نشرت " لجنة تقصى الحقائق بشأن أحداث 25 يناير " تقريرها في 19 أبريل . ويبدو من التقرير أن اللجنة – " لجنة أدبية " لا أكثر ولا أقل ، لم تمنح لها أية صلاحيات فعلية . ويتضح ذلك من قول التقرير أن اللجنة أرسلت كتابا إلي وزارة الداخلية لموافاتها بدفتر أحوال مخازن الأسلحة للوقوف على كمية الذخيرة المستخدمة في الأحداث ، " غير أن اللجنة لم تتلق ردا حتى تحرير هذا التقرير " . أي أن وزارة الداخلية ( لاحظ أنها وزارة ما بعد 25 يناير ) لم تعبأ لا باللجنة ولا بخطابها ولم تر في صفتها شيئا يستحق عناء الرد ! . أضف إلي ذلك أن اللجنة وهي مشكلة من مجموعة من كبار رجال القانون تشير في تقريرها إلي قتل مئات المتظاهرين وتحددهم ب " 846 " ثم تضيف عبارة " على الأقل " ! . فهل يفترض بلجنة تتقصى الحقائق تم تشكيلها بقرار من مجلس الوزراء أن تحدثنا عما هو " على الأقل " أو" على الأكثر" ؟! وهل يليق بلجنة من القانونيين الذين قاموا بتقصى الحقائق أن يحددوا عدد القتلى تقريبا ؟ . وقد قدمت اللجنة تقريرها بمقدمة سياسية مليئة بالعبارات الإنشائية كقولها إن مصر شهدت منذ 25 يناير 2011 " أحداثا جساما وضعت البلاد على بداية طريق يتمنى المصريون أن يصل بهم إلي الاستقرار والديمقراطية والحرية والعدالة الاجتماعية " . وقد حفل التقرير بالتوصيف السياسي للوضع الاجتماعي والاقتصادي والسياسي الذي أدى لأحداث 25 يناير ، من فساد وفقر وسوء استغلال للنفوذ واستبداد ورشوة وقمع وتضليل إعلامي ، أي أن التقرير كان حافلا بكل ما يعرفه المواطن المصري قبل اللجنة بزمن طويل . أما الحقائق التي توصلت إليها اللجنة فكان من الممكن التوصل إليها عبر ما نشرته الصحف ووكالات الأنباء دون جهد يذكر . وللتدليل على ذلك أشير فقط إلي أن ذلك النوع من " تقصى الحقائق " لم يسفر عن حقيقة واحدة بسيطة مثل : من هو المسئول عن إطلاق الرصاص على المتظاهرين وقتل نحو ألف مواطن ؟ " على الأقل " ؟! . كلا لم يبلغ " تقصى الحقائق " تلك الحقيقة ! وتكتفي اللجنة في هذا الصدد بالإشارة إلي أن " إطلاق الأعيرة النارية لا يكون إلا بموجب إذن صادر من لجنة برئاسة وزير الداخلية وكبار ضباط الوزارة " . وهو اكتشاف بالغ الأهمية لم نكن لنعرف به لولا " تقصى الحقائق " ! وتصمت اللجنة تماما عن الحقيقة التي يعلم بها كل مواطن بسيط وهي أن عملية إبادة كتلك التي حدثت لم تكن لتتم من دون علم وبقرار من الرئيس مبارك شخصيا . واللجنة التي تسهب بكرم شديد في توصيف الأوضاع السياسية وتقديم توصياتها بالأخذ بالديمقراطية والعدالة ، بخلت علينا بخلا شديدا بالحقائق الجنائية وبالمتهمين الحقيقيين فيها أو على الأقل المشتبه فيهم ! واللجنة التي تفضلت فأوصت بتمكين ضحايا ثورة 25 يناير وذويهم من " الحصول على تعويض عادل " لم تتفضل وتتذكر أن أولى حقوق الضحايا هي الاقتصاص من المسئولين عن قتلهم ، وتحديد أسماء الجناة ، والتوصية بمحاكمتهم والتوصية بمعاقبتهم ، قبل الحديث عن الملاليم التي ستدفع لأهل الضحايا . وتستمر اللجنة في تعميق طابعها الأدبي السياسي