لا أدري لماذا يشده الشوق إليها ويجعله الحنين يرسم طيفها بسواد حزن عكر على ورقة العتمة ، في جنابات ليل مغس. ذات برهة حاول أن يكسر رتابة الضيم الذي أضحى كائنا لا محيد له من جسده. وظل عنان المرض فيه على حاله إلى أن نشب اليأس مخالبه في واسع من أحشائه، رفع رأسه وأدنى برجليه من فوق السرير الذي لم يعد يطيق كومة جسده الذي أمسى جثة على تابوت في جو جنائزي. دار رأسه يمينا ثم شمالا إلى حين استقرت عيناه على كوة في وسط الغرفة، يبص من خلفها إلى أطفال يلعبون، تارة يحرنجمون وتارة يفرنقعون، فهمر العرق من أعلى جبينه إلى أسفل دقنه، كأنه طفل أعياه اللعب فجلس ليستريح، بل إن حنينه إلى زمن طفولته المفقودة ، لاذ به إلى ذلك. فقصد باب الغرفة بخطوات غير متزنة إلى أن وصل المكان المعهود إليه، حيت يستظل بظل نخلة تناءت عن بلد النخل، فتساءل مع نفسه: لماذا هذه النخلة ترج برأسها المكسوف على إيقاع تيار الهواء؟، جريدها لا يستقر على حالة، كأنها تلوح في الأفق تناجي الرحمان أن يجعل لها نسيب في غربتها، تحاكيه الهموم ويحاكيها، فحاول أن يضع لسؤاله جواب، فتساءل مرة أخرى : أليست برهة النخل الولود هاته؟ بل إنها كذلك ، فما بال هذه النخلة عقيم؟ فزاد جريد النخلة رجا كأنه أراد أن يدخل في تواصل معه، فأحس الفتى بالكآبة من جديد فخر باكيا، فنظر إلى خلفه فتبدت له بعض الأرام، صنعت لها من جدع النخلة جحرا يأويها وهي تتظاهر بابتسامة خافتة على محياها، كأنها أدركت ما يجول في كيان هذا الفتى من غربة وهموم. فتمنى لو كان مكانها لعله يخفف عن نفسه والنخلة قليلا، فعاد من حيث أتى منحني الرأس، محدودب الظهر، يأخذ في يده أوراقا وصورا عليها مخطوطات لذاكرته المتناسية، متحسرا على طول غربته ومرضه، متمتما وهو يقول: دع الألم، دعه يذهب لبرهة، دعه يبحث عن مأوى، أما في الدنيا غير هذا الجسد؟ ... هل لي من سبيل؟ الأيام تنسل ببطء كأعواد الحصير لطول الزمان، وكمشية القط على الجدران، آه ثم آه...