هي من تلك الساعات التي يمر فيها الإنسان بشأن لا يخصه فينقاد إليه بقوة قاهرة منجذبا إلى المعمعة انجذابا ساحقا لا يعرف ما يفعل إزاءه إلا إتباعه و هو الأمر الذي فعلته عندما وجدت ثلة من الناس مجتمعين حول شيء ما وسط الطريق مما ساد معه نوع من الهرج و الفوضى و زعيق السيارات و الدراجات يصم الآذان. أسرعت الخطى لأرى الطارئ الذي جمع هذه الجوقة من الناس، دخلت الزحام و رحت أدفع بمنكبي و أتقدم خطوة خطوة، وجدت أمامي رجلا طويلا بشكل غير عادي فلم أستطع أن أطل برأسي كما أفعل دائما معتمدا على طولي الفارع. طول هذا الرجل و ضخامته لم يتركا لي مجالا لأي تصرف إلا بتجاوزه. أية حيلة سأستعملها لفعل ذلك؟ فكرت قليلا ثم توغلت مجددا في الزحام باحثا عن شخص أقصر أمارس معه لعبتي التي أجيدها عندما أعتمد على إحدى كتفيه لأطل و أعرف ما يجري. عندما أطللت صدمت لأن المنظر كان بشعا بحق، امرأة شابة طريحة أرضا و الدماء في كل مكان و رأسها ملتصق بالإسفلت ومن تحته نبعت نافورة من الدماء. ملابس المرأة توحي بأنها ليست فقيرة حتما و حتى الحقيبة كانت من النوع الجيد الثمين، و الحذاء الأسود ذو الكعب العالي الذي لم يعد في مكانه. منظر يقشعر منه البدن و الناس من حولي يحوقلون و يتحدثون عن شخص صدم المرأة و فر قبل أن يبلغه أحد.فجأة تساءلت: ما بال هؤلاء الناس لا يبالون بهذه الروح المرمية أرضا و لا يساعدونها؟ أأصبحت الروح البشرية رخيصة عندنا إلى هذا الحد؟ خرجت من الزحام بشق النفس وتناولت الخلوي متصلا بالوقاية المدنية أولا ثم بالبوليس الذين أغرقوني بالأسئلة التي أجبت عنها على مضض. عدت إلى الزحام أشق طريقي، رميت الضحية بنظرة ملؤها الإشفاق و أنا لا أعلم حتى إن كانت ما زالت حية أو أنها قد قضت. هذا هو الوحيد الذي ينصفنا و يجعلنا سواسية لا أثر للإيثار في اختياراته، إنه الموت. كل هذا الجمال استحال إلى قبح و بشاعة في ثانية، هذه السيقان البيضاء الرائعة كم فتنت من رجال و كم أدارت من رؤوس ثم هاهي الآن ممددة على الطريق تغطيها الدماء. لبرهة نسيت أنني وسط الزحام الذي يسد الطريق، ذهول غريب لفني حتي أذناي لم تعد تسمعان الضوضاء. استحلت إلى نوع من الصخور، لكن شيئا واحدا كان يعمل، المخ. استنتجت ذلك لأنني كنت أتخيل. و التصور أو التخيل -لأن بينهما فرقا لا يستهان به- لا يتم إلا عندما يكون الدماغ شغالا. تخيلت أنني ممدد إلى جانب الفتاة و الدماء في كل مكان و الناس من حولي يحوقلون و لا يفعلون شيئا سوى الحوقلة و الاسترجاع و التكبير. عيون مفتوحة على مداها و كأنني أو كأن الفتاة المصابة المجروحة المدماة المنشور شعرها المتناثرة أشياؤها نوع من الترفيه الذي يجتمع الناس إليه كالذباب.غرس في أحد الواقفين بجانبي مرفقه لأعود إلى عالم الواقع: ما هذا؟ نصف ساعة و لا إسعاف و لا شرطة و لا يحزنون. عالم الخيال عالم لا نهائي جميل جدا في بعض الأحيان، لكن في خيالي أنا لا تقع إلا الأشياء السيئة و كأن الوعي الباطني لدي محشو بجميع أنواع التراجيديا التي عرفتها الأرض. من جديد أحس كأنني أطير خفيفا لا صلة لي بالواقع أمامي و كأنني أنتقل منه و إلى بعد آخر، أطير في الهواء سابحا إلى الأمام و إلى الخلف بدون حواجز أرى مشاكل الناس و مآسيهم من بعيد و لا تهمني بشيء و كأنها فقط مسرحيات لا تتوقف. ندبت الحياة على هذه الأرض و ندبت حظي الذي مافتئ يعاكسني و يكشر في وجهي و كأنه لا يعرف من الملامح إلا التكشير، أما الابتسام فإنه حالة لا يعرفها. ازدادت الضجة من حولي