الراحل الكبير محمد حسيب القاضي، الذي غادر دنيانا في الثلاثين من إبريل 2010، اكتسب حضوره وشهرته في الأوساط الأدبية، الفلسطينية والعربية، من خلال كونه شاعراً فلسطينياً، رغم أنه حتى في هذا الجانب فإن ما ناله من كتابة ونقد لم يوفه حقه، بالنظر إلى طول وعمق تجربته وتنوع إنتاجه الشعري (أغنية وطنية وثورية، قصيدة التفعيلة، قصيدة النثر، الشعر المسرحي، النص المفتوح....). الشاعر القاضي لم يقف عند حدود الشعر فقط، بل تعداه إلى النقد، وقدم إسهامات هامة في هذا المجال، انطلاقاً أولاً من قدرته على ذلك، وثانياً من شعوره (وبمرارة) بأزمة النقد، وما تولده هذه الأزمة من مأزق في المشهد الأدبي، فالشاعر أو القاص أو الروائي، يحتاج إلى ناقد يتناول إنتاجه بالتحليل والتفسير والإشارة إلى نقاط القوة والضعف، والمبدع الحقيقي -كالشاعر القاضي- لا يخاف من النقد والنقاد، بل ينتظر بفارغ الصبر آراءهم وكتاباتهم ومتابعتهم لما يتم نشره من إنتاج أدبي. أشار القاضي بوضوح إلى أزمة النقد هذه في حوار صحفي أجريته معه عام 1995م، بعد عام على عودته إلى أرض الوطن، حيث وجهت له سؤالاً عن النقاد وحركة النقد، وأبرز المشاكل في هذا المجال، فأجابني بأنه لا يمكن أن يتقدم أي إبداع في أي لون من ألوان الكتابة بدون متابعة نقدية، وبدون قدر من حرية الفكر. وصورة المشهد الأدبي لا تنفي وجود عدد من النقاد إلى جانب جيل جديد من المبدعين، ومع ذلك لا نجد نقداً أدبياً إلا بعض ما تنشره صفحات الأدب في الجرائد المحلية، وهو نقد انطباعي سريع يخضع للحيز الضيق في الجريدة أو الصفحة، وهو ليس نقداً بالمعنى العميق للكلمة. أما فيما يتعلق بالشق الآخر من سؤالي حول مشاكل الحركة النقدية فقال أنه يضع كلمة حركة بين قوسين لأنه لم تتشكل بعد ملامح تدل على وجود حركة مكونة من عدة تيارات واتجاهات في الكتابة النقدية. وربما يكون أبرز هذه المشاكل آفة الادعاء الفارغ والخمول العقلي القاصر عن الانفتاح على أحدث منجزات الفكر النقدي في العالم. وعندما واجه الشعراء في مصر عدم اهتمام النقاد بشعرهم لأنه يمثل حالة انقلابية داخل الشعر في مصر خلال فترة السبعينات لجأوا إلى خلق نقادهم من بينهم، بل إن بعضهم تحول إلى النقد كلياً. ويبدو لي (والكلام للقاضي) أننا سنجد أنفسنا أمام الخيار ذاته فيما لو استمرت حالة الركود في حياتنا الثقافية، وعدم قدرة ما يتوفر من النقد على مضاهاة الذائقة الأدبية الجديدة، وأخص منها الشعر، وإلقاء الضوء على الأعمال الشعرية التي تأخذ بأسباب التمايز ودلالات الخروج عن نمط المعهود" هكذا شخّص القاضي المشكلة فيما يتعلق بالنقد، ولذا ليس غريباً أن نراه قدم مداخلات وكتابات ودراسات نقدية أثرت المشهد الأدبي الفلسطيني، وعكست بحق قدرات متميزة لديه في الإبداع النقدي إضافة إلى إبداعه شعراً ونثراً، وقدمت للأدباء في فلسطين نموذجاً للأديب المثقف ثقافة عالية وموسوعية. الأمثلة التي تبرز أهمية وعمق الإسهامات النقدية للشاعر القاضي كثيرة، أذكر منها (وغالبيتها في ندوات اتحاد الكتاب بقطاع غزة خلال عامي 1995 و1996): * تعقيبه خلال ندوة استضافت