بمَ التعلّلُ لا أهلٌ ولا وطنُ ولا نديمٌ ولا كأسٌ ولا سكنُ أريدُ من زمني ذا أنْ يبلّغني ما ليس يبلغهُ منْ نفسِهِ الزّمنُ لا تلقَ دهركَ الا غيرَ مكترثٍ ما دامَ يصحبُ فيهِ روحكَ البدنُ فما يديمُ سرورٌ ما سررت بهِ ولا يردُّ عليكَ الفائتُ الحزنُ ما كلُّ ما يتمنى المرءُ يدركُهُ تجري الرّياحُ بما لا تشتهي السّفن المتننبي تعرفه مَنْ هو المتنبي ! والمُعرّف لايحتاج الى تعريف , فالتعريف به تصغيرٌ لنا وله ! , إذ كان محلهُ فوق محل الشمس , والدهر لشعره منشد , عرفته الخيل والليل ..والقرطاس والقلم , بيّن الله به الأقدار , فملأ الدنيا وشغل الناس.... كلّّ ُ هذا صحيح وأكثر منه أصح ,والدّرّ ُدرّ ٌ برغم من جهله , ولكن الصحيح أيضاً وأصح منه , كان فنّه أكبر من عقله , وخياله أوسع من فكره ,وطموحاته الدنيوية دون همّته الآبدية , وإنْ زعم , فما تزعم ! وما مبالغته سوى دليل على نقصه , والكمال لله وحده , وللعبقري الفذِّ واحدة (2) , وإليك ما تخيله واهماً متوهما : أيُّ محلٍّ أرتقي أيّ ُ عظيم ٍأتّقي وكلُّ ما قدْ خلقِ الل هُ وما لمْ يُخلق ِ مُحتقرٌ في همّتي كشعرةٍ في مفرقي الشرخ الرهيب , والهوة السحيقة الفاصلة بين واقع الحال , والخيال المحال , ومحاولة جمع النقيضين , والسلوك بمظهرين متضادين , جعله عاثرا مُعثَّرا , نظرة إعجاب وموضع إستهزاء , فمدَّ غربته بتغربه , حتى رأى الناس غير الناس , والدنيا غير الدنيا , والزمن غير الزمن , أراد أن يطوّع الزمن كما يشاء , أو أن تجري الرياح كما يشتهي !! والا : أذمُّ إلى هذا الزّمان ِ أهيلهُ فأعلمهمْ فدمٌ وأحزمهمْ وغدُ وأكرمهم كلبٌ وأبصرهمْ عمٍ وأسهدهمْ فهدٌ وأشجعهمْ قردُ أمّا بعد :هذا التغرّب النفسي الذي أجّج هياج المتنبي وتمرّده , وأدلع همّته بغربته وتنقله....رسمته لنا ريشة الشاعر الفرنسي الشهير شارل بودلير, رائد الحداثوية الشعرية الثاني , بعد تسعة قرون فاصلة بينه وبين عملاقنا العربي (3) , وعبّرعنه أجمل تعبير في (أزهار الشّر) , وبيّن أبعاده بعد انتكاساته المريرة في الحياة , لتناقضاته الغريزية مع مفاهيمها , وأعرافها الكيدية : الشاعرُ أشبهُ الأحياءِ بأمير ِ الجواءْ يقتحمُ العواصمَ ولا يبالي الرماة ْ وهو في أوج ِ السّماءْ ولكنّه في الأرض ِ غيره في السّماءْ غريبٌ طريدٌ..موضعُ ازدراءِوعرضة ُاستهزاءْ إنّه متعثر الخطوات لأنَّ جناحيهِ الجبارين يعوقانه عن المشي حقّاً عاقاه عن الإندماج مع خلق الله , فعاش تعيساَ بائسا منكسرا , لم تكن لديه همة المتنبي وتحديه وصراعه , لاختلاف عصريهما ومكانيهما ونفسيتهما ,ودور الشعر في بيئتيهما وتوجهاته , ولكن بعد عشرين عاماَ , أعيد الأعتبار للرجل ,حتى أصبح اسمه الحد الفاصل بين مرحلتين من الشعر العالمي , خُلقت الحياة عادلة - حتى الموت ! - لوضع الأمور في نصابها الصحيح , ولو بعد حين , صلبت السيد المسيح وألّهته , وقتلتْ الأمام الحسين و خلّدته ,وسخرتْ من ابن الرومي وشهرته ,ونبذتْ بودلير فعولمته . مهما يكن , نعود الى (كتابنا ) ومنهجيته والإغتراب النفسي ورؤىً أخرى لتعريفه , فهو الهوة الفاصلة بين طموح العبقري وشدة نبوغه ,وثقب بصيرته , وبين الواقع المعاش , حيث تتضارب المصالح , وتزداد عوامل الحسد والحقد , كلما همَّ ليرتقي سلم المجد , وتطلع ليسمو الى آفاق الخلود , لذا يصبح الأغتراب - في