مما أرغمني على الأوبة للواقع، و كأن الزمان توقف و كأن الناس من حجر و من جليد و كأنهم أصنام قائمة لا تعبد، بقيت المرأة ممددة على الطريق المزفتة المليئة بالحفر و الدماء في كل مكان و الحوقلة طاغية و الزحام من حولي يشتد وسيل السيارات ينحرف و يدور للبحث عن سبيل. في هذه الطريق الضيقة الواقعة وسط المدينة القديمة المبنية دون تخطيط تقع أبشع أنواع الحوادث، على الأقل يقع حادثان كل أسبوع. لمن المؤسف أن الناس لا يبالون عندما تأتيهم الخيارات لتحسين أحوالهم و لكن عندما تنفد هذه الخيارات و يتضح عجزهم عن أبسط مقومات الحياة ينتفضون و يقول بعضهم لبعض: ما هذا الظلم؟ نعم إنه ظلم ، لكنه ظلم ساهمنا فيه بكل جوارحنا و حتى بصمتنا المشترك الذي نظنه سياسة دفاعية قاسية، لكنه في الحقيقة جبن و تراخ و استسلام تام للحذاء الذي يحك العرانين بالتراب. نظرت إلى المرأة مرة أخرى و لدهشتي الشديدة و للفزع الذي أصابني تراجعت للوراء و كأن حية لدغتني حتى أن شابا كان خلفي أن من قوة الضربة التي تلقاها من عظم كتفي البارز. هذا الفزع ناتج عما رأيته أمامي، كانت المرأة الآن قد أمالت رأسها حتى صار بإمكانها أن تراني و توجه لي الحديث، لم يكن كلاما عاديا بل كان تقريعا و تعنيفا لا عهد لي بهما حتى من أبي الذي أعتبره سيد القساة. قالت و عيناها ثابتتان و كأنها تخشى فوات مشهد: - إلى متى ستحدق بي و كأنني شظية من شظايا نيزك سقط من السماء، أنا لست مخلوقا غريبا تكتشفونه؟ أنا إنسان مثلكم أحتاج إلى رعاية. إلى متى هذه النظرات الوقحة التي تتأملني بشهوة مقززة، ألا تثير الدماء شيئا في نفوسكم ؟ هذه النظرات القاسية التي لا تلقي بالا لما أنا الآن فيه من مقاساة و ألم، جل ما تريده أن ترتوي من هذا العري المجاني الذي أقدمه. أيطيب لكم هذا المكوث بجانبي و روحي تنزف قطرة قطرة و هي الآن تكاد تفارقني و لا من مشفق لحالي و لا مرثي لها. أيها الصامتون قد أقفلت أفواهكم حتى تقوم القيامة و لأنها الآن لا تقوم فمازلتم شاردين ساهمين صامتين. لم لا تقومين يا قيامة؟ أنظري إلى الحال و ارأفي و حولي بيننا و بين العجز المذل المخزي. هكذا صار الليل بهيما و لا صباح في الأفق. أنت الذي تكاد تموت من النحالة تحمل هذه الحقيبة و كأنها خزينة أسرار، افتحها واستعمل ما تحويه، فعساك تريح البقية من ضميرك إن كنت ولدت بضمير. نفضت عن رأسي تلك الخيالات و حككت عيني لأجدد المشهد. كانت هناك بلا حراك و الدماء مازالت تنبجس من موقعها بالرأس و من شتى الأماكن بجسدها الرقيق ، أكانت تلك رسالة من رسائل العقل الباطن؟ إن لم تكن كذلك فقد جننت، و مالجنون إلا حالة من حالات الإدراك الأعلى الذي لا تلحقه عقول الناس العاديين. لكن مهلا لقد تحدثت عن الحقيبة و عن البالغ في النحافة، إنه أنا حتما. كان هناك ثلاثة لديهم حقائب و لكن لم يكن بينهم من يوصف بالنحالة أو الشحوب. فتحت الحقيبة ورحت أتفحص الأشياء عن تململ، مالذي يصلح للاستعمال في مكان حادث أسيف ؟ نظرت بتأمل في المحتويات ثم سادت أطرافي رعشة عندما تذكرت الكاميرا الرقمية التي قدمتها لي ابنة أختي هدية منذ بضعة أيام. هذا هو الكنز المخبوء، خبأه القدر في الحقيبة انتظارا للحظة مماثلة بل ترقبا لهذه اللحظة بالذات، لا مكان للمصادفات فيما يخططه القدر. سمعت الصافرة الشهيرة و لم ألق إليها بالا أكانت للشرطة أم للإسعاف، أخذت الكاميرا و صوبتها بانتقاء مذهل للزاوية التي لا يظهر فيها أحد غير الضحية الملقاة بلا مبالاة و الدماء على جبهتها خضاب