يذهب عدد من الباحثين إلى تعريف الشخصية بأنها "ذلك المفهوم أو ذلك الاصطلاح الذي يصف الفرد من حيث هو كل موحد من الأساليب السلوكية والإدراكية المعقدة التنظيم التي تميزه عن غيره من الناس، وبخاصة المواقف الاجتماعية"(1)، وتبدو أهمية هذا التعريف في كشفه عن مضمون الشخصية وحدودها ووجودها، وتفكيك عناصر بنائها. وإذا كان مدار دراسة الشخصية يتحدد من خلال البيئة الاجتماعية، وعلى العوامل الزمانية، إضافة إلى العوامل النفسية والسلوكية، فإن العلماء وجدوا صعوبة واضحة في تحديد معاني للشخصية، حيث توصل العالم "ألبورت"إلى تحديد ما يقرب من خمسين معنى اتخذها هذا اللفظ في شتى استعمالاته، ومع ذلك فقد توصل إلى تصنيف هذه المعاني على كثرتها إلى صنفين؛ يتعلق الصنف الأول بالمظهر السطحي الخارجي، والثاني يتعلق بجوهر الإنسان، أو طبيعته الداخلية.(2) هكذا نرى أن الاصطلاحات ذات الدلالات المعرفية الخاصة تضع مفهوم الشخصية في أطر متعددة يمكن من خلالها تناولها وتحليلها. سنحاول من خلال النماذج الروائية المدروسة تحديد ملامح الشخصية الريفية وفق مادة النص الإبداعي، على اعتبار أن الشخصية الريفية موجودة ومجسدة في أعمال الروائيين الجزائريين على اختلاف اتجاهاتهم وقدراتهم التعبيرية. وسنركز في هذه الدراسة على النماذج الريفية: 1- الرجل الريفي 2- المرأة الريفية 3- الجماعة الريفية 1. الرجل الريفي: تهيمن سلطة الرجل وتتحكم في مسارات الحياة كلها في المجتمع الريفي، فالتكوين الاجتماعي ذكوري السمات، ومن ثم فإن من الطبيعي أن يحتل الرجل الريفي المساحة الأكبر في الروايات المدروسة، فهو يشكل -غالبا- النموذج الروائي الذي تدور حوله أحداث الرواية وشخصية طاغية على غيره من الموضوعات الريفية. وتتجسد فيه خصلة البساطة والروح الإنسانية النقية على الرغم من اشتداد عوامل البيئة والزمان وتأثيرات المحيط الاجتماعي القريب من قريته وريفه في المدن. ملامح الشخصية الريفية في هذه الروايات تسعى لتأكيد سمات خلقية لا توجد عند أناس آخرين، لذا عمد الكتّاب إلى التركيز عليها، في المقابل لم يكن الوصف الجسماني الذي يعمق الرسم الحسي حاضرا بكثافة، خاصة في تثبيت القرائن بين شكل الإنسان ومحيطه الخارجي القاسي. يعقد مولود فرعون في (الأرض والدم) مقارنة بين رجل ريفي وآخر قادم من المهجر: "وجد نفسيهما وجها لوجه في المنعرج الذي يخفي المقهى، أحدهما طويل قوي صحيح معافى والآخر قصير أعجف نقي نظيف في قندورته الحريرية الزرقاء".(3) في رواية (الحريق) يركز الراوي على الرجل الريفي على أنه "قاس، صلب، إن وجهه وجه مقاتل قوي الشكيمة... إن شاربيه الطويلين يتهدلان على الجانبين تهدل جلد السوط...".(4) وفي مكان آخر يحدد الكاتب ملامح فلاح مريض: "استدار الشاب حتى قابل بوجهه الشمس، فظهرت البقع السوداء التي تحت عينيه كانت الملاريا تنهشه نهشا. إن نظرته متقدمة محمومة، وبدا وجهه الذي أخذت تنبت عليه لحية جعداء، بدا أصفرا ضاربا إلى خضرة بلون الزيتون".(5) ويبدو الفلاح على طبيعته الحقيقية عندما لا يريد أن يغير من مظهره، وأن يعطيه صفات مظهرية خاصة، ففلاحه دائما تراه "ذاهبا كل صباح إلى الحقول، فأسه على كتفه، وبلغته في رجله".