رحل الزوج دون مؤشر يدل على استعداد للرحيل الأبدي . كان بصحة جيدة ، يمارس الرياضة باستمرار مقيدا نفسه بحمية صارمة حفاظا على نظارته و رشاقته . إذا مرض يهرع إلى طبيب الأسرة يلتمس الشفاء ، و هي من ورائه تدعو له " بكل خطوة سلامة " ، لكن الموت نزل مثل الطائر الجارح خطفه و رحل . هذا ما كان في علم الله الأزلي . آمنت السيدة " س " بهذا الابتلاء ، و لبست أثواب الحداد على زوج غاب تحت الأرض في عقده الرابع . كان الأخير في طابور المحبين ، أحبته ، بل نقلت إليه حب أول الطابور، " فاروق". مات الزوج مخلفا وراءه صدمة مزجت في قلبها الشك باليقين ، لتعود إلى صوابها بعد شهرين قمريين . كانت ترى طيفه يتحرك دوما بين الصالون و غرفة النوم و الحمام ، تسمعه يدندن .. توقظها تنهيداته الخافتة على الوسادة المشتركة فوق السرير.. تنتفض.. تشعل المصباح .. تتحسس مكانه.. تجده باردا .. تسمع حركته في الحمام ممزوجة بهدير السخان ، و هو يناديها أن تأتيه بالفوط . تنط من سريرها ، تسرع إلى باب الحمام تسترق السمع .. لا شيء .. تفتح الباب .. لا شيء كذلك .. وحيدة تبكي ،ممددة على سرير صامت في شقة بالطابق الرابع، خرساء بكماء .. لم تخلف أطفالا .. اشتركت و زوجها في العقم ، فصمتا عن الموضوع حتى يأتي الفرج من السماء . قبل شهرين كانت الشقة قد امتلأت بالمعزين ، منهم من جاء من بعيد بات الليلة و الليلتين ،و منهم من قدم العزاء و رحل ، و منهم من أحست به يريد أن يقول شيئا أكثر من العزاء . يقول شيئا بريئا و هو يصافحها بأدب و حزن زائدين ، رفعت إليه عينين كليلتين دامعتين ، فكانت ملامح وجهه غير واضحة ، لكن صوته ، بنبرات، دغدغ شيئا فيها . تغلف بالحزن حتى عاد كالشرنقة .. حاولت استرجاع صورته مغمضة العينين على وسادة خالية ، و تساءلت من يكون و لماذا تلعثم و ارتجفت يده و خرج بسرعة . أرادت أن تستعين بأختها في استبيان هذا الشخص، لكن الحياء منعها مخافة تأويل الأمر ، و هي في مرحلة العدة تلبس البياض و تغطي شعرها لأول مرة . أحست بنفسها في لباس العفة هذا كراهبة في دير مقصي في الصحراء ، فزاد خشوعها و سمتها ، و قاومت الضيق الذي هجم عليها ، زادت من حدته الوحدة القاتلة في شقة مغلقة دوما . حتى الجيران يهابون باب الشقة الموصد و صاحبته .. فرضت عليهم نوعا من التعامل الصارم.. فلا تبادل للزيارات و لا حديث على الأدراج .. باختصار ، " السلام عليكم " " و عليكم ". قدموا العزاء ثم انصرفوا. نظرت إلى الهاتف على المنضدة ميتا لا يرن ، تآمر مع الآخرين في الهجر . شكت فيه ، و رفعت السماعة و ركبت رقم هاتف أختها لتتأكد من كونه غير معطل .. جاء الصوت من الطرف الآخر مبحوحا لأختها المصابة بنزلة برد خفيفة ، تقسم لها على خروجها توا لزيارتها لأمر هام جدا لا يسع الهاتف لتحدث فيه .. جلست على الأريكة تسترجع أنفاسها المتلاحقة عند سماعها بهذا " الأمر الهام جدا " ، ثم نهضت إلى المطبخ تحضر لأختها شايا ، و التساؤلات تتناسل حولها كالنمل المرعب حتى دق جرس الباب ، و كان هو الآخر قد انخرط في مؤامرة الصمت . فتحت الباب و عانقت أختها المتلهفة لإعلان" الأمر الهام ". و كانت السيدة أكثر لهفة لسماعه ، متحفزة بكل حواسها لتلقيه . ارتشفت أختها الشاي واقفة ، و قد رسمت على شفتيها ابتسامة ماكرة ، و سألتها إن كانت تتذكر الشخص الذي حضر في اليوم الثاني من أيام العزاء . مطت السيدة "ج" شفتها السفلى متصنعة النفي . طفقت أختها تصفه بدقة كأنه أمامها ، و قبل أن تنطق باسمه ، صرخت السيدة قائلة " لا يمكن " . ردت الأخت " بل كل شيء ممكن يا عزيزتي .. إنه هو .. بقي وفيا لم يتزوج ،زارنا البارحة في بيتنا يطلب يدك". بقيت السيدة مشدوهة أمام أختها ، و قد عادت بها الذكرى إلى أروقة الثانوية التقنية ، و المقعد الخلفي و الجليس الوسيم الرقيق " فاروق " ، من عائلة ميسورة ، كانت آثار النعمة بادية عليه في الملبس و مصروف الجيب ، لكنه كان متسلطا ، أراد امتلاكها كقطعة أثاث أو كساعة يدوية .. هكذا أحس به و ربما خطئا ، لتتركه و هي راغبة فيه ، و تمزقت بين شخصه و الحرية التي عشقتها إلى درجة الاستهتار ، فاختارتها من دونه . لتتزوج بعد ذلك حاملة قلبا يتذكر ذلك المهووس بين الفينة و الأخرى .. اعتقدت باستحالة عودته .. لكنه عاد .. و تساءلت : كيف عرف ؟ أكان يتابع أخبارها من بعيد ؟ و لماذا بقي أعزبا طول هذه المدة ؟. هو الذي كانت تلتهمه أعين صحيباتها و هي قريبة منه مزهوة به كأنثى طاووس . سألت أختها ، و هي تعلم أنها لن تجيبها . لماذا عاد ليجعل من الجرح جرحين ؟ قولي له إن الفنن الذي أحبه يبس و تحول إلى عود أشواك بلا زهر . قولي ذلك أرجوك . أشاحت الأخت بوجهها نحو النافذة المغلقة برهة ، و خفضت من صوتها مقدرة شعور أختها ، و حاولت إقناعها بان الفقيد قد لقي ربه ، و الحياة مستمرة باستمرار هذا الوجود ، و أن حياتها في هذه الشقة رهينة المحبسين ليست حياة سوية . قالت لها راجية : " افتحي النوافذ و الأبواب ، فإن العمر أقصر من أن تتصورين ، و الحياة أرحب من هذا الحبس ، و السي " فاروق " جاد في كلامه ، فحددي له موعدا للقاء ، أرجوك ".