و الثوب منحسر عن ساقيها و كأنه يشف عن قسوة القلوب المحيطة التي لم يكلف أصحابها أنفسهم عناء تغطيتها. جسد مسجى ضحية الحرب التي لا تنتهي و لا تضع أوزارها، على يمينها حفرة و على اليسار حفرة، والرصيف يبعد بقدمين، تعمدت أن أصور تفاصيل الجسد و نقط الدم المتناثرة و اليد التي امتدت على طولها تلاحق الأمل السراب تنادي و تستغيث و لا حياة لمن تنادي. برهة بدت لي طويلة و أنا أصوب الكاميرا للمرة الثانية، أحاول عكس زاوية التصوير لأحصل على تفاصيل لم أحصل عليها في المرة الأولى ولكن شاء الله أن تصل الشرطة و تطردنا من مكان الحادث و كأننا ذباب حامل للميكروب يخشى على الضحية من الإصابة به. هززت كتفي و كأن شيئا لم يقع و تابعت طريقي. وصلت إلى المنزل مرهقا و كأنني كنت أعمل في البناء أحمل أكياس الاسمنت على كاهلي، تناولت كأس شاي جدد في بعض النشاط. كتبت مقالة جعلتها شديدة اللهجة حامية صارخة بالمسؤولين، و بين مدح و ذم سرت الكلمات و كأنها تتوافد علي من الفتاة الشابة التي علمت فيما بعد أن النزيف الذي لم يوقفه أحد أودى بها. كتبت المقالة من قلب جريح ساءه ما وقع للشابة المسكينة التي أرادت أن تتجاوز الطريق فتجاوزت كل العالم إلى عالم آخر لا مكان فيه للظلم و التهميش و هضم الحقوق. الطريق التي ماتت فيها الفتاة تقع فيه حوادث كثيرة لضيقه و لعدم احترام القانون، كان بإمكان المسؤولين جعلها أفضل من ذلك أو حتى تكليف شرطة السير بالمراقبة. الطريق صارت حفرها معروفة محفوظة من جميع المارة حتى بالنسبة للعميان و كأن تمهيدها يحتاج إلى ميزانيات خارقة. أكملت المقالة بما حكاه الشهود و الذي زاد من استغرابي و دهشتي و استنكاري، و لمعرفتي التامة بأن مثل هذا الحادث لابد أن يستوقف غيري إن كان في قلبه مثقال حبة من رحمة. ذكر الشهود الذين أعرف أغلبهم معرفة وثيقة أن لصا ما إن رأى الحادث المفجع حتى اقترب حثيثا من الحقيبة التي طارت من يد الفتاة و تناثرت محتوياتها و كان من بينها هاتف نقال من الجيل الجديد أخذه و أدار الدراجة و انطلق و كأن ما حصل شيء مألوف لا ينبغي أن نقلق أنفسنا بشأنه. أرفقت المقالة بالصورة التي أخذتها للفتاة المحتضرة و أرسلتها لعدة جرائد و لأكثر من موقع إخباري لعل الناس يغيرون من تصرفاتهم في هذه الطريق الخطرة، ليدركوا أن العناية الإلهية هي كل ما نأمل و يفهموا جيدا أن السلوك يأتي من قناعات داخلية. نسيت الحادث تماما و ذبت في حوادث الحياة المختلفة و تشاغلت عندما وقع بصري في أحد الأيام على اسمي تحت الصورة إياها. كان ذلك في إحدى المجلات العربية -لم أعد أذكر اسمها -كنت قد شاركت بالصورة في المسابقة التي نظمتها عن أحسن صورة حرب. هل يوجد شيء حسن في الحرب؟ اندهشت حينها و لكني لما قرأت عن الهدف من ذلك اقتنعت بأنهم لم يفعلوا ذلك عن سادية أو عن حب للدماء فساهمت بتلك الصورة متأكدا من أنها لن تكون هي الفائزة. اندهشت و قرأت العنوان المكتوب تحت الصورة، كان نفس العنوان الذي ضمنته: دماء على الإسفلت. كان هذا عنوانا لإحدى القصص التي قرأتها و أعجبت بها، لم أعرف حينها أن الأدب إنما يصور الحياة و يغلفها ببعض الخيال. من عجب أنهم لم يتصلوا بي و كانوا قد قدروا جائزة الفائز الأول بأكثر من ألف و خمسمائة دولار. تمطيت و ألقيت نظرة عابرة على الصورة الثانية، كانت تمثل عجوزا مصابة يسعفها طفل و على مقربة جندي يجري حاملا في يده اليمنى سلاحا. تحتها كتب اسم لا أتذكره و لكن البلد كان عالقا بذهني و كأنه كتب بالنار: من غروزني.