تلخيص لم يكن بمقدور الأسرة الفقيرة ، التي كانت تعيش ببادية نائية ومعزولة من بوادي الأطلس المتوسط ، أن تعيل ابنها(بوجا سعيد) ليتابع دراسته بإحدى إعداديات المدن المجاورة. ففكر الولد في الالتحاق بمدرسة من مدارس قلعة الفنون السحرية، عملا بوصية المرحومة جدته. وعندما التحق بالقلعة تبين له أن الوالدين اللذان كانا يحتضناه، لم يكُنَا والديه لا بالولادة ولا حتى بالتبني. تعالوا معي لتتابعوا عبر حلقات أحداث هذه القصة التراجيو كوميدية المثيرة والمشوقة. حيث سيقاوم بوجا كثيرا ليخرج من المصيدة التي بناها له النمرود ذلك الشرير الذي شتت عائلته وظل يطارده هو أينما حل وارتحل. كما ستتعرفون على الكثير من رموز الميثولوجيا المغربية والعربية : (صخرة مولاي بوعزة )، (عبد الواد)، (بغلة القبور)، (عيشة قنديشة)...حيث سيتم توظيف هذه الرموز توظيفا غريبا وعجيباً كما ستكتشفون عالما سحريا معقدا يختفي وراء لغة سلسة وسهلة. وستطلعون رفقة التلميذ (جهبور) على مشاريع رائعة لحماية البيئة...
0 إهداء إلى اللذين أنجباني، ربياني وعلماني الصبر والجلَدَ... وكيف أمشي وحدي في هذا الظلام. إليك أيتها الشمس الخجولة البادية مثل بدوية عذراء تمشي على استحياء. إليك أيتها السماء الملبدة بغيومٍ من دخان المصانع والمحركات. إليك أيتها الصخور المقاومة لعوامل التعرية وهدير الجرافات. إليكنَّ أيتهن الجنيات الساكنات في قاع المحيطات والكهوف والمغارات... وفي عقول الناس. أما آن الأوان لتنتفضن وتتحررن من ثقل هذه الأمكنة الخبيثة. إليك أيتها الأرض العطوف الحنون. يا من تتسعين للجبابرة والمستضعفين، دون أن تتضجرين أو تتأففين. إليكم أيها الصامدون الصابرون الصامتون. الصمت حكمه؟ كلاّ يخدعونكم. ولأنني أنتفض موتا، ولأني حيٌّ فقط داخل الكلمات..ولأنني لا أستطيع أن أهديكم شيئا.فإنني سأهديكم كلمة عابرة للأثير، للتاريخ، للزمن... أهديكم موالاً أطلسياً، يتردد صداه بين الجبال الشامخة والهضاب المتواضعة، وأنا خجولٌ. خجولٌ أنا، كطفلٍ يهدي حبة رمل للمحيط الهادي. إمضاء: الأستاذ عبقور رائد التنبؤ بقلعة الفنون السحرية
1) بوجا بين الأفعى والضفدعة وضعت إصبعها السَّبَّابَة عمودية على شفتيها، وقالت : » أششش... لا توقظه ! إنه نائم. إنه سيقتل« . تجاوزها بسرعة متجها نحو الغرفة التي ينام فيها ابنهما بوجا، ليوقظه فالساعة تشير إلى العاشرة وهو لازال نائما. بوجا الذي دأب على الاستيقاظ قبل طلوع الشمس، غير أنها اعترضت سبيله بقوة، أراد أن يتكلم فوضعت يدها على شفتيه، ثم أبعدته قليلا عن الغرفة ووشوشت له : » إنه نائم وهناك أفعى استدارت على عنقه كأنها حبل مشنقة، ووضعت رأسها بالقرب من أنفه، كأنها تتحسس أنفاسه. لقد ظللت أرقبها عن بعد، فكلما تحرك إلا وأبدت رغبة قوية في لدغه. يا لها من مصيبة ماذا سنفعل؟«. وبدأ زوجها عُمر يرتعد ويردد :»احضري لي عصا «. بيد أنها انتفضت وقالت (بصوت مرتفع) :» هل أنت أحمق، أبسط خطأ سوف يستيقظ طفلنا، يرعه المنظر، يضطرب، وتلدغه الأفعى. يا إلهي عند أبسط خطأ سوف نقتل ابننا الوحيد رحماك يا رب..