أين أنت الآن؟ ... لقد افتقدتك منذ ذاك التاريخ، يوم غرنا بهاؤها، وطوقتنا بأطراف فستانها، وانسدلت سوالفها تلفنا، ودثرتنا بأنوار إشراقتها كحورية نعيم، فسفحت قلبينا. كانت يطو فاتنة بجمال لا موصوف، فلم تملكنا الذعر والوجوم، وفاتنا الركون لأحضانها، وتركناها تغيب عنا ونحن جسدان مرتعدان؟. بعدها، رن لي صوتك خفيضا يرتجف؛ إذ غمرتنا الظلمة، وروائح الطين البليل : أسمعت... طقطقة مصاريع... رقرقة نهر هدار..؟! . بقي ذلك اليوم مشهودا، ومعين سؤال يتحرق بين أضلعي : كيف غبت بعدها ؟!...ربما أنت ترفل في رغيد عيش بين جنان يطو الظليلة المحصنة أسرارا، وربما "طفقتما تخصفان عليكما من ورق الجنة ". هكذا أجد رثيك الوحيد، لكن كيف تعقبت خطاها الخطفى على الأتربة الرخوة المتوحلة، وأنت من شرع يستلطف مذ وضعنا أيدينا على سلم المغارة، ونزلنا ندحص أرضها، والمصباح بيدك تسلطه على كل الجهات، فتنتصب جداريات صخرية تتلألأ. من الذهول أخذت تسمى الوجوه المنحوتة، وتعدد الأرجل المقطوعة الناتئة، وتحسب عظام هياكل مدلاة من أعلى. فانوسك الكهربائي انتكس تلقائيا، فخسأ البصر، ودارت بنا الأرض، وأصبنا بغثيان. لم تنفع أية محاولة في إصلاحه، وعمت دجنة الأبدية. تمالكت أعصابنا نفسها لحظة، ثم تفجرت صراخا، فتصارخنا معا، وصحنا بأية كلمة تستطيعها الشفاه. تساندنا الأيدي؛ نتأكد أننا لا زلنا بعد من الأحياء. خيم صمت رهيب؛ عشناه كغفوة أهل الكهف. اندفعت للأمام، جاءني نداؤك مجلجلا في بيوت الصخور. أسرعت أمد يدي في حركة دائرية، مسست ذقنك، خلته ناتئا من الجلاف؛ كقطعة خزف لم تجف بعد. كنت قد انضحضت تهوي في انجذاب لعجينة التراب. تمكنت بكد من إخراج يد واحدة، أخذت أجرك، بل أجر يدك فقط ، إلى أن تيبست أصابعك، وقد قبضت بمدلاة طويلة، كأنها تقرسنت سندا أسعفك للخلاص، فقاومت بضراوة حتى انسللت . اقتربت منك، كنت جسدا لزجا من طين. ما عدا لنا من أمل في الخروج من هذه الأقبية التي انحشرنا فيها كدود الأرض. تحجرنا، إذ اقتربنا من رقعة؛ تشابكت أيادي هوابطها من فوق بصواعدها من تحت. ورغم ذلك عاد لنا بعض الأمان، ونحن في حماية هذا الكف الصخري، ثم انتابنا إحساس بأننا بين فكي المغارة؛ يكفيهما أن ينطبقا قليلا، ليجعلانا مهضومين في أحشائها. يومها تيقنا من العقاب الطبيعي. عند كل ذبذبة نرتطم بمدلاة مسننة، أو صاعدة ذلقة. تورمت أقدامنا، ثخنت رأسانا، ويئسنا من التشار في الظلمات. عم الصمت من جديد في هذه المقبرة المجوفة، فقط...ستق...ستق...قطرات تستلقي من هابطات، تتلاحق، تعزف على صفحات الرطوبة لحنا رتيبا؛ بدد بعض الشيء من جلال الصمت القاتل. بسطنا أيدينا نتلقف حبيبات الماء السرمدي. كم كانت باردة ! لكن من أين تتهامى ؟ ! ... لربما جثمت علينا لعبة المحو؛ لما تركنا العالم خارج المغارة، يحيا صباح ربيع دافئ! . يطو جنية ساحرة الجمال، لها عين زرقاء وأخرى سوداء، تختطف العذارى؛ ممن يزورون المغارة، ويلجون عتبتها. تتزوج بأجملهم، وتبقي من هم دون ذلك خداما لها. مملكتها بسبعة أبواب، توجد أولاها عند ذلك الخط الذي يستحيل بعده إشعال نار، أو إضاءة مصباح. وبين عراصها يحيا الجميع في بحبوحة النعيم. وكثير من الزوار نزلوا عبر السلم، وتجاوزوا حد الإطلالة