تكاد أغلب الروايات العربية تكرس صورة نمطية، عن المرأة العربية.. كضحية المجتمع الأبوي، ولا يمكننا إنكار هذه الحقيقة، مثلما لا يمكن تجاهل أن الرجل العربي -أيضا- ضحية، فيلجأ إلى التنفيس عن مختلف ألوان القهر، التي يكابدها في حياته اليومية بممارستها على الكائن الأضعف.. لكن هذا القهر يكون أبشع حين تكتب المرأة عن المرأة، فبدل تشريح المعاناة الحقيقية للمرأة، تجعل الروائيات الجسد محور أحداث الرواية/البكائية. ***** لقد استطاع نجيب محفوظ أن يحفر (يخلد) في الوجدان العربي شخصية "أمينة" في ثلاثيته الشهيرة، ففاقت شهرتها كل شخصيات نجيب محفوظ، ولا يخفى على القارئ اللبيب الدور الخطير للسينما والتلفزيون، حين تم نقل الثلاثية إلى الشاشتين، في حين لا أحد يستطيع أن يستحضر أية شخصية في روايات يوسف السباعي وإحسان عبد القدوس، رغم أنهما كرسا كل كتاباتهما - تقريبا- للدفاع عن هذا الكائن الهش المهمش. أما الكاتب المصري محمد البساطي، فمثلما رسم لنفسه مسارا إبداعيا متفردا عن أبناء جيله، فقد أبدع في "خلق" شخصيات أنثوية خالدة، لها ألقها الخاص، بل إن القارئ يدهش من قدرته الفائقة على الغوص في أعماقهن؛ هذه القدرة التي تجعله يتوهم كاتب الرواية امرأة وليس رجلا، فضلا عن ذلك فمجمد البساطي ليس كاتبا "نسوي" النزعة، وإنما كاتبا إنسانيا كرس إبداعه للكتابة عن مختلف أشكال القهر الذي يتعرض لها الإنسان العربي، سواء كان رجلا أو امرأة، طفلا أو عجوزا، وهذا ما يتضح جليا في رواية "جوع".
• "فردوس" : تعد "فردوس" بطلة الرواية التي تحمل اسمها من أشهر نساء محمد البساطي وأكثرهن عذوبة، وهي تكاد تتماهي إلى حد ما وشخصية "سعدية" في رواية "بيوت وراء الأشجار". ترصد الرواية تفاصيل معاناة تلك المرأة الجميلة الوحيدة المحرومة، التي تخلص منها أخوها بتزويجها للفلاح "موافي"، رغم أنه متزوج، والذي سرعان ما سيهجرها، ويعود إلى ضرتها، بعد أن تأكد من عقمها، ويبدأ ابن زوجها "سعد"، المراهق في التحرش بها، فتحلم بفتوته التي افتقدتها في الزوج الغائب، وتقع ضحية صراع داخلي، يؤججه تلصص المراهق مع أترابه عليها، حتى وهي في بيتها، ويعبر عن اشتهائه الصامت لها بالحديث عن كلام أقرانه، الذين يحاصرونه بأسئلتهم عنها. ينجح "سعد" في اختراق قلاع عزلة الخالة "فردوس"، وتشي انتظاراتها لزياراته الليلية، وتجد نفسها مدفوعة لأن تخرج بحثا عنه بين أقرانه، عندما افتقدت حضوره.. ويباغتها، في الليلة التالية، بإشارته إلى أن رفاق السوء أدركوا أنها خرجت للبحث عنه، رغم تسترها بعباءتها و بالليل، فقد عرفوها من خلال "الشبشب" الذي لا ينتعله سواها. ومثلما تغاضت عن تحرشاته، لا تعترض على استيلائه على طعامها، الذي تخزنه لليوم التالي، حتى تستريح من الطبخ، بعد أن يتسلل إلى بيتها، وتفلت منه الصيحة في المطبخ : -"مهلبية يا خالة. مهلبية. وثلاثة أطباق. يا قوة الله.". ولكي لا تنهار، تقاوم بالحلم، بعد أن تستيقظ في الليل، تمضي إلى النهر، هائمة بين الحقول.. مقتربة باستيهاماتها