(6) ولكن عندما يريد رصد ملامح شخصية ريفية قد ابتعدت عن الفلاحة لسبب معين، فإنه يعمد إلى ذكر صفات الضعف "أمسك عامر المقبض الخشن بيده الطرية المشحمة، وهو في أشد حالات التأثر لدرجة لم يستطع معها رفع صوته"(7) وكأن الرواية ترشح نموذجها بهذه الأوصاف للخروج أساسا من عالم الفلاحة الذي يحتاج إلى رجل صلب قوي له عضلات، له خبرة بالفلاحة :"لقد كان لسليمان خمس فتيات ليس من بينهم وريث ذكر واحد، وقد اشتهر بكونه فلاحا ذو فراسة لا يخطئ، فكان يستفسر عن بداية البذر، كما يستشار في غرس الأشجار، أو تشذيبها وكأن الرزنامة مدونة في رأسه، يحسن الحساب أفضل من المرابط... وكان يتنبأ مسبقا بتساقط الثلوج والجليد، ويعرف جميع الأمثال التي بمثابة قوانين للطبيعة، التي تكشف الأفعال المفاجئة للمتغيرات الجوية، ويعرف كيف يلاحظ الحشرات والطيور والحيوانات، ويفهم ما تبلغه له عن الطبيعة. فقد كان مزارعا ماهرا، ومن البديهي أن يقبل الأفراد أن يكون هو الذي يحرث الخط الأول في شهر أكتوبر، وقيل أنه كان قويا جدا، طويل الهامة، كث الشعر، يأكل كالثور ويعمل مثله".(8) تتميز شخصية الرجل الريفي بسجايا وسلوكات تلقائية تبعده عن التكلف والمداراة وتقربه من البساطة والنقاء، ويمكن أن نمثل لها بموقف صالح بن عامر مع الطفلة بائعة الزعفران: "... وجد عند ركبته طفلة بحجم النملة تحاول أن تساعده على إزالة الوحل من ألبسته، تلف رأسها بخرقة حمراء، أنفها ملتهب من البرد. تلحس بلسانها كالبقرة، وبتلذذ كبير مخاطها السائل على شفتها العليا. -عمي صالح تحتاج الزعفران؟. نظر إليها بعينين موجوعتين: -يا بنتي البرد عليك لماذا لا تعودين إلى بيتكم وترتاحين؟. -يمّا مريضة يا عمي صالح وحق راس عودك ما عنديش باش نشري لها الدواء. وضع دينارا في كفها المرتعش من شدة البرد، أسنانها كانت تصطك. أخرجت من الكيس البلاستيكي علبة زعفران ووضعتها في جيبه، ثم انطلقت في السوق...".(9) ويرصد المقطع الآتي سلوكا فطريا بالغ العفوية والتلقائية يجسد كرم الرجل الريفي: " ترك ابن الجبايلي عايد في حجرة الضياف التي لها باب خارجي وآخر داخلي، ودخل الحجرة العائلية يخبر زوجته: -قومي يا ابنة الناس، لقد جاءنا ضيف من أعز الضيوف، أعدي لنا عشاء طيبا، لا تستعملي الكسكس الجاهز، افتلي للعشاء كسكسا جديدا من قمحنا، وأنت يا حجيلة، هيا قومي أعينيني لنذبح الخروف".(10) مثل هذه المقاطع تبلور البساطة في فلسفة السلوك الإنساني، والقناعة الفكرية التي يحملها الإنسان الريفي. وفي المقطع الآتي سينطق الكاتب رجلا ريفيا يجلس بين الناس ليجعله يفلسف حالات سياسية، وقضايا دينية، ومواقف كبيرة منطلقا من الفهم البسيط الذي يميز شخصيته. "يسرد الآيات دون فهم، وينسب كلاما تافها إلى الرسول أو الصحابة، ويصلي بمناسبة وبدونها، ويرى أن كل ما يقوم به البشر لا يعدو التمثيل لرواية مكتوبة في اللوح المحفوظ منذ الأزل".(11) ويظهر أن شخصية هذا المسؤول السياسي تجهل طبيعة الدور النضالي لحركة التحرير حين يفسر فترة الاستعمار وكيفية خروجه تفسيرا خرافيا "يستشهد في كل حديث بقول سيده علي بن الحفضي: فرنسا تخرج ويداها في الطين. ويسأل باستمرار هل شرعت في البنيان؟ لأن تلك علامة على نهاية وجودها، تخرج ويداها في الطين. قيل له مرة: إن البنيان الذي تبنيه فرنسا بالإسمنت وليس بالطين. ضحك الجنود من أعماقهم... وأكد أن السيد علي بن الحفصي يعي ما يقول وليس غريبا أن ينقطع الإسمنت من الأرض ما دام السيد علي بن الحفصي قال ذلك".