« وبدأ كلامها يختلط بحشرجة البكاء. - سيكون شيء جميل لو أحضرنا فأرا، وألقيناه بالقرب منها سوف تتجه نحوه وتترك ابننا وشأنه، يا إلهي أين يمكننا أن نجد فأرا. وبدأ يحك رأسه ويقول : »تذكرت.. بالأمس عندما ذهبت لاصطياد السمك، في النهر، كلما ألقيت صنارتي إلا واصطدت ضفدعة، يجب علي أن أحضر ضفدعة، سيكون إذن من السهل الحصول عليها «. وهمهم متأسفا : »أمممم من شدة غضبي كنت أضرب تلك الضفادع والأرض. لعل إحداها ستكون ميتة أو في طريقها إلى ذلك. سيكون أفضل لو عثرنا على ضفدعة تصارع الموت «. وانصرف يركض نحو النهر الذي لم يكن يبعد عن المنزل سوى بنصف ميل تقريبا. وعادت هي لتفتح الباب ببطء شديد، وتراقب الأمور عن كتب. بيد أن الحية استشعرت بالموجات التي أحدثها فتح الباب. فبدأت ترفع رأسها كما لو كانت شخصا يرغب في رؤية شيء بعيد. وأخيرا بدأت تتحسس أنفاس بوجا وهو يغط في نومه. وتقرب رأسها من أنفه، كما لو أنها تتهيأ للدغه في أية لحظة. فكرت الأم التي كان قلبها يرتج : » ماذا لو تحرك فلذة كبدي الآن ؟ حقا سيصبح في عداد القتلى «. وأخيرا أحضر عمر ضفدعة صغيرة وكلامه يتقطع بلهاثه : » لقد كانت من الضفادع التي اصطدتها البارحة، ورغم أنها لا تقوى على حراك فإنها لازالت حية. هيا خديها وألقيها أمام الأفعى إنني لن أقوى على رؤية هذا المشهد. إنني أسمع أن النساء أشجع من الرجال في بعض الحالات، كما أن حضورنا معا قد يعقد الأمور، قد يجعل الأفعى... أو ابننا... «وبقي جامدا في مكانه وهو ينتظر النتيجة. ألقتها أمامها، وبدأت الأفعى تتسلل نحوها وذيلها ينفك عن الفتى رويدا رويدا. بيد أنه كان يشعر كأن شيئا يخنقه فبدأ يحرك يده بين الفينة والأخرى. فكان ذلك يوقف الحية، تقوس عنقها، تكُشُّ وتنكمش كأنها تستعد للانقضاض. وأخيرا تحركت الضفدعة بعيدا وتبعتها الأفعى. لتختفيان بين شقوق الجدران الذي كان مشيدا من الحجارة المبلَّطة بالطين.
2) بوجا والماضي الرهيب لم يكن بوجا سوى طفل في سنه الثالث عشر. أسمر البشرة، أسودَ العينين. ذا شعرٍ خفيفٍ أشقر. ابنٌ وحيد لوالدين فقيرين، يعيشان في بادية نائية ومعزولة من بوادي الأطلس المتوسط. غير أنه ليس هذا هو الشيء الذي كان يُعكر صفو حياته. فوالداه يستطيعان التقلب مع أدوار الحياة. ويستطيعان تدبر المعيشة ولو كلفهما الأمر اعتصار الحجارة. كانت مشكلته تتمثل في الإحساس الداخلي بالحزن والخوف والغرابة عن الحياة. ولم يكن ذلك مبنيا على العدم، بل على ذكريات رهيبة ومؤلمة مرَّت مع تلك الجدة العجوز التي ظلت تقول له غير ما مرة : » إذا كانت فِراستي على شيء، وإذا كان عقلي يشاطرني الرأي. فأنت لست ابن هذه الأسرة،وشخصيا إذ ما مِتُّ قبل أن تعرف أنت أسرتك ، فسأموتُ وفي نفسي غمة بخصوصك ؟ ! «. ولم يكن عمر رب الأسرة إلا رجلا في الأربعين من عمره. يملك بعض المشارات الفلاحية المتشرذمة هنا وهناك، والتي لازال معه فيها نصيب أخواته اللائي تزوجن، وإخوانه الذين هاجروا خارج البلاد. ورغم أن الشريعة الإسلامية تنصُّ على أنه للذكر مثل حظ الأنثيين، فإن الأخوات غالبا ما كن تتنازلن عن حقهن من الأرض ولو صوريا. وغالبا ما ينظر للمرأة التي طلبت حقها من أخيها نظرة استخفاف واحتقار. وبطبيعة الحال كانت هذه الأعراف تقول كلمتها إلى جانب الشريعة الرسمية، ولا غرو فتلك الفدُن، والتي غالبا ما كانت تقع بسفوح الجبال أو بين التلال، والمعتمدة على هِبة السماء، لم تكن تعطي مرد ودية تذكر. وأحسن مشارة بالنسبة لعمر هي تلك التي كانت تقع على ضفاف النهر، حيث يشق إليها ساقية من النهر. ويحفر بئرا يربطها مع الساقية. ويخرج منها الماء بواسطة دلوٍ كبير يجره ببغله. ويمارس بنشاطه هذا زراعة (مِقْلالة) توجه نحو الاستهلاك الذاتي. وفي أحسن الأحيان يتم تسويق الفائض في سوق محلية صغيرة، إلاّ أن هذه العملية بدورها كانت تعدُّ مقامرة مع النهر الذي يفيض في بعض الأحيان فيجرف تلك "البَحِيرَة" ببصلها وجزرها... أو يغطيها بالطين. وعندما يعود النهر أدراجه، تجد الأسرة نفسها مجبرة على إعادة حفر البئر وإزالة الأوحال من الساقية، تلك صخرة سيزيفية أبدية... ولم تكن رقية سوى امرأة تجاوزت عقدها الثالث، عانت من العقم سنوات كثيرة تقلبت فيهن بين الأطباء والسحرة والمشعوذين، ونذرت الذبائح للأضرحة، وفعلت كل ما قيل لها من أجل الإنجاب. حتى أنه قيل لها يوما ما، أن تلحس فم ضفدعة بلسانها!. وعندما أنجبت ابنها بوجا سعيد ملأت الدنيا ضجيجا وفرحة. لم يجرؤ الطفل على مصارحة أبويه بما كانت تقوله له الجدة. ومنذ أن كُفِّنَتْ المرحومة كُفن معها هذا السر. وبقي صداه وحده عالقا بذاكرته، لم يكن الأمر يتعلق بالتبني، فهو لم يسمع أحدا من أقرانه يقول له ذلك. ولو كان شيئا من هذا القبيل أو ذاك لقالها له الميلودي، الرجل الثرثار الذي يشتمك دون خجل أو خوف، ويشهر في وجهك أي كلام يستطيع أن يؤذيك به. ورغم أنه كان يحاول تخطي تلك الذكريات إلا أنها كانت تحضر بقوة، كلما مر من أمكنة تذكره بها. ففي صبيحة هذا اليوم، امتطى رفقة أبيه بغلهما متجهين نحو السوق الأسبوعي، الذي كان يبعد عن هذه القرية بحوالي ثلاثين ميلا تقريبا. وقد غادرا المنزل على الساعة الثالثة صباحا. حيث لازال الظلام الدامس، ولازالت أشجار السدر والطلح تحافظ على هيبتها وتظهر له كأنها أشباح متحركة، والبغل الذي يقف فجأة ويبدأ في الشحيج، ويوقف أذنيه بشكل قوي ويقربهما من بعضهما البعض، ويمتنع عن السير ويبدأ في التراجع. رغم أن الأب ينخسه على ردفيه بقوة. ويسعفه بضربات قوية على عنقه. وهو يتلو بعض الآيات القرآنية. بالإضافة إلى سلوك كلبهما "بيرس" الذي ظل يرافقهما طوال هذه الرحلة والذي يقف أحيانا ويبدأ في النباح والوقوقة بدون سبب يذكر. كانت هذه الأشياء توحي لبوجا بوجود الجن في كل مكان. وأن الحيوانات ترى الجن في الوقت الذي يعجز فيه البشر عن ذلك. بيد أن هذا لا يمنع الجن أحيانا من الظهور إلى البشر والقذف بهم في "الثلث الخالي". ولست أعرف هل كان الأب يشعر بنفس الشعور أم لا ؟ بيد أن ما أستطيع الجزم فيه، هو أن الأب كان يخاف من شياطين البشر. وأكثر ما يرهب الطفل الآن هو أنهم وصلوا النهر. بل سيضطرون للمشي جانبه مسافة ليست بالقصيرة، بحثا عن مكان أقل عمقا حيث تستطيع الدواب العبور منه، وهو يسمع خرير المياه، ونشيج الضفادع التي تعمر تلك المستنقعات التي يتركها النهر بجانبه. ويسمع خشخشة تلك الزواحف التي تدخل تحت الأشواك بمجرد ما تسمع اقتراب حوافر الدابة منها. ويرى جذور أغصان الدِّفلى و"الخرواع" التي تظهر له كأنها تعابين ملتوية على بعضها. وأكثر من ذلك فهو يتذكر تلك القصة التي حكتها له الجدة عن (عبد الواد)، وعبد الواد هذا تقول حكاية محلية على لسان الجدة : » إنه عفريت من الجن دأب على تصبين ملابسه في النهر ليلا. وهو يُغني بحيوية:" شتف عايتف، شتف عايتف ". وإنه إذا حدث وصادف أشخاصا فرادى فإنه ينقلهم معه إلى عالم الجن «. واجتازوا النهر بصبر قهري، بيد أنهم وصلوا بالقرب من ذلك الولي، والذي يحمل عنه بوجا أكثر الذكريات سوءا. وهو اليوم سيهبش في حفريات ذاكرته، ليتذكر ذكريات موغلة في أعماق النسيان، لقد كانت جدته تُصِِرُّ على أن يرافقها إلى الولي الصالح. ورغم امتناعه وأمه عن ذلك، فقد كان إصرار الجدة يجعلها تسلمه لها مرفوقا ببعض النصائح. لقد كان يشعر بخوف رهيب حيال ذلك الضريح المغطى بمناديل خضراء. وبجانب الولي شجرة السدر التي علقت عليها بعض الملابس الداخلية للنساء. كانت النساء العانسات والعاقرات، واللائي لا ينجبن إلاّ البنات أو مواليد أموات، يعتقدن أن ترك ملابسهن بالشجرة سيدفع عنهن النحس والتعسير. وتذكر عندما أخذ من هذه الشجرة مئزرا ارتأى أنه لازال صالحا للاستعمال. وتذكر العقوبة التي عاقبته بها تلك الجدة، حيث أمسكته ورفعت مناديل الضريح، وادعت أنها ستدفنه معه وهي تقول : » خُده يا سيدي الولي عندك «. وهو ينتفض كطير مذبوح، ويصرخ بكل قواه. ومع ذلك فكل الحاضرات كن يحرضن الجدة على الزيادة في العقاب. ولم تتركه إلا بعدما أخذت عليه موثقا غليظا بألا يقربَ هذه الشجرة، مرة أخرى. وبقيت طوال حياتها تهدده بتلك العقوبة. وابتعد عن الجدة وجليساتها اللائي كن يحتسين الشاي بقبة الضريح، وأعواد الند مشتعلة إلى جانبهن. ليجد نفسه كالمستغيث بالنار من الرمضاء، فقد كانت هنالك امرأة تستحم بإحدى الشِّعاب، بماء ربما ينبع من عوينة صغيرة أو غدير يبقى بعد تساقط الأمطار. حيث من هنا كانت تأتي تلك الملابس لتعلق بالشجرة. والتحق بأطفال كانوا يتجسسون على تلك المرأة ويضحكون. وظهر قريبها الذي كان يوفر لها الحماية. ففر الأطفال وتعثر هو بأعشاب الخردل اليابسة. وحمله ذلك الشخص وبدأ يهدده بالدفن في أحد القبور المتهدلة. وفي زيارة أخرى حضر إلى ذبيحة جاء بها بعض الزوار. ووقف الجدي المذبوح وصار يطارد الحاضرين. وهرب بوجا وظل يعتقد أن الجدي يركض وراءه. وبدل أن تفسر العملية على أنها سوء ذبح، كانت هنالك همسات تؤول الأمر على أنه كرامة من كرامات الولي. وفي ذلك اليوم الذي بدأت تحتضر في الجدة، اقترب منها وهو لازال دون سنه السابعة وبدأت تقول له:« اليوم يا ولدي أنا من سيذهب إلى جوار الولي، لكن وصيتي إليك هي أن تتعلم السحر لتدافع عن نفسك «. وماتت