من أولئك العشاق الصغار. وعند تفكيرها في ترك بيتها، تأخذ معها كل متاعها، كي لا تترك أي شيء لضرتها، وهذا المتاع ليس سوى "أربع قطع صابون"، "شباشب" و "البيض تسلقه وتأخذه لكي لا تترك شيئا لأحد"، وتكوم كل ما لديها في صرتها، تسحب العنزة و تغلق باب الدار خلفها! لكنها تعود في نفس الليلة، بعد أن تتذكر قسوة معاملة زوجة أخيها لها، التي تعاملها كخادمة... وحين بدأت تستأنس بحكايات سعد، وتجد في حضوره بعض السلوى، يفاجئنا محمد البساطي، وكعادته في أعماله السردية، بأن تعلم وهي في بيت ضرتها، أن سعدا سيتزوج إحدى قريباته. وتجدر الإشارة إلى أن هناك من اتهم البساطي بالسطو على فكرة رواية "مديح زوجة الأب" (وفي ترجمة أخرى"امتداح الخالة")، لكن ل"فردوس" فرادتها السردية واللغوية، وشتان بين العملين، ومناخيهما، كما أن الكاتب قد عايش هذه التجربة عن قرب في طفولته، لهذا أضفى سحر القرية على رواية "فردوس" ألقا سرديا، تفتقده الروايات التي تتطرق إلى مثل هذه العلاقات الآثمة، فتغرق في "فضائحية" و"ابتذال" روايات الأبواب المغلقة. • "دق الطبول": في رواية "دق الطبول" تشدنا شخصية زاهية، الوصيفة المصرية لإحدى السيدات الخليجيات، وهي تبوح لجارها المصري، في كل ليلة، بحكاياتها اللا متناهية، وكأن هذا البوح إشباع لشهوة الحكي /الكلام لدى المرأة في المجتمعات العربية الشفاهية، تلك الشهوة المتوارثة عن الجدة شهرزاد. تبدأ بالحديث عن السيدة خديجة، وقراءة ألف ليلة وليلة، ثم استدراج السيدة لها إلى تلك اللعبة، لكي تسترد زوجها.. فيعود إليها ويبيع "شقة الحرية"، (ومعذرة إن استعرنا عنوان غازي القصيبي)، وذلك بإغرائه بالخادمة والاتفاق معها على أنها ليست على علم بعلاقتهما... هذه العلاقة ستثمر ابنا، ستحرم منه زاهية، وينسب لخديجة التي لم يسبق لها أن أنجبت، والمدهش أن زاهية متزوجة ولها بنت، وتواجدها في الإمارة كان بهدف مساعدة أسرتها. يقيم سالم/الرضيع في حجرة لوحده، وتقاوم زاهية دموعها حين تنزل لترضعه، وحتى المربية تصدها. وكانت تفضل أن ينام في حضنها، وتربت على ظهره... يكبر سالم ويلعب في الحديقة مع المربية، متجاهلا أمه، ولا يستريح لغير المربية، ويرتمي في حضن خديجة (السيدة) ولا يهتم بها، يزداد ابتعادا كلما كبر، وتكتفي بمشاهدته من بعيد... • "أوراق العائلة" : ماذا يحدث حين تتزوج امرأة جميلة ومتعلمة رجلا أميا، مهووس بالتحرش الجنسي بكل االنساء؟ ظهور شخصية الجدة زينب في المتن الحكائي، سيمنح الرواية هالة من الشفافية والشجن، فبعد الشهور الأولى لزواجها، وبعد أن اشتد خصامها مع أب السارد/الجد شاكر صارت تتناول الزوجة الشابة (الجدة زينب) عشاءها مع الجد كامل في غرفته، بينما زوجها في حجرته يغير ملابسه مستعدا للسهر خارج البيت.. في الأفراح والموالد، وأحيانا، يسافر مع رفاقه إلى "كازينوهات" المنصورة. بعد أسبوع من زواجها، تظهر الجدة زينب للبنات بوجه تعلوه الكدمات، لكنها لا تشكو ولا تهدد بالعودة إلى بيت أهلها.. وبعد تحضير الغداء، تحرص