(12) من جهة أخرى كان الاهتمام واضحا بسبب ظروف الواقع المعيشي على تكوين ملامح الإنسان، فالرجل الريفي تتقاسمه هموم الفقر والمرض والبطالة التي غالبا ما تجعل حياته مهددة أو قاب قوسين أو أدنى من الانسحاق الكلي أو الضياع. ففي (نوار اللوز) نلتقي بصالح بن عامر الزوفري في قرية المسيردة "تصور يا القهواجي خويا، يا "رومل" تصوري يا الجازية، يا أخت الحسن، لو وجدنا شغلا في حي "البراريك" ما أكلتنا مخاوف الحدود، حين نفقد طعم الحياة، نعود إلى أكل بعضنا البعض، نتآكل فيما بيننا كالحيوانات المفترسة، لا شيء في هذا الحي غير البرد والجوع، وبيوت التنك والوحل، وتصفية الحسابات القديمة بالمدي والسكاكين والجنازات".(13) كذلك الحال في (الحريق)، حيث يعيش الفلاحون حياة الفقر والعوز: "تلك قسمة الفلاح سيظل طوال حياته يعيش على هذه الأرض نفسها، تحف به هذه السماء نفسها، تحد نشاطه هذه الجبال نفسها، تقوم أراضي المستوطن الفرنسي سورا من حوله لا مخرج له منه، يعاني الفقر ويستقبل بجسده الأمطار، ويحتمل الحر المحرق، ويكابد ألوان القلق والخوف، فكل ذلك قسمته..".(14) 2. المرأة الريفية: في المجتمع الريفي الذي يغوص الروائيون في عوالمه، تكون المرأة حالة مهمة من الحالات الإنسانية التي تتحرك على تلك المساحة، فهي وجود إنساني له ثقله ودوره وعلاقاته المؤثرة وأسبابه الاجتماعية المرتبطة بحركة المجتمع وتطوره. ولأن المرأة الريفية وليدة مجتمع ريفي، لبيئته وعوامله الاقتصادية والاجتماعية تأثيرات مباشرة عليها، فقد كان لا بد من طبع المرأة الريفية بسمات كلية متميزة من حيث الوعي والملامح والسلوك. في (الحريق) يصف "كومندار"نساء بني بوبلان: "أما النساء في بني بوبلان فقد لوحتهن الشمس حتى صرن بلون العسل، إنهن كالذهب، ومع ذلك لا شيء من هذا يدوم لهن طويلا، إن اللعنة القديمة تلاحقهن، فما أسرع ما تصبح أجسامهن أجسام حمالين، وما أسرع ما تتحفر أقدامهن التي تطأ الأرض، فإذا هي ملأى بشقوق عميقة، جمالهن يذبل في لمح البصر، بطريقة أو بأخرى، ولا يبقى لهن من آثار الجمال إلا صوتهن البطيء العذب الرخيم. غير أن جوعا رهيبا يسكن نظراتهن".(15) إن هذا التشكيل هو جزء من المعاناة والقسوة التي تطبع حياة المرأة الريفية في بني بوبلان، معاناة أفقدتها جمالها ونضرتها وصحتها. كما سعى الروائيون إلى إظهار جمال المرأة الريفية على حدود فهم الجمال لدى الريفيين. ففي رواية (الأرض والدم) يصف الراوي جمال امرأة ريفية: "هي الآن في الثامنة والعشرين ومع ذلك لا تزال في هيئة الفتاة الصغيرة، مكتنزة، معتدلة القوام شهيته، سحنتها كامدة وناعمة، وجسدها لين حار، ووجهها يقظ تزينه عينان سوداوان واسعتان، وفاهها تزينه شفتان طريتان لا تفارقهما الابتسامة، وتعرف كيف تصعر خدها ببراءة كبراءة الطفل المتضايق".(16) ويبرز الراوي المرأة الريفية وقد أجهدت نفسها لإكمال وضعها الجمالي "...وبعد الحمام، أخرجت جبتين لديها وحزامها الحريري ومنديلها الجديد، ثم سرحت شعرها وتعطرت... وبعد أن تفننت في إظهار جمالها لغريمتها، استقبلت حسين بكل أنواع الإغراء الذي هيأته له".(17) من جانب آخر تظهر المرأة الريفية على أنها العالم المستباح من قبل سلطة الرجل، وسلطة المجتمع اللتين تحملان لها الظلم دوما. تمثل شخصية ابن القاضي السلطة الأبوية، سلطة القمع الاجتماعي التي لا تعارض، خاصة في مسائل الزواج. فعلى لسان زوجته خيرة يظهر استسلامها أمام رغبة الزوج في زف ابنته نفيسة لمالك شيخ البلدية"ربي قدر هذا، ثم حظي العاثر".