بتوصيات مختلفة مثل وضع دستور جديد ، وإعادة النظر في الإعفاءات الضريبية ، والنظام التعليمي ، ومكافحة التمييز الديني أو العرقي ، وضرورة استقلال القضاء وحرية تشكيل الأحزاب . ولا يختلف أحد على تلك التوصيات المعروفة ، إلا أنها جميعا تندرج في باب العلوم السياسية وليس في باب " تقصي الحقائق " ، ومكانها ليس تقرير اللجنة لكن منبرا حزبيا أو جريدة أو مؤتمرا . ويتضح بشدة ضعف التقرير الذي أصدرته اللجنة حينما يتعلق الأمر بالرئيس مبارك ، الذي لم يشر التقرير لاسمه صراحة ولا مرة واحدة ، بينما ورد اسمه فقط على لسان المستشار عمر مروان في مؤتمره الصحفي إن مبارك يتحمل مسئولية قتل المتظاهرين سواء بالمشاركة أو بالصمت . وما ورد على لسان المستشار هو تصريح يخصه هو ، بينما سيبقى للناس التقرير كوثيقة وحيدة خلت من اسم المتهم الأول . وسنجد حتى أن تصريح عمر مروان يفتح الباب لمبارك على احتمال أنه لم يكن مشاركا ؟! لكنه لزم الصمت فقط ؟! . وبينما يعترف التقرير بمشروعية المظاهرات فإنه يتجنب الاعتراف بالمسئولين عن قتل المتظاهرين ، وحتى عندما يتحدث عن دستور 1971 والصلاحيات الضخمة التي يمنحها الدستور للرئيس فإنه لايذكر اسم مبارك ويكتفي بالقول بشكل عام " إن دستورنا المصري يدفع الرؤوساء دفعا نحو الاستبداد " ، ويذكرني ذلك بعبارة " 846 قتيلا على الأقل" ، أي اتجاه اللجنة لأن يصبح حديثها " على العموم " دون تحديد قاطع ، فلسنا في معرض حديث عن دستور يدفع " الرؤوساء " بل في معرض حديث عن دستور " دفع الرئيس مبارك " تحديدا. الأكثر من ذلك أنه حتى عندما يستحيل الحديث دون ذكر اسم مبارك ، أي عند إشارة التقرير إلي أن الإعداد لتوريث الحكم كان من أسباب سخط الشعب ، فإن التقرير يتفادي ذلك ويكتفي بعبارات عامة ! فهل كان التوريث يخص أحدا غير مبارك ونجله ؟! . والآن لكي ننصف لجنة تقصى الحقائق ، لابد من القول إنها تشجعت وقررت أن " وكيل جهاز مباحث أمن الدولة الأسبق قرر أن استعمال الأسلحة النارية لا يكون إلا بناء على أمر صادر من وزير الداخلية وأن عليه إخطار القيادة السياسية ، وأنه إذا استمرت الشرطة في استعمال الأسلحة النارية لأكثر من يوم فلابد أن تكون القيادة السياسية على علم بذلك " . وقد احتاجت اللجنة لتتسلح بهذه الشجاعة إلي تصريح محدد من " وكيل جهاز مباحث " ! . واعتبرت اللجنة أن الأمر قاصرعلى " القيادة السياسية " ! مرة أخرى بدون تحديد ، وفات اللجنة أن مبارك كان القائد الأعلى للشرطة ، وهي حقيقة أخرى لم تتوصل إليها لجنة تقصى الحقائق . لقد ترك التقرير انطباعا واحدا : أن اللجنة كانت تعمل مسترشدة بتعليمات تقضي بعدم إلقاء اللوم على الرئيس مبارك ، وفتح الباب أمامه لكي ينجو بجريمته . ولكني لا أظن أن الشعب المصري قد يقبل بأن تمر جريمة قتل ألف مواطن دون عقاب ، ودون محاكمة علنية، ودون قصاص عادل . هذا ما تنشده أرواح الشهداء . وإذا لم تستطع 25 يناير أن تقتص لشهدائها بمحاكمات علنية وعقاب رادع ، فإنها قد لا تتمكن من مواجهة الكثير من مهامها الأكبر والأصعب .