إننا نعيش زمنا استثنائيا، ليس كمثله زمن في تاريخ أمتنا. ففي الوقت الذي تعمل فيه العقول و القلوب و الأيادي من أجل تحريك قطار التغيير و التجديد والحرية ، نجد الكثير من المثقفين قد تخلوا عن أدوارهم ومسؤولياتهم القيادية في المجتمعات العربية.وتخلفوا إلى الوراء، لا صوت لهم ولا صورة، لا قول لهم ولا فعل. ففي زمننا كثر المنبطحون و المتسلقون و المتآمرون وتجار المناسبات، وتعالت فيه أصوات شاذة يسبح أصحابها ضد تيار السياق العربي، تحاول إقناع الجيل القادم بلاجدوى مشاريعه التحررية و التغييرية و الثورية، وتعمل على تزكية الإحساس بالإحباط في أعماقه ،وتسعى إلى تكريس الشعور بالعجز والهزيمة في كيانه. إن المتأمل للواقع الثقافي العربي يلاحظ الردة الكبرى التي أعلنها أكثر من مثقف، وذلك بعد أن أصبح العديد من رواد الكلمة مجرد مكبرات أصوات لبعض الشخصيات، وتحولوا إلى مرتزقة في بعض المؤسسات. يتسلقون المناصب ، ويتزلفون إلى أولي الأمر، يبيعون ضمائرهم في المزاد العلني. ترى أحدهم شامخا في المواقع الأمامية فتحسبه نسرا كاسرا، و إذا هو غراب جبان لا يتقن سوى لعبة التملق والانبطاح مهما كلفه ذلك من ثمن، يبيع كلمته وكرامته و أصابعه وقلمه. إن المثقف حينما يتخلى عن مبادئه و قيمه وعشقه للتغيير، فإنه يتحول إلى صانع للإحباط والسقوط و الهزيمة وإلى عامل من عوامل الانتكاسة في المجتمعات.وحينما يغير المثقف وظيفة أصابعه، وينزع عنها صفة التعبير و التفجير، ويجعلها مجرد وسيلة للتصفيق وصياغة قصائد المدح التكسبي ،فإنه بذلك يصنف نفسه في لائحة الخيانة العظمى لشرف الموقف و المبدإ و الكلمة.لأنه يغتال حرية الفكر وجمال الكلمة وقداسة القيم. في زمن الردة الثقافية سقطت الكثير من الأقنعة، وتهاوت العديد من التماثيل البشرية الورقية الجوفاء،و أميط النقاب و كشف الحجاب عن كثير من الأسماء الزائفة و الوجوه المقنعة. فكم من كبير منتفخ استعاد حجمه الحقيقي. وكم من عملاق عظيم تحول إلى قزم وضيع. وكم من أمير في قصور الثقافة تحول إلى أجير يطرق أبواب الحكام، ويستجدي منهم التزكية و الرضا و الحظوة. في زمن الردة الثقافية انتحر الكثير من الكتاب على صفحات كتاباتهم، وذبحوا المبادئ بأقلامهم،ونزعوا من قلوبهم صفة الشموخ والكبرياء، وارتدوا قناع الوقار المزيف، فضاعت الحقيقة في دفاترهم وتغيرت المفاهيم في خطاباتهم، فلم يعد من السهل التمييز بين الأصل و النسخة، أو بين الصوت و الصدى، أو بين صانع الكرامة وبائع الذمة. السياق العربي في حاجة إلى المثقف الملتزم بقضايا أمته و أسئلة راهنه، صاحب المبدإ الراسخ و القلم المشاكس والفكرة الثائرة و الكلمة العنيدة. في حاجة إلى كاتب يموت و القلم في يده، وكلمة الحق بين شفتيه، وعبارات الأمل تلتمع بين أوراقه. في حاجة إلى من يعلم الناس صناعة الحياة وبناء تمثال الأمل في الأعماق ورسم خريطة المستقبل بحروف طاهرة ومداد أصيل.في حاجة إلى من يقنع الناس بأن الرغيف يحتاج إلى كرامة كي تتقبله المعدة، وبأن الهواء يحتاج إلى حرية حتى تحتضنه الرئة. ولذلك أدعو الفئة الصامدة من كتابنا إلى تعهد أصابعهم بالصيانة المتواصلة، و إلى تلقيحها بلقاح الممانعة حتى تظل ثابتة لحظة الإغراء، صامدة ساعة الابتلاء ، ثائرة حينما يستسلم الضعفاء.إنها وحدها الأصابع المقدسة التي ستزرع الكرامة في العقول و الحقول، وهي التي ستنير دروب المستقبل والممرات المؤدية إلى الحرية.إنها وحدها الأصابع الأمينة لزمنها الوفية لتاريخها وقيمها.إنها الأصابع التي ستصنع الطوفان الذي يستأصل الفساد ويبيد المفسدين،ولذلك ستبقى خالدة لن تضيع حروفها و لن تتلاشى كلماتها مهما طالت الأزمنة، لأن ذكراها ستحفرها الأجيال في الجدران وفي الوجدان.