على المغارة، ثم اندلفوا للداخل، ولم يرهم بعد ذلك حبيب. هذا ما قاله أحد شيوخ القبيلة، والرغوة تزبد على شفتيه. أما الشاب الوسيم الذي أحرز على إجازته، وعاد لقبيلته في عطلة لا يدري قدرها، فقد حكى بغير قليل من التأثر قائلا: يطو فتاة جمالها يذيبك كشمعة، كانت عشيقة لفتى هامت به حبا. ولما رفض أهلها تزويجهما؛ هاجرتهم رفقة فتاها، وعاشا هنا حياة برية سعيدة، فصارت هذه المغارة قبلة لكل العشاق، يتيمنون بزيارتها، وينذرون عليها أحلام أيامهم. كنت أسأل بين المرة والأخرى، أسأل العديد من الناس؛ ممن يقيمون بتلك القمم والأحراش، علني أهتدي لما فيه بعض عزائك، فقالوا...الكثير قالوا...عرفت المغارة بنسبتها إلى يطو، تلك الفتاة الفذة التي عاشت في سالف الزمان بقبيلة (بني وراين) تاريخا مجيدا من البطولات ؛ إذ كانت تقود في جسارة بدون سابق مثيل المحاربين، وتصد المغيرين، ويدبرون خائبين، فتحولت يطو مع الوقت اسما فخريا؛ تسمى به الإناث تشريفا لهن. واقترن بعد ذلك بالمغارة العظيمة؛ التي توجد بأرض هذه القبيلة. هكذا تكلم بنبرة حادة كهل مفتول العضلات، وصارم الملامح، أمام جمع ذات مساء. ومن زخم ما رواه رجل لطيف شغوف بالتحقيق على بياضات التاريخ، كما يحلو له، ويخرجه بعدة أشكال وعناوين...هي شابة ساحرة الجمال عاشت في غابر الأزمان ، ربما في الفترة الأولى قبل إسلام الأهالي، والله أعلم، عاشت " قصة حب مجوسية ". انتقم أهل قبيلتها لشرفهم، بأن قتلوها رميا بالحجارة، وما يغلب على الظن أكثر أنهم وأدوها، كما كان يفعل الجاهليون الأول بمدخل المغارة. المهم قتلوها، وأصبحت مع مرور الزمن رمزا للحب والتضحية؛ حتى أنهم ركبوا اسمها تركيبا مزجيا باسم المغارة، فصارت (فرويطو)... هذا ما لملمت بعد جهد جهيد، نتف حكايا لا أول لها ولا آخر. ما أكاد أفلت من قلعة إحداها؛ حتى أرتمي في دوامة أخرى، وسؤالك ما زال يرج في الصدر. فهل سيسمون تلك المغارة البالوعة يوما باسمك، بما أنني شهدت ضياعك فيها؟ !. لم ندرك من ذلك اليوم غير صباحه الربيعي المشمس، فأشعة النور تهاوت دافئة ، وغابة باب بودير تينع، وتذر وهجها يوقظ الأزهار، والأعشاب وباقي الكائنات من إغفاءتها، ويجفف وجوهها. الصباح بري في قمة الصفاء. هذا ما نبست به قبل أن ساقتنا الأقدام لتلك المهاوي السحيقة.ولم نر من الخلق سوى بضعة متنزهين يتوزعون الروابي، وقناصين يدبون في اختيال بين أشجار البلوط والسنديان ، بعيون تلهث عن الطرائد. ولما لم تكدر زهو حركاتهم أية ذات جناح، ارتموا بين الأعشاب يستكنهون الحنو الغابوي. أحدهم يبدو أنه من أسبانيي مليلية؛ كان قد نزل من سيارة فارهة، يعتلي كتفه العريض باز ممتقع الصفرة. مشى صحبة رفيقة له، شقراء وشبه عارية؛ يتهاجسان في همس، ويتكاتفان. بندقيته استوت كذنب خلفه مشدودة لنطاقه الرصاصي. أوقفته لحظة، ثم دقت في غنج على صدره، فاسترخيا على مهد صخري، ينعمان بدفء الشمس والحب. فكيف حدث أن تركنا بهجة الحياة قرب هذه الكائنات، وأجهزنا على الفسحة الغابوية، وانقذفنا تائهين في بطن المغارة ؟! أسألك: أهو فيض من فضول ذلك العهد، أم قدر محتوم زج بنا في عتماتها ؟. أنت وحدك كما أرجح الأقدر على هذه المجابهة، طبعا إذا كنت لا تزال على قيد