يُظهر تاريخ الفكر البشري أن سؤال الحقيقة كان من بين الإستفهامات الإشكالية التي شغلت الوعي الإنساني منذ أقدم تجلياته وظهوره . وتُعد الفلسفة من أكثر أنماط الفكر إيغالا في التفكير في هذا السؤال طمعا في إيجاد جوابه؛ حتى إنه يجوز اختزال كل النتاج الفلسفي في كونه مجرد محاولة للإجابة عن سؤال ماهية الحقيقة، وتلمسا للطرق المنهجية/ الميتودولوجية القادرة على بلوغها، قبل أن ينقلب التفكير الفلسفي ما بعد الحداثي إلى محاولة التخلص من السؤال وإنكار إمكان الإجابة عليه، أو حتى نفي مبررات طرحه . وتاريخ الفلسفة رغم ثرائه وتنوع مذاهبه ونزعاته يمكن أن يقارب من هذا المدخل المفهومي . إذ أن مفهوم الحقيقة لا يسمح فقط ببيان الفلسفات من زاوية رؤيتها إلى العالم ، بل يسمح أيضا ببيانها من زواية المنهج . لأن الجواب على استفهام الحقيقة موصول ولابد ببيان الأسس المنهجية المحددة لفعل التفكير والناظمة لمساره وحدوده. ومن ثم فسؤال الحقيقة إذن من نمط تلك الأسئلة المركزية التي جوابها يختصر جواب غيرها من التساؤلات. ومن بين الإسهامات الفلسفية التي يمكن عدها من النماذج التأسيسية التي وجهت الوعي الفلسفي اللاحق لها، ونظمت طريقة مقاربته لسؤال الحقيقة: الإسهام الأفلاطوني الذي لم يعد اليوم – بفعل التأثير النيتشوي والهيدغري – ذا مقام معتبر عند التفكير الفلسفي المعاصر المأخوذ بجذبة السفسطة والعدمية. وإن كانت محاولة التجاوز عند هيدغر ، ومن قبله إرادة التجاوز عند نيتشه ، إحتاجا الى التركيز على المشروع الفلسفي الأفلاطوني ونقد رؤيته الأنطولجية خاصة. وهو ما يؤكد قيمة المشروع الفكري وهيمنته تاريخيا . فما هي مبررات هذه القيمة التي يحظى بها الفكر الأفلاطوني في تاريخ الفلسفة ؟ يذهب مؤرخو الفكر إلى القول بأن عبقرية أفلاطون تجلت في قدرته على إنجاز أول نسق فلسفي شامل . حيث يزعمون بأن الفلاسفة الذين سبقوه لم تكن لديهم سوى رؤى متفرقة غير منتظمة في صيغة نسقية مركبة. وإذا صح هذا الزعم – نقول ذلك بصيغة الإفتراض والشرط احتراسا من الجزم ؛ لأن الفلسفة ما قبل المرحلة السقراطية/الأفلاطونية ،قد اندثر نتاجها المكتوب ، حيث لم يتبق منها سوى شذرات شعرية متفرقة؛ لذا نقول بصيغة الفرض : إذا صح هذا الزعم - فإن أفلاطون مارس فعلا منهجيا تركيبيا مبدعا على الميراث الفلسفي السابق عليه، فكانت حصيلة هذا التركيب صياغة نسقية تجاوزت نقديا "سلفه" الإغريقي. حيث ناهض أفلاطون المدرسة الأيونية وشدد في نقد المرتكزات الفلسفية المؤسسة لرؤيتها إلى العالم، كما ناضل ضد سوفسطائية بروتاجوراس وأقراطيلوس ... التي ترجع المعرفة الى الحس ، فصار العلم – حسب النقد الأفلاطوني - مستحيلا ، لأنه متعلق بالجزئي المتغير لا بالكلي الثابت. لقد أدرك أفلاطون أنه أمام ميراث فلسفي منقسم ، فنهض إلى إعادة تأسيسه ؛ لأن الفلسفة التي سادت قبله كانت مشطورة إلى نزعتين : نزعة تنظر إلى الوجود كثبات ووحدة (بارميندس)، وهي رؤية قاصرة عن إدراك أنطولوجية الوجود الحسي؛ ونزعة تراه تغيرا وصيرورة (هيراقليطس) وهي النزعة التي رآها أفلاطون مبطلة لإمكان قيام العلم بالحقيقة. لكنه بتوليفته المنهجية لم يختزل الفلسفات السابقة عليه ، بل سيختزل أيضا كل ما لحقه من توجهات فلسفية .لأنه أسس للإطار الإشكالي الذي دارت بين سياجاته مختلف النقاشات الإبستيملوجية فيما يخص مسألة الحقيقة. حيث وضع على الأقل ثلاثة أسس مفاهيمية ناظمة ، وهي : "الكلي" ، و"الشيء"، و"المفارقة" . كما أقام نظرية المطابقة كمعيار منهجي لقياس الحقيقة وتعريفها إجرائيا. ولذا ففهم المسارات الفلسفية التي ارتحل داخلها سؤال الحقيقة ، من أفلاطون حتى هيدغر، مرهون ابتداء بفهم هذا التأسيس الأفلاطوني .