بالرغم من عدم اتفاقي مع صاحب العمل الروائي، على ورود بعض العبارات و الكلمات بين دفتي الكتاب، و التي أرفض أن أسمعها حتى و أنا مار في الشارع، لكن على العموم الرواية مليئة بمجموعة من الرسائل الصريحة و كذلك الضمنية، التي أراد الكاتب منا أن نفتحها و نقرأها و نعرف فحواها. عندما فرغت من قراءة رواية يوم رائع للموت لصاحبها سمير قسيمي، أدركت جيدا أن من يبحث عن الموت هربا وراحة من قسوة الحياة، التي تسبب فيها أناس يقتسمون الأرزاق بينهم فقط، و لا يتركون للآخرين غير المعاناة و الألم، قد لا يلبي الموت نداءه، حتى و لو كان ذلك محاولة لتحدي القدر "الانتحار"، لأنه في البداية و النهاية الله و حده من يحدد موت الإنسان، و لا يمكن للبشر التدخل في هكذا معادلة. كما أيقنت كذلك، أن الذي يقبل ابتياع صمته و سكوته، لمن يقتسمون أرزاق الناس، مقابل العيش في النعيم و التمتع بملذات الحياة و بهرجها، لا يمكن له أن يهرب من الموت إلا إلى الموت الذي هو أمامه. فبطل الرواية حليم بن صادق الصحفي و المثقف، الذي أرهقته الحياة، "لم يكن أبوه مجاهدا و لا حركيا، كان واحدا من الشعب"(ص 105)، يعمل كأجير و يستأجر منزلا، "لا يملك شبرا في وطن كالقارة، الميت أفضل منه يملك قبره، لا يعاني أزمة سكن و لا أزمة بطالة" (ص 106). هروب حليم بن صادق نحو الموت، من خلال تجربة فكرة الانتحار، راحة من هذه الحياة غير العادلة، التي تحابي فقط أصحاب المعالي، جعلها تأتيه صاغرة، فنجاته من موت كاد أن يكون محققا، جعلت السلطات تهتم به، حتى و لو أن اهتمامها لا يعدو أن يكون شكليا فقط، أما مدير الجريدة التي كان يشتغل فيها حليم، سارع إلى إرسال شيك مقابل أجرته العالقة منذ أشهر، خوفا من أن يتهم بأنه سبب في حادثة الانتحار، و تهاطلت عليه عروض العمل، و عادت له خطيبته السابقة، ووعده المير بسكن...هناك الكثيرون في هذا البلد يعملون و يكدون، لكن حقوقهم تهضم، لا يمكن لهم استرجاعها سوى بغلق الطرقات بالحجارة و المتاريس المحروقة، لأنه ببساطة شديدة السلطات تخشى و تخاف من خرق النظام، و الكل يعلم ما المقصود بذلك. المهم أن حليم بن صادق صار راضيا بالنعيم و يشعر بسعادة غامرة لا يمكن أن توصف، فهو "لا خوف عليه من الإفلاس، إذ ليس عليه إلا أن يطلب فيعطى، هكذا قال له الوزير حين زاره في المستشفى" (ص 118). حليم لمّ ضعف، أراد الموت المادي "الانتحار"، لكنه استسلم للموت المعنوي "الصمت و السكوت"، و هو ما يذكرنا بنسخ كثيرة من مثقفينا، و ليس هذا إعلانا للحرب، أو دخولا في سجالات السب و الشتم، التي لا تنتهي حتى تبدأ من جديد، بقدر ما هو إسقاط على نماذج بشرية، و حالات يمتلئ بها واقعنا المعاش، و هو ما قد يكون قصده صاحب الرواية. فهناك من وصل به الحد إلى إعلان بيع أحد أعضاء جسده "موت مادي جزئي"، انتقادا لأوضاعه المعيشية الصعبة، التي تسببت فيها فوضى النظام السائد، لكن و للمفارقة، تغيرت أوضاعه بعدها رأسا على عقب، و تحول بقدرة قادر إلى صاحب مؤسسة تدعمها الدولة، ليدخل بعدها في صيام طويل عن كل ما يمس من قريب أو بعيد السلطات، ما عدا عن الكلام المباح، " موت معنوي"، مثل ما وقع فيه صديقنا بطل الرواية حليم بن صادق. و هناك نسخ كثيرة أخرى، أكتف بذكر نسخة تطاولت على شاعر الثورة و مؤلف النشيد الوطني مفدي زكريا، و على شاعر جمعية العلماء المسلمين المرهف الحس و صاحب الوعي الوطني، محمد العيد آل خليفة... الخ، و قامت بدفن خربشاتها التي لم يقرأها أحد، و التي تدعي أنها شعر، معلنة وفاتها، و هذه النماذج للأسف الشديد، نماذج غير مشرفة في سماء الأدب الجزائري، ميتة معنويا، و في انتظار موتها المادي، التي لن يذكرها بعده أحد، بخير أو بشر، كما نذكر كلنا مفدي زكريا و محمد العيد آل خليفة. و بالرجوع إلى بطل الرواية حليم، الذي شغلت محاولة انتحاره "موته المادي" أكثر من 96 بالمائة من صفحات الرواية، نجده "نجا و لم يصب إلا بكسر في يده و رجله اليسرى" (ص 117)، لكنه للأسف الشديد استسلم كما ذكرنا سابقا للموت المعنوي "الصمت و السكوت"، و الذي لم يتنعم بثمنه إلا أربع أيام فقط، فقد "جمدت حدقتاه عن الحركة، و ارتفعتا إلى أعلى و قد جحظت عيناه و هو يرعش...ثم استسلم للاختناق"(ص 119)، إلى حد أن سقط ميتا، لأنه كان يأكل المكسرات ويضحك، عند قراءة تلك الرسالة التي كتبها بنفسه قبل محاولة انتحاره. فمن يجري وراء الموت هربا من قسوة الحياة و ظلمها، قد لا يدركه الموت "الموت المادي"، و من يستسلم لجبنه و يبيع ضميره "موت معنوي"، قد يدركه الموت أنما كان، قبل أن ينعم بالمبلغ الذي قبضه ثمن صمته و سكوته، و هذه حكمة الله في الكون.