على الذهاب- بنفسها بدل الخادم- إلى الحقول، راكبة الحمار، وفي طريقها تمر برجال القرية، وهم مسترخين على كراسي المقاهي، والنساء على المصاطب، وبعد أن يتناول الجد كامل طعامه، يجلسان - معا- تحت شجرة التوت، وهو يعد الشاي. وبذهابها كل يوم، يبدأ التهامس حولهما، ولن تتوقف عن الذهاب الى الحقول إلا بعد الشهر الثالث من الحمل، ويستمر الهمس الآثم حتى بعد ولادتها، حيث سيندهش الجد شاكر (الزوج) عند سماعه بخبر إنجابها، وقد كان غائبا عن البيت كل تلك المدة، فيتلقى التهاني في البيت صامتا شاردا، وبعد يوم وليلة، يعود إلى حياته السابقة، و ستكون المرة الوحيدة التي يرى فيها ابنه، وقد بلغ عاما.. من خلف زجاج المقهى، والجد كامل يتجول به على متن فرسه.. ويزور بيت أهل الجدة زينب، يبلغ والدها بأنه ينوي الطلاق، فلا يعارض، وفي نفس الليلة يتوقف "الحنطور" أمام البيت، وينصت الجد كامل مطرقا.. بعدها تخرج الجدة زينب حاملة بعض الأغراض، التي تخص الطفل/ والد السارد. وسيعتاد الجد كامل على الذهاب كل جمعة إلى بيت الأهل.. يوقف الفرس على بعد خطوات، يرسل في طلب الحفيد، (المثير أن تعلق الجد الشديد بحفيده، ومن قبل، كان يعامل ابنه (الجد شاكر) و والدته بقسوة). لا يحاول أن يطرق الباب ولا أحد يخرج إليه من الكبار، وفي وقفته وهو ينتظر حفيده، يسمع صرير شيش شباك يفتح، ويلمح بطرف عينه الجدة مورابة ترقب خروج ابنها. تغدو عليلة، طريحة الفراش، ذابلة، كما تروي إحدى زائراتها، وبعد خمسة أشهر من طلاقها تموت. و حين طلب الجد كامل من حفيده/ الراوي أن يصطحبه في الخارج وفي وقت متأخر... وقبالة البيت، يشير إلى ذلك الشباك، حيث كان يراها خلف الشيش، عندما يجيء لاصطحاب حفيده/ والد السارد.. ويلمح ذراعها على قاعدة الشباك. يعرفها من خلال الخاتم، ذي الفص الأحمر، ويرى خصلة من شعرها تطير، بعد أن تسربت من فتحة الشيش.. طوال الوقت تنتظرهما في وقفتها تلك، وهي قلقة. وعند موت الحفيد/ والد السارد يهتف الجد كامل ملتاعا: " أخذته. ماكانت لتتركه طويلا معنا". ***** لقد استطاع محمد البساطي من خلال الهشاشة والشجن والشفافية رسم شخصيات تتسلل إلى قلوب قرائه، بدون استئذان.. فتأسره بعفويتها وسحرها وشجنها، دون محاولة استجداء عواطف ودموع القارئ بطريقة ميلودرامية فجة، والتعبير بصدق عن معاناة نصف المجتمع... بدون المتاجرة بها، بحثا عن مآرب أخرى. إن محمد البساطي إنساني في كتابته إلى أبعد الحدود.. ينتصر للجمال والإنسانية وكل القيم النبيلة؛ كاتب موهوب متمكن من أدواته الفنية، بخلاف كثيرين يحاولون إنصاف المرأة، فتغرق كتاباتهم في السرد الشبقي أو الصخب الإيديولوجي. ختاما، نؤكد أن تركيزنا على الروايات الثلاث لا يقلل من أهمية باقي روايات محمد البساطي، أو الاستهانة بالمنجز الإبداعي لهذا الكاتب الكبير، لكن هذه الشخصيات النسائية الثلاث تبدو من أجمل نساء البساطي وأرقهن... نساء لا يمكن نسيانهن أبدا، لذا حاولنا تقريبهن إلى القارئ.. لعله يشاطرنا بعض محبتنا لهن.