ألمُتَفَلْسِف زَمَنُ ثالث آباء الحِكمَة - أثينِه وعاصَرْتُ أرِسْطو، ثالِثَ آباء الحِكمة في أثينِه، عاصِمَةِ الأرض في حينه، والإسكندرَ الكبير، فاتحَ عالَم زَمانه، فشَعَرْتُني خَيْرَ إنسانٍ في خَيْر عَصْر. وغَدَوْتُ - بما أَعْرِفُ من أفكار، وما تَراءَى لي أنَّي كَوَّنْتُ من حِكمة - وعلى العَكس من أصحاب الحِكمة أنفسِهم - الغَيْرِيِّينَ المُتَواضِعين - نَرْجِسِيًّا مُتَعَجْرِفًا. وظَنَنْتُني مُتَقَدِّمًا على السَّواد الأعظم من البَشَر بما تَكَسَّبْتُه من عِلْمٍ وفَلْسَفَة، وفَكَّرْتُ أنْ كيفَ لي، عندما أَموتُ، أنْ أَنْتَهِيَ مِثلَهم؟ لا بدَّ، لي، إذًا، من حَياةٍ أخرى مُمَيَّزة! هذا ما عِشْتُ ومُتُّ على أساسه، وفاتَني أنَّ نِهايَتي كانَتْ مُمكنَةً وأنا صَغير، أو وأنا خَرِف، فكيفَ كانَ لي أنْ أَنْقُلَ، في مثل هاتَين الحالَيْن، فَلْسَفَتي إلى حيثُ أَقْصُد، فتَقومَ بالدِّفاع عنِّي، وانتِقاءِ مكانٍ مُمَيَّزٍ لي في الآخِرَة؟! كما لَمْ أَسْأَلْ نَفْسي: أَيَغْدو حيوانٌ، إنْ فَكَّرَ يومًا، صاحِبَ روح؟ أو يَخْسَرُ إنسانٌ، إنْ لَمْ يَعُدْ يُفَكِّرُ يومًا، روحَه؟ ثمَّ، مَن قالَ إنَّ المُتَفَلْسِفَ، أو حتَّى الفَيْلَسُوفَ، أحَقُّ من بَني جِنْسه، الأبرارِ منهم والأشرار، أو حتَّى من موجودات الكَوْن، النَّافِعةِ منها والضَّارَّة، في ما بَعْدَ الحَياة الَّتي نَعْرِف؟ ألطَّائِع عَهْدُ تْسين شِه هُوَنْغْ تي - على مَقْرَبَةٍ من كْسِيان* واشْتَهَرْتُ، مع قُرَناءَ لي، بالطَّاعة العَمياء للرُّؤساء؛ وكُنْتُ أُمَثِّلُ، معهم، فِرقةً مُمَيَّزةً من المُحاربين، لا تَقِفُ دونَ تحقيقِ أهدافِ أسيادِهم شَدائدُ، فحياتُهم، لهؤلاء. وإذْ ماتَ سيِّدي، وسيِّدُ رِفاقي، كانَ لا بدَّ من التَّضحية بنا لنُرافِقَ أميرَنا في عالَمه الآخَر، ونُدافِعَ عنه هناك. وإذِ امْتَثَلْنا، كالعادة، للأوامر، وتَهَيّأْنا لِلَّحاق، في فَخرٍ، بمَن نحنُ له أولِياء، جاءَ مَن نَحَتَ لكلٍّ منَّا تمثالاً يَحْمي مقبرةَ الأمير عِوَضًا عنه، فيما عِشْنا بقيَّةَ حَياتنا نَلْعَنُ الفَنَّ والفنَّانين، فنحنُ، نحنُ الطَّائِعون. * من أعمال الصِّين. ألشَّاهِد عَهْدُ بيلاطُسَ البُنْطِيّ - مدينةُ أورَشَليم بفِلَسْطين وعِشْتُ في ظِلِّ حُكم الرُّومان، سادَةِ العالَم، فِلِسْطينَ، على عَهد بيلاطُسَ البُنْطِيّ. كانَتْ حَياتي، في مُجْمَلها، حَقيرَةً تافِهة، بَيْدَ أنِّي لن أَنْسَى الوَجْهَ الطَّافِحَ أنسَنَةً لذاكَ الرَّجُلِ المَسُوقِ على دَرْبِ الجُلْجُلَة، الحامِلِ صَليبَهُ، المُنتَظِرِ مَوتَهُ في العَذاب. لا أَدري ما جَذَبَني إليه، ولِمَ أَشْفَقْتُ عليه، فكثيرونَ من مَحْكُومي عَصرِه عَرَفوا المَصيرَ عَينَه، وأَعْيُنُ الجَماهيرِ اعْتادَتْ مَشاهِدَ العَذاباتِ تلك، وكذلك عَيناي، لا بَلْ وَجَدَتِ الجماهيرُ، كما وَجَدْتُ، في تلك المَشاهِد، نَوْعًا من التَّسْلِيَة المُمْتِعَة في زَمَنٍ نَسِيَهُ التَأْريخُ. نَعَم، اِنْجَذَبْتُ إليه، وأَشْفَقْتُ عليه، أنا الحَقيرَ التَّافِه؛ وسَأَلْتُ مِن حَوْلي، في عِزِّ عَذابه، عن سِيرَته وذُنوبه، فزادَ الانْجِذابُ والإشْفاق: فهوَ إنسانٌ بَسيط، تَقَرَّبَ من رَبِّه حتَّى دَعاه أبًا، وسَما في الأنسَنَة عن طريق المَحَبَّة والمَغفِرَة، وهَلِ الرَّبُّ، والأنسَنَةُ، غَيرُ ذلك؟ أَوَيَكونُ ذَنْبُ ذاكَ الصِّدِّيقِ أنَّه ادَّعى بُنُوَّةَ الله، أمْ يَكونُ ذَنْبُهُ الفِعْلِيُّ دَعْوَتَه إلى الغَيْرِيَّة في زَمَن الأنانيَّة البَغيضَة؟ "إِيلِي، إِيلِي، لَمَّا شَبَقْتَنِي؟" أيْ "إلهي، إلهي! لِمَ تَرَكْتَني؟" صَرَخَها بالآراميَّة، ومَضى. لا، لن أَنْسَى ذاكَ الوَجهَ الطَّافِحَ أنسَنَةً! من "المُنعَتِق" – الجُزءُ الأوَّل