بدأ تاريخ التعليم المدني الحديث مع عهد محمد علي ثم كسره التحالف الاستعماري البريطاني الفرنسي فتراجع مشروع التعليم حتى نهض من جديد مع ثورة يوليو 1952، وعاد التحالف الأمريكي الإسرائيلي فكسر مشروع التعليم بنكسه 1967، ثم التهمت شروط صندوق النقد والبنك الدوليين تقريبا ذلك المشروع بفرضها على الدولة تقليص الانفاق على الخدمات العامة، مما أدى إلي وقف الحكومة الفعلي تعيين مدرسين جدد منذ عشرة أعوام، واعتماد التعيين بالعمالة المؤقتة التي تعني من ناحية دفع أجور زهيدة ومن ناحية التحرر من التزامات المعاشات والتأمين الصحي وغيره. الآن لدينا في مصر 15 مليون تلميذ، و45 ألف مدرسة كثافة التلاميذ في الفصل منها 45 تلميذا، ونحو مليون ونصف المليون معلم يقومون بتعليم الأولاد، أي مليون ونصف مليون مكافح من أجل التنوير يعمل في أشق الظروف، وفي مقدمتها ضآلة الرواتب التي تبدأ (صدق أو لاتصدق) من مائتي جنيه وتنتهي عند خمسمئة جنيه للمدرس الذي كافح معلما لعشرين عاما، وعليه الآن أن يدبر أمره وشئون أسرته براتب يكفي لشراء حذائين. وفي يناير من هذا العام نشر أحدهم ( أحمد عبد الوهاب) على شبكة الانترنت شكواه قائلا: "احنا مدرسين واخصائيين وبناخد 189 جنيه و25 قرش في الشهر" ؟! هذا بينما يصل دخل المدرس في الصومال الجائعة المنهكة إلي ستمائة دولار! في ظل هذه الأوضاع وافق مجلس الشعب في 19 يونيو 2007 على قرار "كادر المعلمين الجديد" الذي أضاف نسبة 50% من الأجر الأساسي تحت مسمى "بدل معلم" للعاملين بالفعل في التعليم وللذين سيعينون مستقبلا دون أن يمس ذلك العلاوات السنوية أو أية زيادات تمنح للمشتغلين في الدولة. الكادر الجديد صنف المعلمين في ستة وظائف: معلم تحت الاختبار –معلم – معلم أول – معلم أول (ألف) – معلم خبير- كبير معلمين. لكن وزارة التعليم ربطت تطبيق المرحلة الثانية من الكادر التي تقتضي منح خمسة وسبعين بالمئة من أصل الأجر بدخول المدرسين امتحان يشمل ثلاث مواد: مادة التخصص، والتربوي، واللغة العربية! وأنشأت لغرض الامتحان أكاديمية خاصة مهنية بتكلفة ثمانين مليون جنيه اقتطعتها من أين؟ من ميزانية التغذية المدرسية! على أية حال دخلت دفعة من المدرسين لتمتحن، فرسب خمس وتسعون بالمئة من المدرسين في الامتحانات! مما يعني مباشرة أنهم لن يحصلوا على الزيادة الجديدة! وهنا فقط أدرك المدرسون أن الغرض من إنشاء الأكاديمية والامتحانات هو تقليص عدد المستفيدين من القرار لا أكثر، خاصة إذا علمنا أن المبلغ المطلوب لتنفيذ القرار نحو أربعة مليارات جنيه، بينما اعتمدت الوزارة أقل من مليارين فقط للقرار. وعندما انتبه المعلمون لفخ الامتحان، عم الغضب بينهم، وتحرك الكثيرون منهم في مظاهرات منها مظاهرة المحلة في الغربية، كما نشأت عدة منظمات منها "شبكة معلمي مصر" وغيرها تطالب الوزارة بالتراجع عن ربط الزيادة بدخول الامتحان، ذلك أن الامتحان يعني أولا عدم اعتراف الوزارة بتقديرات الجامعات التي تخرج منها المعلمون، وإنكار التقارير الخاصة بعملهم وكفائتهم، والامتحان يعني باختصار أن يبدأ المدرس من الصفر، مع أن قانون "الكادر الجديد "لا ينص على أي اختبارات. يتساءل أحدهم: كيف أقوم بأداء امتحان اللغة الانجليزية وأنا خريج دار علوم ومدرس انجليزي من خمسين سنة؟! ويطالب المعلمون بتسكينهم في التصنيفات الستة التي حددها القانون الجديد لكن على أساس سنوات الخبرة وتقارير الكفاءة السنوية. هذه القصة في حقيقة الأمر هي جانب من أزمة التعليم الذي تعصف به النوايا الرامية لأبعد من خصخصة التعليم، نوايا تحطيم "مركزية التعليم" على مستوى الهيكل الإداري، والمناهج، أي تحطيم النواة التي تخلق الوجدان الوطني. وهي قصة مرتبطة كما قلت بلوحة عامة تقدم التعليم فيها في ظل مشروع وطني، أيام محمد علي، وعبد الناصر، والخديوي إسماعيل، وتحطم أمام الهجمات الاستعمارية وصولا إلي كف يد الدولة عنه. لقد كان التعليم ومازال قضية أمن قومي، وأولى أدوات الثقافة والتنوير، فلماذا لا يتناول عشاق التنوير ذلك الجانب؟ بدلا من كر الذكريات عن رفاعة الطهطاوي؟ لماذا لا نكافح من أجل التنوير عبر القضايا الحية التي يثيرها الواقع الاجتماعي الآن؟