عالم الكتابة والكتاب وحتى القراء هو عالم حساسيات، فمن خلالها يتعذر أن يكون للكتابة بعدها الإبداعي العميق الذي ينشط ممكنات الذات الكاتبة والقارئة؛ إنها تحث الكاتب لكي يشعر بالعالم الذي يحاصره ولكي يجد المكان اللائق به بين تضاريسه وليضفي عليه المعنى الذي يشبع حاجاته ويترجم رغباته، حتى يكون العالم كما يحب أن يكون، بشرا وأشياء. والقارئ، حين يقرأ الإبداع، له الحاجات والرغبات نفسها في علاقته بما يجده في عالم الكاتب، لكن هذه الحساسية لها اتجاهان قد يتداخلان في نفس الإنسان كاتبا وقارئا: - اتجاه سلبي يعطل ممكنات الذات، ويتسبب في تعريضها لحالات انفصام أو اغتراب، أو إلى حالة العمى النفسي والعقلي، فتصير العلاقة بالعالم متوترة وعدوانية وسوداوية. - واتجاه إيجابي ينشط الممكنات والإمكانيات، ويمنح الذات قدرة المقاومة بقدر ما يهبها موهبة الاكتشاف، والإبداع، وجعل العالم عالم تجربة واختبار ومعاندة وتحد. لذا فالحساسية الإيجابية حافز الإبداع، ولولاها لما كان له الطاقة الوجدانية والانفعالية، ولما كان للخيال والفكر أثر على نفسية من يكتب ومن يقرأ. وهنا يجب أن ينتبه كل كاتب يطمح إلى احتلال موقع الكاتب المبدع؛ الكاتب الذي يستحق الاعتبار والبقاء في عالم الكتابة، بأنه مطالب بالتصدي لكل أنواع الحساسية السلبية، عليه أن يسلم بأن مكانه في عالم الكتابة لا يثبت إذا ما انساق مع حساسيته المريضة أو تغلبت عليه مشاعر الانزعاج والقلق التي ينشرهما حوله أصحاب الحساسيات السلبية، من الكتاب أنفسهم الذين يقتحمون عالم الكتابة راكبين موجة الحساسيات السلبية مستثمرين لها قاصد ين احتلال مكان في عالم الكتابة، أولائك الذين يدخلون العالم متعجلين من النوافذ ويخرجون من المجاري في اتجاه بحر النسيان. نعم! علينا أن نسلم بأن عالم الكتابة هو عالم الحساسيات، فنحن نشاهد ونقرأ كل يوم ما يؤكد انغمار عدد من الكتاب في مستنقعات الحساسيات السلبية: - هذا يكتب نفاقا عن كاتب صديق تزلفا. - ذاك يجحد قيمة كاتب ثقل اسمه في نفسه العليلة. - وهذا يتقرب إلى جسد كاتبة أنثى من خلال مكتوبها المعطوب. - وهذا ناقد يجامل كاتبا كبيرا ابتغاء نيل ترشيح أو اعتراف أو توظيف في جامعة الكاتب الكبير. -هذا وتلك يحاربان كاتبا خصما خشية أن يسد عليهما الطريق. وهذا يستغل وجوده في جمعية أو مجلة من أجل تحقيق مصالح طفولية انتهازية. إنها مظاهر تشرح الحساسيات التي تخطئ الطريق نحو الإبداع، بل تتجه في اتجاه معاكس لحركة الكتابة، بتحطيم كل العلامات والإشارات، ورسم علامات التوقف يمينا ويسارا. لنسلم بأن مثل هذه الحساسيات موجودة في كل زمان، والكاتب الجدير بصفة الكاتب عليه ألا ينزعج منها. ليس مطلوبا منه أن يواجهها، بل أن يعتبرها مرآة معكوسة يقيس بها المسافة التي قطعها فقط، عليه أن ينظر إلى المسافات الباقية؛ بمعنى أوضح، أن يرى تميز العالم الذي يعيش فيه بما يشرحه العارفون: إن الشيء يتميز بضده، هكذا تفهم أن من يخافك يريدك أيها الكاتب أن تنزاح عن طريقه، حتى تفسح له الطريق، لابأس إنه سيغادر عالم الكتابة سريعا متسرعا. ومن ينتقص من كتابتك وكتابة غيرك ويريد أن يعرض كتابته في سوق المتلاشيات. لابأس! اتركه لكي يعرف الناس الفرق بين الإبداع والعبث. ومن يختلس ما نشرته، وقام باجتراره، دعه وتمن له العافية حتى يشفى من جوعه. وإذن، إذا كنت تريد أن تكون كاتبا مبدعا لا تبال بمثل هذه الحساسيات، والتمس القدرة من ذاتك واجعل حساسياتها مرآة وعي وإدراك واختبار وتأمل، واجعل عالم الكتابة بعيدا في خريطة العالم، الذي وحدك تحصنه وتزرعه وتختار كواكبه ودورة زمنه وحدائقه التي تلتقي فيه بالناس؛ عالم تكون الحياة فيه ممكنة ودائمة، لا ينازع فيها الحي حيا. ولا بأس أن تتذكر بعض الأسماء مثل أبي الطيب المتنبي الذي تكسرت على صدره النصال على النصال، ومثل أبي العلاء المعري الذي لم يمنعه عماء الحاسدين من أن يصل العالم الآخر حاملا رسالة الغفران، مثل أبي حيان التوحيدي قاهر الحاقدين الحسدة، ثم اجعل عملك هدية لمن لا يعملون ويؤذيهم الذين يعملون، ثم ذكر نفسك ببعض الحكم والأمثال: - إذا أنت لم تشرب مرارا على القذى ظمئت وأي الناس تصفو مشاربه - إذا ما أراد الله إهلاك نملة سمت بجناحها إلى الجو تصعد. - إذا أراد الله نشر فضيلة طويت أتاح لها لسان حسود. - لولا اشتعال النار فيما جاورت ما كان يعرف طيب عرف العود. وابتعد عن كل عالم موبوء وقل مع الشاعر: - وتجتنب الأسود ورود ماء إذا كان الكلاب ولغن فيه وقل في الختام وأنت تسخر من أصحاب الحساسيات السلبية وتريد أن تشق طريقك في عالم الكتابة: سلاما.