(18) ومن جهتها تظهر نفيسة المعنية بهذا الزواج مضطهدة ومغلوبة على أمرها "في الجزائر كان المستقبل وحده الذي يهمني، أما هنا فأبي هو المستقبل، أبي هو مالك مستقبلي، أبي يملك حياتي وحياة أمي... حياة المرأة ملك الرجل".(19) وتأكيدا لما جاء على لسان الأم، يعلق الكاتب "سواء كان المكتوب أو الحظ العاثر أو شيء آخر منع هذه الأم من الإدلاء برأيها في هذا الموضوع الهام بالنسبة إليها، فإن الزوج كان مصرا على أن تكون له الكلمة وحده".(20) في (الحريق) يبدو المشهد الآتي مجسدا لهذه السلطة المطلقة للرجل على زوجته لدرجة الضرب المبرح، حين تتجاوز المرأة الحدود المرسومة لها. فهذا قاره يمارس سلطته على زوجته ماما حين اتهمته بالمساهمة في حرق الأكواخ "فعقد ذراعه حول عنقها يخنقها، عقف في أول الأمر قبضة يدها فكفت عن الصياح، ولكنها ما لبثت أن تملصت منه فجأة بحركة مباغتة لم تحاول بعد ذلك أن تتخلص ولا أن تقي لطماته. أصبحت تتلقى الصفعات على وجهها بغير اكتراث، وأخذت قبضة الرجل تهوي على وجهها عدة مرات واستطاعت ماما عندئذ أن تتنفس ببطء شديد كانت شفتها السفلى مشقوفة متدلية دامية...".(21) في (الأرض والدم) يدفع العرف الاجتماعي وسلطة الرجل عامر أوقاسي العائد من فرنسا إلى تشديد الحجاب على زوجته "ماري"من أجل إخفائها عن الناظرين، "فذلك لأنها لا تصلح لأي شيء خارجه، أتحمل القفة أم الجرة ؟ مستحيل! وما دام الأمر على هذا النحو تترك لأوانيها وصحونها أفضل من أن نراها مقلولة اليدين تتسكع في أزقتها الضيقة المنحدرة على جانبي القرية جنوبا وشمالا".(22) ذلك أن النساء في القرية وخاصة عائلة آيت حموش كان من مبادئها الشريفة "ألا تخرج سوى العجائز والبنات الصغيرات".(23) وحين يصبح المحذور منه أمرا واقعا، تنتشر الإشاعات والأقاويل في الريف انتشار النار في الهشيم، وتصبح المرأة الريفية عندئذ في مواجهة مصيرها وقدرها عاجزة عن اتخاذ قرار حاسم يغير ذلك المصير أو تلك الحتمية. فها هي شابحة وعشيقها عامر يجدان "نفسيهما محط أنظار الجميع، وكأنهما طريدتان ليليتان تحت شبكة من الأضواء الساطعة، عليهما أن يردا على الشتيمة والتهديد، الفضيحة سوف تنتشر".(24) عموما حاول الروائيون الكشف عن ملامح متنوعة لصورة المرأة الريفية، فلم يتعاملوا معها منفصلة في وجودها عن المجتمع، بل حالة إنسانية مرافقة للرجل ولقانونه، ومن ثم قانون المجتمع، فكانت عاملا مضيئا لأجزاء مهمة في الجوانب الاجتماعية والسلوكية في المجتمع، إلا أن الذي ينقصهم في ذلك دقة التصوير والغوص في أعماق المشاعر الإنسانية مما أفقد تحليل البناء الاجتماعي للشخصية شموليته، وبالتالي الكشف عن نمط تفاعلها مع البيئة الاجتماعية. 3. الجماعة الريفية : التزم الروائيون في النماذج المدروسة بالتعبير عن هموم الفرد والجماعة أيضا، فهي حاضرة فعلا وسلوكا إنسانيا، حيث حاولوا تقديم صورة مجسدة لحقيقة وجودها الإنساني. تظهر الجماعة في رواية (الأرض والدم) قانعة بالواقع لا تبحث عن سبل تغييره، ترضخ لتأثير المعتقدات الشعبية والخرافات السائدة في الوسط الريفي للسيطرة على حركة الفعل الإنساني للجماعة "فهم يتعارفون فيما بينهم ويشكلون كلا متكاملا، وأحكامهم على بعضهم جاهزة منذ الأجيال، لا يواجهون بعضهم بأحكامهم، ولكن كل واحد منهم يعلم في قرارة نفسه رأيه في الآخرين ذاك هو دأبهم، يتقابلون يوميا، ويحبون بعضهم بعضا، ويتعاونون ويتآزرون، ولكنهم يراقبون بعضهم ويتحاسدون ويتباغضون، والجميع يعمل على درء المظاهر الخارجية".