الجدة، واجتمع الجيران... وبدأ النحيب، وجاءت تلك المرأة البدينة وهي تحمل كُلاَّبَا في يدها وتقول : » لقد عاهدتها على تنفيذ طلبها لي « وبدأت تفتح فم الجثة، وبقي الولد منبهرا فيها وهي تزيل تلك الأغلفة الذهبية الحمراء والبيضاء، التي غلفت بها بعض أسنان الجدة كشكل من أشكال الزينة التقليدية. وقد كانت ضحكة الجدة بتلك الأسنان المغلفة تجعله يشعر بهيبة خاصة حيالها. ابتعدوا عن الولي. وبدأت الشمس تطل من وراء أحد التلال كأنها بالونة حمراء معلقة بخيط غير مرئي. وتنفس هو الصعداء، وانشرح صدره، وبدأ يشعر بالاطمئنان. وتجاوزوا كذلك تلك المسالك المتضرِّسة والوعرة، ليصلوا مناطق أقل تضرسا. ولم تعد تسمع سوى حوافر البغل وطقطقات الحصى المتطاير من تحتهم، وهو يتأمل الجانب الأيمن من الهضبة المكسوة بأشجار الزقوم والطلح والسدر ونباتات وأعشاب أخرى. وبدأ يلتفت بين الفينة والأخرى ليتأكد من أن الكلب لازال يتبعهم. وكان أول ما لاحظه هو تلك الجماعة من الصيادين، الذين يحاولون صيد الخنزير البري. بيد أنه كان يمر من جانبهم ولا يرمونه، إنما يهشون عليه. فاستفسر أباه بخصوص ذلك ليرد الأب غير مهتم إنها : "الإحاشة ". ثم تابع كلامه : » إنها عملية تقتضي أن يجعلوا الخنزير البري يمر من مسلك ما، حيث يكون الصياد الحقيقي مستعدا لرميه، ويكون هذا الممر مسلكا ضيقا حيث لن تكون للخنزير اختيارات أخرى، كالمرور من مسالك أخرى أو التراجع إلى الوراء. الإحاشة هي: فن بناء الفخاخ «. وانتبه الأب إلى البغل الذي بدأ يتباطأ في مسيره، وأسعفه ببعض الضربات وهو يسبه ويحرك لجامه، حاملا إياه على الإسراع. واستأنف حديثه : » غير أن الإحاشة هي التي وقعت بذاك المنزل (ولوح بأصبعه إلى منزل قديم مبني بالطين) فهو قصر مهجور منذ القديم. والأهالي يعتقدون أنهم يسمعون به بعض الزغاريد ليلا. انظر إلى الأشجار المتشابكة حوله. فحتى الرعاة لا يستطيعون الاقتراب منه بأغنامهم، رغم وفرة الأعشاب بجانبه. يبتعدون عنه حتى في أشد السنوات جفافا !. ومعظم المتهورين الذين أظهروا التحدي ودخلوا له، إما أصيبوا بالجنون وإما أمسوا في عداد المفقودين. وذات يوم وقعت تلك الإحاشة الغريبة. لقد كان الصيادون يريدون إحاشة أحد الخنازير إلى فخ ما. وفعلا حدث ذلك ورموه بالرصاص، إلا أنه لم يسقط، ودخل ذلك المنزل واتبعوه معتقدين أنه سيسقط به. وبحثوا عنه ولم يجدوه. وفكروا في الخروج توا. إلا أن أبوابه أطبقت عليهم. وكان الأهالي يسمعون طيلة تلك الليالي أنينا. ويشمون رائحة لحْم يحترق. ويرون سحابة من الدخان تتصاعد في أعالي القصر. وسُمع ذوي انفجار في اليوم السابع بعد الحادثة. وشاهدوا سحابة من الدخان. إلا أنها لم تكن تتشتت في الفضاء، بل كان المكان يبتلعها. ومنذ ذلك اليوم ظلوا يعتقدون أن المنزل بدوره يستعمل تقنية الإحاشة لجلب ضحاياه «. واقتحموا العقبة، وبدءوا يتقابلون مع قوافل الدواب الغادية في الاتجاه المعاكس، ويتجاوزون أولئك الذين يملكون دواب هزيلة، وشعر بوجا بغبطة وسرور وانشرح صدر أبيه. كان التجاوز يعتبر مؤشرا على اهتمام