كانت إمارة الشعر حدثا غير مسبوق، ومناسبة جليلة أظهرت قيمة الإبداع الحقيقي، وتميز الشاعر الكبير أحمد شوقي (ت1932م) أمير الشعراء الذي ملأ سماء الدنيا شعرا، افتتنت به الأسماع والألباب، وطابت به الآفاق والأرجاء، وعرج على شتى نواحي الحياة في حيوية وسلاسة وعذوبة عز نضيرها؛ لذلك لم يكن عبثا أو مجاملة أن يتوج بهذا التاج الأميري، وهذا اللقب التاريخي الذي صار يدغدغ العواطف، ويسيل له لعاب كل شاعر. وقد بايع شوقي شعراء كبار، يكفي أن يذكر من بينهم شاعر النيل حافظ إبراهيم (ت1932م) الذي قال في عينيته يوم الاحتفال سنة 1927م: أمير القوافي قد أتيت مبايعا وهذي وفود الشرق قد بايعت معي وقد سبق لحافظ إبراهيم أن قال في مدح محمود سامي البارودي (ت1904م) سنة 1900م: أمير القوافي إن لي مستهامة بمدح ومن لي فيك أن أبلغ المدى لقد ارتبط لقب أمير الشعراء بأحمد شوقي ارتباطا تاريخيا يبدو أنه لن ينفك عنه أبد الدهر، كما هو الأمر في ألقاب أطلقت في مجال الأدب وغيره، فصار يعرف بها أفراد معينون، فلا يذكر شوقي إلا ويذكر معه اللقب الأميري، وكأنه اختص به فلا ينصرف إلى سواه، رغم أنه أطلق من بعده بفترة طويلة على الشاعر اللبناني بشارة الخوري (ت1968م). ومع أن مبايعة شوقي بالإمارة أثارت حفيظة بعض الشعراء كالشاعر العراقي جميل صدقي الزهاوي (ت1936م) الذي يقول: قالوا لشاعر مصر دار الإمارة تبنى فقلت يا أهل مصر منكم أمير ومنا وهو الذي اقترحه طه حسين (ت1973م) بعد وفاة شوقي للإمارة مع شاعر عراقي آخر هو معروف الرصافي (ت1945م)، معتبرا أن إمارة الشعر انتقلت من مصر إلى العراق، فالواقع أن الإمارة ليست حكرا على بلد بعينه، والأمير يمكن أن يتعدد في الزمان الواحد. وأخذ بعض المحدثين يطلق هذا اللقب لبريقه وتاريخيته ودلالته العميقة على عينة من الشعراء قبل زمان شوقي إشارة إلى تألقهم وسبقهم في مضمار الشعر، كما هو الأمر مثلا في هذين العنوانين: أمير الشعر في العصر القديم: امرؤ القيس: محمد صالح سمك - أمراء الشعر العربي في العصر العباسي: أنيس المقدسي. لكن حمولة اللقب التاريخية والفنية مرتبطة أساسا بشوقي، وهي التي تقف وراء تسمية الكتابين، فمتى أطلق هذا اللقب فإنه يستلهم إمارة شوقي، ويستمر إشعاع هذا اللقب ليلهم الشعراء والأدباء، ويلهب المشاعر والتطلعات. والطريف في الأمر، والممتع حقا، هو استحداث قناة تلفزية بالإمارات، تنظم مسابقة "أمير الشعراء" التي يتبارى فيها على الهواء مباشرة ثلة من الشعراء يكتبون بلغة الضاد على نمط القصيدة القديمة، يعرضون أعمالهم أمام الجمهور، وأمام لجنة التحكيم، في سابقة تذكر بأسواق الشعر في الجاهلية، وفي طليعتها سوق عكاظ، وتتكون اللجنة السالفة الذكر من خمسة أعضاء، وهم: د. أحمد خريص من فلسطين، ذ. نايف الرشدان من السعودية، د. صلاح فضل من مصر، د. علي بن تميم من الإمارات، د. عبد الملك مرتاض من الجزائر. وتقوم اللجنة مشاركات المتبارين، التي تشتمل على المكتوب والمرتجل، ويحظى الخمسة الأوائل من الشعراء بجوائز قيمة، أولهم يفوز بلقب أمير الشعراء، والجائزة التي قدرها مليون درهم إماراتي، ويكسى البردة وخاتم إمارة الشعر، في عرس احتفالي كبير. إنها جائزة سنوية مغرية ورائدة، استقطبت آلاف المشاركين، وملايين المشاهدين والمتابعين، وقد فاز بها على مدى المواسم الثلاثة الماضية الشعراء التالية أسماؤهم: عبد الكريم معتوق من الإمارات، سيدي محمد ولد بمبا من موريتانيا، حسن بعيتي من سورية. والحقيقة أن حلقات برنامج أمير الشعراء فرصة لدعم الشعر بشكل عام، والقصيدة العمودية بشكل خاص، وهي كانت وما زالت قادرة على أن تستوعب قضايا الوجود والحياة، وتلبي وجدان الشاعر، وتستجيب لتجربته الغنية، ورؤيته الحالمة. ولحظة التتويج بلقب الإمارة شهادة واعتراف بأن الشاعر بلغ من الإبداع غايته، ومن النبوغ والتفوق أقصاه، ونحن بحاجة إلى أمراء للشعر العربي، وليس إلى أمير واحد، وذلك حتى يكثر المبدعون، وتنهض القصيدة العمودية من جديد، وتنبعث كما انبعثت في عصر النهضة. فإذا كان شعراء عصر النهضة جعلوا نموذجهم الشعر العربي القديم في عصوره الذهبية، فإن شعراء هذا العصر ينبغي أن يغترفوا من كل معين سواء كان قديما أو حديثا، ويجعلوا روح العصر بمختلف أبعادها قلبهم النابض، وماء حياتهم الدافق؛ لأن الشعر كلما ارتبط بالحياة الإنسانية، كان أكثر حيوية وجمالية، فالجمالية لا تتأتى فقط بالصور الفنية الساحرة، بل تتأتى أيضا بصور الحياة الأخاذة المدهشة، وإنما الشعر حياة. وعلى الرغم من نجاح برنامج أمير الشعراء وروعته، فإنه تؤخذ عليه عدة ملاحظات، منها: - نزعته الاحتفالية المبالغ فيها. - طابعه التجاري؛ إذ يشرك الجمهور في التصويت على الأمير، ويمنحهم خمسين في المائة. - الذاتية في النقد، والمجاملات التي تهيمن على آراء النقاد. وفيما يخص القناة فإنه يؤخذ عليها ما يلي: - التكرار الممل للحلقات. - عدم تقديم الجديد من الشعر وأخباره. ويعتبر هذا البرنامج رائدا في اهتمامه بالشعر الفصيح في مقابل الوسائل الإعلامية التي أغرقت في الاهتمام بالشعر العامي المكتسح للساحة. والمأمول أن تكثر القنوات التي تعتني بالشعر العربي؛ لأن في ذلك نصرة لهذا الشعر وللغة العربية التي تعتبر روح الأمة وجوهرها، وثابتا من ثوابتها، ومقوما من مقومات حضارتها. ويبقى للإمارة فضل كبير على الشعر العربي؛ إذ نفخت روح الحياة في بنيته، وأمدته بأسباب القوة والنهوض والاستمرارية، وستظل مصدر إلهام، وحلما يراود الشعراء، وقمة شامخة تشرئب إليها الأعناق، وتخفق لها الأفئدة.