أبسط معانيه - هو تصدع ذات الفرد وانشقاقها ,نتيجة عدم تواؤمها مع المجتمع والعالم المحيط بها , فإننا نستطيع أنْ نتبين هذا الإحساس مع بدايات تعبير الإنسان عن مشاعره وموقفه من الحياة , ,وزادت الحياة المعاصرة من عوامل الإحساس بالإغتراب (4) , ولما كان - كما يقول ( إليوت) - " العباقرة على مرّ الأيّام , قد سبقوا الأزمنة التي عاشوا فيها , والأجيال التي عاصرتهم بفضل آرائهم السديدة , وفكرهم الثاقب , وبصيرتهم النفاذة إلى أعماق الأمور , وبواطن الأحداث " (5) , فإنهم الأكثر إحساساً بالإغتراب الى درجة قد تنفصم العرى بين المثل العليا التي يؤمنون بها , والواقع المرير , فتصبح الحياة بالنسبة لهم انطوائية ميؤوساً منها , فيقبع العبقري في قمقم ذاته, لا يرى الاّ من منظار التشاؤم الأسود ,فينهار ويتلاشى , وقد يفقد الصلة بالحياة أحياناً , مما قد يصل الى درجة الجنون , ولله في خلقه شؤون ! , ولا نريد تناول موضوع ( العبقرية والجنون ) , ففي الكتاب له فصله المقرون , ولكن من الضروري أن أشير الى ما ذهب إليه الفيلسوف الألماني (آرنست كاسيرر1874 - 1945م) في كتابه (مقال عن الإنسان) : إنّ الإنسان لا يحيا حياته العملية في الوقائع ذاتها , أو في حاجاته الطبيعية المباشرة , ومخاوفه , بل يحيا وسط عواطف متخيلة ,وآمال ومخاوف وأوهام و أحلام , لذلك أنّ ما يزعج الإنسان , ويبعث الاضطراب إلى قلبه ليس الأشياء ذاتها , بل أفكاره ومعتقداته الخاصة بهذه الأشياء . وللمتنبي قول رائع يصب في هذا المعنى , ولا أراه الا ما رأى نفسه بهذا البيت , ولو أنّه رمى به غيره : إذا ساءَ فعل ُالمرءِ ساءتْ ظنونُهُ وصدّقَ ما يعتادُهُ من توهّم ِ ولاريب , أن العباقرة والمفكرين والشعراء هم أكثر الناس تفكيرا وتوجسا وتخيلا , ومن هنا نتفهم بسهولة قوله الرائع الآخر : ذو العقل ِ يشقى في النعيم ِبعقلهِ وأخو الجهالة في الشقاوة ينعمُ للتغرب النفسي ظروفه الذاتية والموضوعية التي تتفاعل حيويا في عقل ووجدان العبقري في لحظات معينة - قد تطول , وقد تقصر - لتنعكس على شكل إبداع أو كآبة أو تصرف ما , وإذا زادت شدّته , وطالت مدته , قد يؤدي إلى حالة جنون أو فسحة مجون ! نكتفي بهذا القدر , لأريح واستريح ,و لنشرع في الحلقة القادمة مع أبي العلاء المعري , وغيره من عباقرة العرب والغرب , والإنسان إنسان , فالخلق واحد , والله الواحد . (1) الحلقات تعتمد بتصرف كبير على الفصل السادس من كتاب لكاتب هذه السطور تحت عنوان (للعبقرية أسرارها تشكّلها...خصائصها...دراسة نقدية مقارنة) دارفجر العروبة - 1996- دمشق. نفد من الاسواق منذ تاريخه. (2)إشارة الى بيت الجواهري من قصيدته عن أبي العلاء المعري: وأنّ للعبقريِّ الفذ ِّواحدة ً إمّا الخلودَ وإمّّاالمالَ والنّشبا (3) المتنبي : أبو الطيب , أحمد بن الحسين الجعفي الكندي ولد في الكوفة ( 303ه - 915م ) , وقتل بالقرب من النعمانية, عند دير العاقول سنة (354ه - 965م) ,في موضع اسمه (الصافية ), أما شارل بودلير,شاعر فرنسي عالمي شهير ,اشتهر بعد موته قضى حياته بين (1821 - 1867م ) ,أ شهر دواوينه ( أزهار الشر) ,الشاعران أشهر من نار على علم , ذكرتهما لتحديد عصريهما . (4)راجع ,الدكتورة أحلام الزعيم :أبو نؤاس بين العبث والأغتراب والتمرد ص 87. (5) الدكتور فائق متي : إليوت ص 37- دار المعارف بمصر .