العائلة ببهائمها. ويترك في نفسية المُتَجَاوَز شعورا سلبيا. وسمع بوجا وأباه أحدهم من ورائهما يقول : »الأبلهان يركبان على بغل ضعيف ويثقلانه بمآربهما. في هذه المسالك الوعرة المتضرسة. ألا يستطيع أحدهما النزول قليلا «. قفز بوجا إلى الأرض، واقتفى آثار البغل آخذا بذيله وهو يتعثر حينا ويلهث حينا آخر. غير أنهما ما لبثا أن عرجا على قافلة أخرى حتى سمعاها تقول : » يا له من أب مستبد حقير، يركب هو، ويدع فتاه راجلا ! «. نزل الأب على مضض وأمر ابنه بالركوب، وساروا على هذه الحال، حيث بدأ الأب يسابق كلبه (بيرس). حتى سمعا كلام قافلة تقابلا معها : » يا له من ابن عاق يركب الدابة ويترك أباه راجلا، أي خير يرتجى من هذا العاق عندما يكبر «. استشاط الأب غضبا وهو يردد : » انزل يا بني، من الأفضل أن نمشي على أرجلنا، عسى أن نسكت هذه الأفواه الفضولية «. سارت الأمور بشكل طبيعي عندما كان البغل يقتحم الهضبة. إلا أنه ما كاد يتجاوزها وينحدر في المنحدر حتى بدأ يركض بقوة، وبدأ ذلك المركب المنسوج من الدوم المفتول يتمايل. وأسرع الأب وراءه ليتدارك الموقف، إلا أن البغل أوجس منه خيفة وزاد من ركضه، فسقط المركب وتكسرت تلك البطارية التي كانوا يشحنوها على رأس كل خمسة عشر يوما. وتذكر بوجا والدته التي كانت تتابع مسلسلا ميكسيكيا. وتخلص البغل من أثقاله وبدأ يعدوا كالفرس، واتبعه والده، واختفيا عن آثاره، وجمع معه أحد المارة الأشياء التي تساقطت من فوق الدابة، وجلس تحت شجرة ينتظر عودة أبيه، وكلبه بجانبه، بيد أنه بدأ يحدث شيء غريب للكلب، فقد شرع يمطط لسانه، وصدر عنه صوتا كأنه يرغب في تقيؤ شيء كالمسمار، وبدأت عيناه تحمران وتتسمران في عيني بوجا، كما لو أنه أصيب بالسعار. وفجأة تكلم بصوت مبحوح : » هذه هي الإحاشة ! «. وهرب الطفل راكضا نحو المنزل، فلم ير من ذي قبل كلبا يتكلم. وفكر في الاستنجاد بأحد المنازل، إلا أنه خشي أن يصطدم بذلك المنزل الذي كلمه عنه أباه. وفي المساء اجتمعت الأسرة على ضوء باهت لشمعة، يململ لهيبها نسيم حار يدخل من ضلفات النوافذ. بدأ الأب يحكي ما وقع له بنوع من السخرية والغضب. ويلوم ابنه على عدم انتظاره له. لقد صادف بوجا أحد الذين يعرفون أباه فعاد راكبا معه. ولم يستطع الآن أن يصارحه بخصوص ما حدث له. فجأة سمعوا نباح الكلب ووقوقته أمام المنزل، خرجت الأم مسرعة من الغرفة وفتحت باب المنزل. وسمعاها تتويل : » يا إلهي إنه بيرس لقد عاد، لكن من قطع ذيله !؟ «. وهمهم الأب : » في السنة الفارطة اختفى لمدة شهر ولم يحدث له شيء يذكر. واليوم يحدث له شيء كهذا، يا له من أمر غريب يا للنحس «. واغرورقت عيني بوجا. غير أنه سمع أمه تسائل أباه : » والموضوع ... هل هناك أخبار سارة «. رد الأب، بعدما احتقن وجهه دما : » داخلية الإعدادية، رفضت طلب استفادة ابننا من المطعم والسكن المدرسيين «. فهم بوجا أنه لن يستطيع متابعة دراسته بإحدى الإعداديات، فليس بمستطاع الأسرة أن تتحمل نفقات دراسته بالمدينة. اقترحت الأم أن يتابع دراسته بالكتَّاب. واقترح عليه الأب أن