القاص المرحوم زكي العيلة (توفي قبل حوالي عامين) بقوله " ليس مطلوباً من زكي العيلة أن يكتب رواية، ولدينا أمثلة كثيرة في العالم العربي مثل يوسف إدريس، فرغم أنه كتب عدة روايات، إلا أن القصة القصيرة التصقت به، وحينما يقيم، فإنه يقيم كقاص مبدع استطاع أن يضيف لفن القصة .. وفي حالة زكي العيلة فإنني أطالبه بكتابة القصة القصيرة، فقد شعرت بأن لديه مخاوف من الرواية ليس هيبة منها، ولكن تركيبه الداخلي كقاص يميل إلى تفجير اللحظة الشعورية في ومضة" وفي موضع آخر يقول القاضي في نفس الندوة "في حالات الكفاح الشعبي نجد أن الشعر أسرع في تلبية الحاجات اليومية لهذا الكفاح، في حين أن القصة والرواية ليس مطلوباً منهما أن تواكب الأحداث، فمعظم الأدباء الكبار مثل "سارتر" و"بوفوار" كتبوا أعمالهم بعد وقوع الحدث في بلادهم بسنوات وليس في حينه. والذي حصل عندنا في فترة الانتفاضة الشعبية أنها أفرزت أدباً ولكن ما هي نوعيته؟ كان هناك سباق بين القاص والشاعر وهو سباق خاسر، وأنا أعتقد أن أدب الانتفاضة الناضج لم يولد بعد". * في دراسة نوعية له حول قصائد مختارة لصديقه الشاعر المصري أحمد الشهاوي يقول القاضي: -أن الشاعر أحمد الشهاوي منذ ديوانه الأول "ركعتان للعشق" الذي أصدره في بداية الثمانينات، وهو يسعى جاهداً لأن يكون له صوته الخاص غير المختلط، وإن لم يكن كذلك في هذا الديوان، وكان له ما أراد في ديوانه الأحاديث رقم 1، والأحاديث رقم 2، وفي قصائد هذين الديوانين يتكئ بوضوح على تراث ديني صوفي يوظفه في التعبير عن تجربته معتمداً على بساطة اللغة دون مغالاة في جماليات التشكيل. أحمد إذن وقع على تراث المتصوفة (النفري-ابن عربي-الحلاج-ابن الفارض) واستمد من تقنية الأحاديث النبوية الشريفة أسلوباً للتعبير عن نفسه، وقد وجد في كل ذلك بغيته ووسيلته نحو الكشف عن كوامن نفسه القلقة إزاء موضوع الموت (وأخص هنا تجربة الشهاوي الطويلة مع المرض شفاه الله) فالموت يعبث بين أسطر قصائده ليجسد حالة إنسانية ترمز إلى عبثية الحياة. -أن الموت في شعر الشهاوي لا يأتي من تصور فلسفي محدد (مخالفاً بذلك نقاده: إدوار الخراط، محمد عبد المطلب و د. البسطويس) ولكن من اعتراف بشيء ما وربما لهذا السبب تطغى اللمسة الرومانسية لديه وتعلي من شأن الغناء، بتصور شعري أساساً يمزج بين الخيال والواقع في فانتازيا شفافة ومؤثرة. واستخدامات الشهاوي للغة المتصوفة ليست مجانية بدون دلالة فكرية تشع مناخاً وظلالاً يريد به الشاعر أن يجسد معاناته مع المرض والحياة. -أن الشهاوي لم يلتفت لغير تجربته الخاصة وعبر عنها كما أحسها ورآها ولم ينجرف وراء أفكار زملائه من شعراء جيله بل نجده يراوح بين خطاب البوح الصوفي والعالم الخارجي مستفيداً من إنجازات تجربة السبعينات (الرؤية) والثمانينات (السرد كتقنية شكلية مأخوذة من أسلوب القصة القصيرة). إنه "شعر بوح، والغنائية مبررة في إطار تجربة الشهاوي، لكن ثمة فرق بين غناء الدراما المركبة، وغناء الصوت الفرد ذي البعد الواحد، وميله إلى الغنائية يرجع في الأصل إلى آلامه الجسدية والروحية! -يتساءل القاضي: ما مدى نجاح الشهاوي في كتابة قصيدة مختلفة سياقاً ورؤية وتركيبا؟ ويجيب قائلاً: إذا كان الألم هو طريق المعرفة أو الكشف عند جماعة الصوفيين فإن آلام الشهاوي الجسدية والروحية تطفو أحياناً على السطح وفي أحيان أخرى تمتزج بالوجد والاحتراق الداخلي خلال القصيدة! -الشهاوي يؤكد خلال أعماله وآخرها "أحوال العاشق" خصوصيةً ما في أسلوبه تعبر عن مهارة في الأداء مكتسبة من طموحه لأن يتفرد ويضيف إلى تجربة الشعر المصري، فهو شاعر مثقف ومتابع نشط لحركة الشعر وقراءاته كثيرة ومتنوعة. -ختم محمد حسيب القاضي دراسته النقدية الهامة بالإشارة إلى أن هناك قضايا كثيرة يمكن أن تثار حول كتابة الشهاوي، ومنها مفهوم النص المفتوح الذي يميز عملين له، كما تثير كتابته وزملائه من أصحاب هذا التوجه العرفاني الصوفي أوجه المقارنة بين ما يكتبونه وما وصل إليه أدونيس في هذا الاتجاه الفني والمعرفي، وأقول الفني للتفريق بين اتخاذ الأدب الصوفي كأداة وتقنية فنية في الكتابة، وبين كونها توجهاً دينياً عرفانياً عند فئة من الفلاسفة الإسلاميين. * في دراسة له حول الشاعر المرحوم عبد الحميد طقش يقول القاضي: - لا عجب أن يتخذ طقش من الشاعر الصعلوك عروة بن الورد قناعاً ورمزاً يتحدث من خلاله ليكشف لنا المتناقضات والقيم المستهلكة التي برزت على السطح كردة فعل لأصداء الكارثة الفلسطينية. -عبدالحميد طقش ممتلئ بقراءاته في تراث الشعر العربي، وهي التي حددت نمط تعامله مع اللغة بشكل واضح، بمعنى أنه يميل إلى الجملة البليغة والتركيب اللغوي المستمد من رصانة الشعر القديم، وفي ظني أن ذلك كان يشكل قيداً على الشعر أكثر من كونه ميزة، فهو لم يحاول أن يطور موروثه الشعري البلاغي من داخل النص، ومن داخل اللغة ذاتها مع أنه يستخدم التفعيلة. (ويشير القاضي إلى أنه يلتمس للشاعر العذر في هذه الملاحظة لسببين أولهما أن عبدالحميد طقش هو نتاج ثقافته التراثية، وثانيهما أن فوران الشعور الجماعي إزاء القضية الوطنية قد ساعد على سحب الخطاب الشعري إلى منطقة الاستجابة السريعة لانعكاسات الواقع السياسي) -طقش كان يشعر بأنه لم يكتب بعد العمل الفني الذي يضع اسمه بقوة في مضمار الشعر الفلسطيني، وخاصة بعد غياب أو توقف عدد من شعراء الجيل الأول والثاني، كما كان يستشعر بأن ثمة تيارات جديدة تحملها بعض الأصوات الشعرية، تسعى إلى تغيير نمط الكتابة مستفيدة مما طرأ على القصيدة العربية من تطورات في المفهوم والرؤية في إطار ما نسميه بالحداثة أو الحساسية الجديدة. -من الإنصاف القول أن عبدالحميد طقش كان صادقاً في حياته وفي شعره على حد سواء، نحت كلماته من داخله بقسوة المرض وبقسوة الحياة معاً، وأنه حاول بجهد وإخلاص أن يعبر عن تجربته السياسية والطبقية من خلال نبرة مختلفة نوعاً عما كان سائداً في خطاب تلك الحقبة من الزمان. * ومن الدراسات النقدية للقاضي التي يشار لها بالبنان، الدراسة التي كتبها وقدمها خلال ندوة في اتحاد الكتاب عام 1995م حول ديوان "زنابق شعر منسية" للشاعر الفلسطيني المرحوم خالد نصرة (توفي عام 2007م), وهي الدراسة التي أشاد بها الناقد المعروف د. نبيل خالد أبو