(25) تعتبرالزردة مناسبة يعبر فيها الريفيون عن تجذر هذا المعتقد باعتباره حدثا اجتماعيا ودينيا فحين "تقام الزردة بدون مناسبة تقليدية تدعو إلى إقامتها، تشكل ظاهرة اجتماعية ممتازة رغم ما يشوبها من خرافات وأساطير فيها تزول الحواجز، ويرتفع الحجاب، وغالبا ما تكون مناسبة للتعارف بين فتيان القرية وفتياتها المحجبات".(26) هنا تظهر الجماعة كما غير فاعل مسلوب الإرادة بفعل تلك الأعراف والمعتقدات المتوارثة. وقد يحدث أن تكون مؤثرات الفقر والعوز والضيم عاملا في تنميط سلوك الجماعة كما يحدث مع سكان "البراريك" في (نوار اللوز) "هؤلاء هم سكان البراريك يعيشون وكأنهم في أحد أحواش سيدي بلعباس كل واحد يحاول أن يفرض نفسه وقانونه على البقية بأدواته الخاصة، عالم آخر، القوي يأكل الضعيف والضعيف يلتهم الأضعف، والأضعف يلتهم الأكثر ضعفا وهكذا... كل مجموعة تعيش بطقوسها الخاصة: العمال، المخدرون، الطيبون... المهربون... القوادون... القتلة كل واحد رمته منطقته الجائعة إلى هذا المكان واستقر فيه".(27) وفي المقابل نلتقي مع الجماعة التي تكون قوة منتفضة، وإرادة قوية وإصرارا على تغير الواقع، وهي القوة التي يتحقق لها الانتصار حتما. تصور رواية (الحريق) كيف تنتصر إرادة الفلاحين بعد مدة طويلة من القهر والظلم والعبودية من قبل "الكولون" الذين "وصلوا إلى هذه البلاد بأحذية مثقبة... وها هم أولاء يملكون مساحات من الأرض لا تعد ولا تحصى".(28) وأصبح صاحب الأرض خادما عند هذا "الكولون" وبأجر زهيد، مما ضاعف من معاناة الفلاحين الذين أجمعوا كلمتهم ووحدوا صفوفهم وقرروا الدخول في إضراب "لقد أضرب العمال المزارعون عن العمل، فنشأ عن ذلك لغط كثير، وتعطلت المزارع، وكان هذا كافيا لفقدان هؤلاء المستوطنين الفرنسيين صوابهم مع أنهم كانوا واثقين ثقة كبيرة ظانين أن سلطتهم وطيدة ولا تتزعزع".(29) وكانت الجماعة في (الجازية والدراويش) هي قوة الفعل الإرادي التي وقفت أمام إرادة الشامبيط ومشروعه القاضي بإخراج السكان من قريتهم لتمكين الشركة الأجنبية من بناء السد. ولإقناع السكان بضرورة الانتقال إلى القرية الجديدة أرسلت السلطة الطلبة المتطوعين "مهمتهم فيما أشاع الشامبيط إقناع السكان على الاستعداد للرحيل إلى القرية الجديدة".(30) لقد اصطدمت رغبة الشامبيط برفض سكان القرية الابتعاد عن قريتهم "السكان بحدسهم الجبلي رفضوا الرحيل ورفضوا السد، رفضوا التغيير الذي يأتيهم من حفدة الشامبيط والدوائر القدامى".(31) وهكذا أفشل سكان القرية المشروع، بعد أن أثبتوا إصرارهم على التشبث بقريتهم رغم موقعها الذي يوحي بالعزلة، أما الشامبيط فقد انتهى به الأمر عند حافة المخاطر. حاول الروائيون تقريب صورة الريف عبر تخييل منطقي يستند إلى الإدراك السهل. وبقدر تعمق هذا الإدراك "تتريف" الرؤية. لقد حافظ الروائيون على النظرة النمطية وعلى الأنساق العامة المكونة للريف الجزائري، نظرة تجعل المكان حميميا ومرجعا لأصالة سكانه دون أن ينسوا (الكتاب) التزامهم بمهية الكشف عن علل المجتمع الريفي، فكان الطابع الأخلاقي والسياسي مهيمنا في وصفهم للمكان من طبيعة وقهر واستلاب وفساد وأصالة...إلخ.