عدت من العمل متعبا. انتبهت إلى ما يشبه الجرس، يرن في داخل رأسي. قلت، أنا في حاجة إلى حمام ساخن. لم أتردد في النهوض وغسل أطرافي الجسدية. رأسي لا يزال كما هو.. فكرت في كتابة قصيدة من أجل النشر. "المتكلبون في مدينة القمر". قلت العنوان جميل، غير أنه غير قوي كما أريده. ما أكثر الذين غيروا أفكارهم وسلوكياتهم وقيمهم من أجل أحلام... أحلام اللحظة لأشخاص فرادى، يقودون سفينة المجتمع بأكمله إلى الهاوية.. حتى وإن ظلوا محافظين على وجوههم وجلودهم الآدمية..، فهم تكلبوا، لكن بطريقتهم الخاصة.. أي بأسلوب عصري جذاب.. لا يثير الشبهة، مع العلم أن الكل اليوم يعرف الحقيقة التي لم تعد مخفية على أحد، حتى الأطفال الصغار باتوا يطرحون أسئلة الكبار الناضجة.. جلست إلى مكتبي. سحبت ستار النافذة الى اليسار.. نظرت نظرة خاطفة إلى شجرة الصنوبر الواقفة بجسدها السامق..، و كأنها تراقب المدينة من برج سحابة داكنة. عدت بسرعة إلى الأوراق أمامي. رتبتها بإتقان. أحيانا تحضر الأوراق وبعد ذلك ترحل عنك الكتابة... إلى أجل غير معروف.. وقفت بسرعة، وحضرت فنجان قهوة، أردتها سوداء. بعد ذلك وقبل أن أعود إلى مكتبي، توجهت ناحية الخزانة. تجولت ببصري بين عناوينها. تذكرت أنني منذ مدة لم أقتن كتابا جديدا.. يصعب الجمع بين الخبز وإحالاته وبين العلم، في واقع أنشأوا وصنعوا كل شيء فيه ليقوم بدورالمحارب والمقاوم لكل ما هو معرفي وثقافي وإبداعي يمس شعرة من مصالحهم، غير الشرعية أصلا. أحسست أنني سافرت في قاطرة أفكاري من جديد... شربت من كأس القهوة. لم يعجبني مذاقها ربما لبرودتها. عدت إلى كرسي مكتبي. قلت، سأحاول اقتناص ما تيسر من هذه الأفكار. جلست ثم شرعت في الكتابة. بعد لحظة، وجدت نفسي أكتب قصيدة.. كتبت: تشربني الحروف سائلا أحمرا و لن تسرقني رياح مدينة القمر، التراب وطني والوطن كلمة يسكنها الغراب.. والشمس مدينة تئن في قبضة خفافيش صديقة.. الوهن عذاب.. إن لم يركب موج البحر و يدفئ الكوخ بشعلة صرخة من جوف طفل... بدا لي المعنى غير جرئ..، أي عام، ويجانب إلى حد ما الفكرة التي أريد تبليغها للقارئ الكريم. كما يحاصرني النفس الإيقاعي الذي يجب أن ينسجم مع وجهة المعنى المتداول. لكن استعملت كلمة "يجب"؟ هل احتراما للشعر والشعراء أم لسبب آخر..؟ وضعت القلم على الأوراق البيضاء المبعثرة على مكتبي. شربت من الكأس السوداء. وقبل أن أضع الكأس على طاولة المكتب، رن جرس باب بيتي. تذكرت موعدي مع إسماعيل، صديقي الفنان التشكيلي، الذي وجد نفسه مرغما لبيع لوحاته في سوق "الخردة". نظرت إلى اللوحة الجميلة.. لوحة الأم.. التي أهداها إلي ذات يوم. وقفت بهدوء، ثم توجهت لفتح الباب. فاجأتني امرأة أنيقة تحمل حقيبة جلدية، تفوح منها رائحة عطر راق.. قالت بنوع من الأدب العفوي: - أسأل عن شاعر البلاط..؟؟ - عفوا.. سيدتي، لم يسبق لي أن سمعت بهذا الاسم.. ربما تكونين قد أخطأت في العنوان.. - إنهم أشاروا لي إلى عنوان هذا البيت.. بالذات، ها هو العنوان (أخرجت ورقة من جيب قميصها الجلدي، وابتسامة عريضة تعلو محياها.. أخذت منها الورقة المكتوبة بخط عربي جيد وعليه خاتم.. وتعرفت بسرعة على أن العنوان المكتوب فيها هو عنواني..). - بالفعل هو عنوان بيتي.. (فكرت في أشياء كثيرة، قبل أن أتلفظ بهذه الكلمات.. من تكون هذه السيدة؟ ولماذا تسأل عني..؟ ومن هو هذا الشاعر الذي سمته بشاعر البلاط..؟ توجد مسافة بعيدة جدا، بيني وبين "شعراء البلاط".. ثم ما الداعي إلى استخدام هذا التعبير، في هذا الوقت بالضبط.. واستخدامه ضدي شخصيا.. أنا الذي يعرف جميع القراء ومتتبعو شعري وكتاباتي النقدية والفكرية أنني لا أثق بتاتا في الكتابة، مهما كان نوعها، إبداعا أدبيا أو ثقافيا أو فكريا، تلك التي تنمق وتلمع الواجهات، وتنبطح من أجل تحقيق درجة عليا من درجات سلم الذل والرداءة والفساد الإنسانيين...) إنه موقفي وأعتز به.. - العفو.. نسيت أن أدعوك سيدتي للدخول.. (اعتذرت.. ثم أعادت طرح نفس السؤال..). - هل أنت هو شاعر البلاط..؟؟ (شعرت بسؤالها هذا الأخير، وكأنها كانت تتصنت على حديثي الداخلي.. فأرادت استفزازي..). - لا ..ولن أكونه أبدا.. سيدتي.. يمكنك القفز إلى العصر العباسي.. وستجدين هناك شاعرك... معذرة مجددا.. قلتها بنوع من السخرية... أما هي فقد غادرت المكان ودهشة واضحة بادية على وجهها الدائري.. دخلت وأقفلت الباب ورائي. اتجهت مباشرة إلى الثلاجة، عساني أجد فيها سائلا ملائما لحالتي في وضعية شاذة كهذه. نظرت من النافذة إلى الحديقة. بعد قليل سمعت أذناي هدير آلة قوي، قادم من الناحية الموالية لبيتي. لم أستسغ ما وقع، وما الذي سيقع. تجمع بعض أطفال الحي حول مكان تواجد الآلة الضخمة. كانوا يتابعون حدث سيرها البطيء تجاه ناحية الحديقة. هرع بقية السكان إلى الساحة الصغرى المجاورة للحديقة. خرجت من بيتي لأعرف ما الأمر. سائق هذه الآلة المدمرة شاب وسيم. كان يتحدث في هاتفه النقال بينما استغلت الفرصة واستدرجت ساكنة المنطقة نحوي، وشددت على عدم قبول تخريب حديقتنا، وتحويلها إلى مكان إقامة عمارة.. بعد قليل بدت لي من بعيد سيدة تنزل من سيارة سوداء فخمة. وكان برفقتها رجلان وعسكري... إنها السيدة التي كانت تسأل عن "شاعر البلاط" قبل نصف ساعة من الآن..