علي (الذي قدم بدوره مداخلة نقدية حول الشاعر خالد نصرة في نفس الندوة) ومما ورد في دراسة القاضي هذه: -أعتقد أن خالد نصرة هو أحد التقليديين في شعرنا الفلسطيني الذي يحافظ على صوت الجماعة وصوت الفرد في نفس الوقت، فرغم أنه مازال أميناً على قصيدة "البحر الخليلي" فإن مواضيعه وحالاته منغمسة في واقعنا السياسي والاجتماعي انغماساً عميقاً ومؤلماً، وهو مسكون بهم إنساننا الفلسطيني والعربي على نحو أو آخر..! -خالد نصرة يذكرني بطوقان وأبى سلمى وعبدالرحيم محمود وجيل الرواد في الشعر الفلسطيني الذين تلمسوا المأساة قبل وقوعها في فلسطين، ونبهوا إلى المخاطر الكامنة قبل أن تقع الكارثة الكبرى، فهو في شعره امتداد لوعي جيل من الشعراء نعتز بهم، ومازلنا نقرأهم ونتأثر بدرجة تفاعلهم مع الأحداث والهموم التي غرق فيها الفلسطينيون أثناء الانتداب وبعد قيام الدولة العبرية. -قد نجد في شعر خالد نصرة تأثيرات واضحة لأجواء شعراء الثلاثينات والأربعينات من حيث اعتناقه فكرة توظيف الشعر في خدمة السياسة والمجتمع، وهو توظيف غالباً يكون مباشراً وصريحاً لا يتخفى وراء رمز أو إشارة أسطورية أو قناع تاريخي، لأن خالد كما يقول لا يرغب في ذلك لاعتقاده بأنه سوف يجره إلى نوع من الغموض يقطع صلته بالقارئ، وهو حر في اعتقاده هذا وإن كنت لا أقره عليه. -في شعر خالد نصرة ورفاقه من شعراء البحر الخليلي لا ينبغي تطبيق نظريات من خارج النص نفسه وإنما يجب التعامل مع هذا الشعر من خلال شروط إنتاجه حتى نقترب منه ونطرب له، ونضعه في سياقه العام بين الشعراء العموديين، فهو إلى جانب الشعر السياسي الساخط والمرير، يكتب قصائد وجدانية غارقة في الألم الذاتي الذي يعكس تجارب رومانسية مبكرة يحافظ الشاعر فيها على مادة المعجم الخاص بشعراء هذا اللون الذي نجده في غزليات طوقان وأبي سلمي. -يتساءل القاضي: لكن لا أدري لماذا لا يباغتنا خالد نصرة بأفكار وتعبيرات وصور خاطفة ومستحدثة وهو الذي يمتلك لغة متماسكة وقوية وديباجة صافية وخالية من شوائب "اللغو والهرطقة" التي نجدها عند بعض شعراء العمود الشعري؟ -يختم القاضي دراسته بقوله: وخالد نصرة "حفيد مخلص لطوقان" وشاعر موهوب ومحافظ على تقاليد الشعر وربما لهذا السبب يخشى المغامرة والإبحار في المجهول.. فهو يؤثر التعبير عما في متناول يده، وليس عما وراء الرمز أو الجملة المركبة والصورة الجامحة التي تستنطق مناطق موغلة في الذات. إنه شعر غناء من شأنه أن يغتني بالتأمل واللمح لو شاء الشاعر ذلك.. وهو قادر عليه!. هذه أمثلة لمداخلات ودراسات نقدية قدمها الشاعر الراحل محمد حسيب القاضي (مجرد أمثلة وليست حصراً لكل إسهاماته النقدية بالطبع) علّنا نقف على الكنز الذي كان مخبوءاً في هذا المبدع الكبير، وقد تسهم هذه المقالة في إفادة الدارسين والمهتمين بهذا الجانب غير المشهور في شخصية القاضي (الشاعر) فقد كان رحمه الله يمتلك قدرة مدهشة على فهم النص وتحليله والكتابة عنه بعمق، وبلغة رصينة متطورة وجذابة. ولو أنه –على سبيل الافتراض- كرّس جهده ووقته واهتماماته للنقد لكنّا بالتأكيد أمام ناقد من الوزن الثقيل.