخل فيها الشعري بالأسطوري -هل تظن أن حياة "زوربا " مقنعة ؟ كان يعرف أنها ستناقش الفيلم ،......ثم تثير فجأة: -إنني أحلم بهذه الحياة. ولكنني لا أستطيعها في الواقع4 ، والفجائعي بالعبثي: صباح الاثنين (كتبت جريدة في إحدى صفحاتها الداخلية ،وفي مكان لا يثير أي اهتمام . داست حافلة مساء أمس رجلا مجهولا كان يقطع الشارع دون انتباه، وكان يحمل في يديه وردة بيضاء.5) المأساوي بالغنائي : رأيت في وجه الشمس الشاحب ملايين الناس كالنمل وقالت الشمس: -ارعهم أنت ولم أكن هناك بين الملايين، ثم ماتت الشمس6 ،إنها وسائل السارد في السماح لايدولوجيا المؤلف بالظهور، وإنقاذ للحكاية من السقوط في الواقعية التسجيلية، وهو صوغ لوجود ثاني متخيل، تسميه لغة السارد مرة شمسا، وأخرى حرية، وأخرى كلمة اسمها" لا" : المدينة كلها تحيى، كلها تقول لا، كلها لون أحمر ....المقابر تفتح أفواهها لنعد ...لنعد...لنعد7 المؤلف الناقم والسارد الشقي لم يرافقني هذا الضيف/الكتاب الذي دعوته إلى بيتي إلا برهة قصيرة، لأكتشف ذات صباح أن صفرته تشبه صحوة الموت، تلك الصفرة الصافية التي تعتري وجه العليل حين تكون نهايته يقينا قد آذنت، وأسفل الصفرة ثمة سواد يتموج معلنا نفسه هوية للعليل إنه "الممكن من المستحيل "، هذه الأيقونة –الهوية تدل على آثار المغرب الستيني، قلت ما الذي كان ممكنا في زمن الاستحالة؟ وهل سأعود من كآبة تاريخ مقع في حيوات محاصرة بالفقر بالجوع بالقهر وبالقمع ؟ بما ينفع حاضرنا، الحكاية ليست خيالا بغرض الخيال والقول الفني ليس فّذلكة واصطناعا، الكتابة مسؤولية تلك إذن هي سمة عبد الجبار السحيمي فالسارد هنا هو وعي المؤلف، سارد يعلم كل شئ يتلفظ بدل الشخوص، ويوزع الزمن والفضاء كما يشاء في تواطؤ مكشوف مع المؤلف ليحصد الشقاء من كل الأشياء التي يزرع وفي النهاية يسلط نقمة المؤلف على هذا العالم المضاء بشفرة خفية تهمس كلازمة سردية مضمرة إن هذا الوجود ليس محتوما بل هو مؤامرة . "شئ مضحك أن تجد الإنسانية مكانا لها بين قضبان السجن" 8، فما جدوى الكتابة إن أضحت كلاما مسرودا يقف عند سطحية الشخوص والأحداث دون سبر لأغوار الألم الكامن فيها،فكم هو مفارق أن يتم تلفظ القيمة بابتذال فج يدفع بؤس اللحظة إلى أقصاه ويوقظ فينا السؤال الإنساني العميق "الحب أكبر سخافة في حياتنا ،وأنا لا أومن به."9، تلك إذن هي خصائص سرد عبد الجبار السحيمي الذي نجح في جعلها تشي بمعدن مغربي أصيل في كتابة تاريخ الألم الوطني، لقد ظل المعدن النفيس ذاته ما محته رياح الساسة وما أكلته رطوبة الهامش، بل تألق القلم المغموس في الوطن الآخر المنسي وطن الفقراء ثم كم هو مبهر حين نعلم أن تكون صوتا حرا في زمن التعبير فيه قريب المسافة من لعلعة الرصاص، ورنين أقفال السجون،" طرقت خطواتي أرض المدينة الصامتة ، كان الناس يدخلون بيوتهم، كل الناس، وعيناي ترقبان وجوهم ...رأيتها قبل أن تموت الشمس. التقت عيناي بهم، ابتسمت، ولم يبتسم واحد منهم، كانوا يسرعون إلى بيوتهم، لم يروني ....وعندما فتحت فمي لأتحدث ذهبوا جميعا، قبل أن تمطر السماء "10، لم تفقد المجموعة رغم أنها الاصدار الأول للكاتب سمات البناء الفني الكوني للقصة القصيرة في تجربة جد خصوصية سياسيا وثقافيا واجتماعيا وفنيا، إنها بحق معركة التأسيس على كافة المستويات التأسيس الفني للكاتب، والتأسيس لثقافة الرفض كايدولوجيا، فلم يأسر القاص الكتابة في انشغالات سردية لا قيمة لها أو استعراض عناصر فنية بغية الاستعراض كما يحلو لكل حديث عهد بالقول الفني بل احتفظ لنفسه بتجريب صيغ فنية ،وبسط الرؤية الخاصة "-اسمع ، هل تريد أن تعرف الحقيقة، أنت سجين دائما حتى إذا لم يحكم عليك بالمؤبد ..أنت سجين داخل نفسك، وعندما لا تنبع الحرية في أنفسنا ومنها، فإن السجن سوف يكون لنا في كل مكان ..في وطن الحرية يكون السجن إذا لم تكن حريتنا تنبع منا، الحرية لا يصنعها المكان، لا يصنعها الآخرون ..القاضي وأنا والقانون ..الحرية تصنعها أنت ... هل تفهمني "11 .