الحياة، وطالتك صدفة غارة هذه التواليف الراشحة، لتضيء ما بقي ظليلا. أتذكر بعد، كيف انسحقنا حيرة حين حوصرنا بلفائف الصخور في رحم تلك الكهوف؛ التي ثوت أسفل غابات تعانقت من بائد العهود، وسمقت في كبرياء ؟. هناك آن لنا أن نكتشف الظلام ليس كانعدام ضوء، وإنما كدهاليز انتصبت، منها ما ينفتح على أنفاق بلا نهاية؛ زادتنا رهقا عندما صرنا ننفلت من جحورها الصخرية، كما تفعل الجرذان، حتى صدمتنا طبقات الكلس والبازلت والملح، ورهنتنا براثن ردح من الأخوية، فألفينا أخيافا متنوعة من البشر تمر أفواجا ...أجسام مكدودة علق بها غبار، وتلونت بعناصر الأرض، ملامح تفحمت، عضلات ترهلت كدناتها، بطون تتضوع في العراء ، وأخرى تبحث في خشاش الأرض، فيما يهلوس وراءها حمقى وصرعى ومجانين على زفزفات الريح. التحق بهؤلاء رآبلة القوم ينشئون الكثير مما ينفع ولا ينفع، ثم يعيثون فيه خرابا، تماما كما كنا نلعب بالرمال عند الوادي. وتبع الجميع سيافون وجلادون. ويا لهول ما رأيناه .. امتلأت جنباب المغارة، ثم فاضت حواشيها بألوان من خطباء يتلاسنون، وقد نشبت بينهم حرب كلام مبهم، وعلت ثرثراتهم ؛ ارتدت لها أصداء تصم الآذان ، فتبددوا على إثرها كالسبئيين. بعد ذلك شاهدنا أجسادا تدك بعضها دكا، والأرجل تعفس على الرقاب الوهنة في سباق لم نر أبدا شبيهه، فيما هم يعدون على مدر لزج بلا خط وصول ، ولا شمس ، ولا ماء زلال، فقط سراب مترهره. لقد رأينا العجب العجاب في هذا العالم السفلي القاتم . والمغارة لم تزل بعد قصية عن الضوء – ولو بدت قناديل بعيدة تعد بابتعاث النور– تجهد فيها الأنفاس، ولا يطالعها شعاع. تهامسنا معا يومها إن كنت تذكر: ... إلى هنا تمتد مغارة الجنوب!.... ولك وحدك أدع فرصة الحديث عن أزعومة الأخرى في الشمال، فربما اختفيت، لأنك نزحت إلى هناك مع النازحين؛ ممن هربوا من جحيم الجنوب. ومن يدري... قد يكون الكون كله مغارة واحدة بجيوب لا تتشابه قط !. لقد تركتني هناك وحدي ... لم أجد لك أثرا، جلس أترقبك حتى شرخني الانتظار. العزف بمفرده يستمر يلهج بلحن الهوابط بلا كلل. ناديت بأعلى صوت، أكثر من أي وقت مضى، فيرجع من أصقاع الغرف الصخرية، يلاثغني في تقطع متكرر. تهت في سراديب المغارة بحثا عنك... تورمت رأسي أكثر من ذي قبل، وشلت رجلاي عن الحركة في مدر رطيب، وما عدت أقوى على شيء. مرت فترة طويلة، وقد تصلبت كصاعدة نابتة؛ إلى أن هتف صوت من أعلى. لم يكن صوتك، ولم أتبين ماذا يقول، ثم سمعت صليلا نازلا من فوق؛ طن في جمجمتي. نشبت أصابعي بشيء متسلسل، والصوت ما فتئ ينزل قويا؛ يرمم انكساري. شعرت أني أربو كقشة. انبعث نزق الأمل ، فتمسكت به أكثر كعلقة. كلما علوت قليلا، اقترب النور خافتا. فكنت عند السلم الملعون أشد على رباط الحياة. أعشاني ضوء باهر، وشملني تيار نسيم في دوار ... بعد حين كمن تفتق عن شرنقة ؛ فتحت عيني على عشب أخضر، أتنفس بقوة. بجواري الشقراء الناعمة تنظر إلي بعينين رحيمتين، ورفيقها يرمقها بطرف جاف. لم أكن لأهتم بما تعنيه نظرته ... صوبت عيني للسماء، كان قرص الشمس في الشفق خيوطا تتلاشى. قمت أجاري الريح؛ إلى أن احتميت بحصون المدينة، وارتميت في أحضانها. لكن أين أنت أخيرا ؟ . وهل تخلصت من الصواعد والهوابط...؟ !