يساعده في البحيرة. رغم أن هذا القرار كان له تأثيرا بليغا على نفسيتهم أجمعين. وتذكر بوجا تلك الجملة التي قالها فيه معلمه : » إنك على موهبة عظيمة.. يزكيها صفاء ذهنك البدوي... عليك فقط أن تصقل هذه الموهبة. وذلك لن يتأتى لك إلا بمتابعة الدراسة... عش عاريا أو كاسيا، ملآنا أو جائعا... لكن تمسك بمتابعة دراستك... «. وبقيت كذلك عبارة الجدة راسخة : » إذا ما متُّ ولم أعلمك السحر فقد مِتُّ وفي نفسي الكثير من حتى... «. 3 حلم مزعج وضع رأسه على المخدة، وتذكر مآسي هذا اليوم. كل شيء كان مزعجا، الأحداث والذكريات وحتى الأخبار، سينقطع عن الدراسة. تكسر أمله مثل كأس نُثِرَ زجاجها بمكان قفر ومظلم. سيشتغل رفقة أبيه. وسيتسلم صخرة سيزيف تدريجيا مع مرور الزمن. هناك أعمال أخرى سيوفر بها مصروف جيبه! . في فصل الشتاء سيجمع "الحلازين". وفي الربيع سيجمع الزّعتر وأعشاب أخرى. وفي الصيف سيلتقط صمغ أشجار الطلح والزقوم. لم يكن الالتقاط في هذه القرية عملا وضيعا، فجميع أطفالها يمارسونه . وفي قرية كهذه حيث لم يظهر التخصص بعد، حتى الكبار يمارسون هذا النشاط كعمل إضافي. لكن تلك الأعمال كانت شاقة، فلم يكن يستطيع جمع كيلوغرام من صمغ الطلح مثلا دون أن تدمي الأشواك أصابعه، وتظهر على ظهر يده خدوش كثيرة. يبدو معها مثل خريطة الشبكة الطرقية لباريس. خيَّم ظلامٌ دامس وصمت قاتل، ازداد ارتباطه بالوسادة. لم يكن يسمع سوى حوافر الدواب أو ثُغاء خروفٍ صغير يبحث عن ضرع أمه، في إحدى إسطبلات الجيران. أو صياح بعيد لثعالب يتهارشون حول جيفة. تمنى أن يغشاه النوم لينقطع اتصاله بهذا العالم. أجابه صوت خرافي: » نعم أنا ملك النوم، لدي عوالم متعددة، أي منها تريد ؟. عالم الأخيار، عالم الأشرار. القلعة السحرية، عالم الضفادع «. هو نائم إذن ويحلم، إلا أنه يعي أنه يحلم. كان يسمع أنه في إحدى سنوات الإعدادي. يطلب الأستاذ من تلامذته أن يحضرون معهم ضفادع لإجراء تجارب في مادة الطبيعيات، لذلك فضل أن يدخل عالم الضفادع. تحولت الجلبة إلى صمت والحركة إلى سكون. لم يعد يسمع شيئا ولا يبصر حتى. كأَن أحدا خدش باحتا سمعه وإبصاره. لم يعد سوى فكرة وجود. تذكر والديه وما وقع له اليوم، وسمع نفسه يردد : » أنا أتذكر إذن أنا موجود «. ظهر شيء شبيه بضباب قريب من الأرض. ضباب كالظلام، ثم شعر بصدره يضيق. وبدأ يتنفس بسرعة مثلما لو يبحث عن ذرات قليلة من الأوكسجين وسط الآلاف من ذرات ثاني أوكسيد الكربون. بدأ يلمح نسوة بجلود الضفادع ، والمحظوظات منهن فقط كانت لهن جلود بشرية. لكن أحد أعضائهن كان عضو ضفدع. فَهِم من خلال كلامهن أنه من الصعب إشعال النار هنا حيث قلة الأوكسجين. كانت إحداهن تنقر أظافر إبهاميها. والشرر يتطاير، وهي تقول : » لا بارقة أمل في إشعالها يا ضفى «. وظهرت ضفى ترتعش وراءها كأنها وحدها توجد بمنطقة جليدية. أما الجاذبية فقد كانت ضعيفة حتى أن بعض النسوة كن تلتحمن مع بعضهن حتى لا ترتفعن أكثر مما هو مطلوب. شاهد امرأة مقلوبة على ظهرها وتصيح » أنقدوني.. النجدة «. حاول أن يوقفها لتستوي، بيد أنه لم يفلح في ذلك. فقد ظلت تعود لحالها كما لو كان ظهرها يتمغنط مع السطح تجاذبا. وبطنها يتنافر معه. وصلت سلحفاة كبيرة، تظهر كأنها دَبّابة تسري مرتفعة على السطح ببضع أقدام. نزلت منها امرأة ممشوقة القد، لا توجد بها علامة توحي بأنها تنتمي لعالم الضفادع سوى عيناها الخضراوان. جاهد بوجا نفسه كثيرا ليقرأ ما كتب على صدر وزرتها البيضاء : "ضفدوعة الشفورة، أستاذة بقلعة الفنون السحرية، ومحامية محلفة، وفاعلة جمعوية". بدأت الأستاذة تساعد الطبيب الذي كان يفحص المرأة المقلوبة، دون أن يفتح فاه. بدأت أصابع يده تتحول إلى أدوات طبية جراحية، وهو يلوح فقط للأستاذة أن تمد له شيئا من محفظة كانت بجانبها. همهمت الأستاذة بشكل مسموع : » لقد ازدادت نسبة الجاذبية بين ظهرها والسطح. يا له من مرض جديد بدأ يظهر بهذه البيئة «. واتجهت نحو الأستاذة نسوة أخريات، وبدأت إحداهن تتكلم كأنها تستعطفها : »قوانين الجاذبية بدأت تتغير بهذا المكان ! ؟ يتحتم علينا البحث عن بيئة جديدة، تلاءم تكاويننا ؟!. إذا كان هذا صحيح، فلن تبقى هنالك سوى النساء اللائي يعانين من فقر الدم، أي فقر الحديد في الدم. فهن وحدهن ستلائمهن هذه البيئة. لكن ما عسانا أن نفعل ببيئة لا تلاءم سوى المرضى «. ود بوجا الخروج من هذا العالم الذي ضاق فيه صدره. كان يحس بشيء ثقيل فوق كتفيه كالصخرة. بدأ يرغب في الخروج من أحد الأبواب. إلا أنه كلما اتجه نحو باب إلا وانغلق في وجهه. (وهو نائم) تذكر الإحاشة والقصر. لا شك أنه نائم، وأنه يحلم. تمنى لو كانت حتى رحلته مع أبيه حلما. اتجه نحو باب آخر بقي الباب مفتوحا. بيد أن امرأة مليحة الوجه تعرضت سبيله وهي تقول : » بوجا خلصني من هذا العالم من فضلك، إنني غريبة مثلك «. تقول ذلك وهي تحاول التمسك به ومعانقته. بيد أنه كان ينتفض ويحاول التخلص منها. وهو يرنو إلى الباب الذي بدأ ينغلق شيئا فشيئا. وأحس بذلك الجلد الضفدعوي لذراعيها. وبدأ ينتفض بقوة أكثر. إلا أنها كانت أكثر تمسكا، حتى أن أصابعها انغرزت بصدره. وابتعد عنها وبقيت بعض أطراف قميصه بين أصابعها. وبقيت تلك الخدوش موشومة على صدره كأنها بقع برص من جلد الضفادع. وانجلى عالم الضفادع كالسراب. وظل يسمع كلامها الأخير » بوجا أنا ضُفَى.. حاول أن تبقى حيا «. ووجد رأسه بين يدي أمه رقية ووالده حاملا شمعة مشتعلة. يحاول أن يجمع عليها راحتاه حتى لا يطفئها نسيم البرد. كان يتقيأ هلاما أصفر. لم يكن والده يستطيع التحكم في شفتيه اللتان بدأتا ترتعشان وهو يردد : » لا تخف يا بني، الخوف والتعب والحرارة التي تعرضت لها اليوم ، وفرحتك التي كُِبتَت. فقد كنت تود شراء حداء رياضي، في الأسبوع المقبل سنشتريه لك. مجرد حمى لا تخف «. وقربت الأم "مجمرا" وبدأت تبخره بقليل من الشب والحرمل، وقليل من صوف أضحية العيد، وهي تردد : » عين الشابة في الدابة، عين الحسود فيها عود «. ثم أذابت حبة من الأسبرين في كأس ومدتها له، وظل هو يستغل انشغال أبويه عنه ليطل على صدره ويتأكد من تلك الوشوم: » حقا هنالك بقع شبيهة بالبهق «.)يتبع...)