تقدم رواية الطائر الحر الحائزة على جائزة القناة الثانية للإبداع الروائي للكاتب المغربي هشام مشبال نماذج لشخصيات تتفاوت أعمارها ، وتختلف طموحاتها وهواجسها، بينما يوحدها الفشل في تحقيق أحلامها، وانكسارها أمام صخرة الواقع المتغير باستمرار. تبتدئ الرواية بصورة قاتمة خانقة، تشي بالضجر والسأم: كان يوم أحد، اليوم الذي لا أطيقه (ص7 من الرواية). وتتعمق هذه القتامة بتقديم صورة مدينة تطوان وقد جثم عليها الضباب الذي يضاعف المأساة الوجودية للبطل/ السارد: لم يتبدد الضباب الجاثم على المدينة كما توقعت، بل أيقنت أن سلطته ستستمر أياما طويلة تزيد من أعبائي وتضاعف إحساسي الحاد بقتامة الحياة وقيودها الأبدية(ص7 من الرواية) إن هذه البداية المفعمة بالكآبة تكشف للقارئ عن الأجواء المأساوية التي ستخيم على الرواية، وتسم حياة شخصياتها بدءا بالبطل يوسف، الشاب المتخرج من كلية الآداب، والحالم بكتابة رواية مفعمة بالأمل يحقق بها ذاته في عالم الكتابة، غير أن هذا الحلم سرعان ما يقبر في مهده حينما مزق الصفحات الأولى لهذه المحاولة: أليس هو القلم الذي بدأت به روايتك ثم مزقتها لأنها كتبت بمداد ليس فيه روح، وبقلب ليس فيه أمل؟(ص8 من الرواية).بهذا المونولوج الداخلي، يكشف السارد/ البطل عن إحساسه بالإحباط مما ولد لديه شعورا عميقا باليأس رغم حداثة سنه، وهنا تبدو المفارقة جلية بين وضعية البطل النفسية التي يغلفها اليأس، وبين مرحلته العمرية، مرحلة الشباب التي يفترض أن يلازمها الأمل والحلم بالنجاح. إن فشل البطل في تحقيق حلمه الأبدي مرتبط بالأساس بفشله في تحقيق جملة من الأحلام البسيطة المشروعة، أولها العثور على عمل يتناسب ومؤهلاته المعرفية والثقافية، وهو ما يطرح إشكالا عويصا له تبعاته الاجتماعية وعواقبه الوخيمة؛ لنتأمل هذا الحوار الحميم والعفوي بين البطل وصديقه أحمد: سألته: كيف يكون الإنسان سعيدا يا أحمد.. وهل أنت سعيد؟ قال: أنت تدرك الجواب جيدا.. تدرك أننا منذ تخرجنا في الجامعة ونحن على حالنا.. نضحك مرة في الشهر.. ومع ذلك فإننا نضحك على حالنا فقط. ثم أردف: ترى ما فائدة التعليم إن كان المرء سيقضي طوال حياته يتعلم ليخرج إلى الدنيا كالطفل لا يعرف من أين يبدأ ؟ (ص32 من الرواية). يكشف هذا الحوار بين الصديقين عن مأساة جيل بأكمله، جيل تخرج من الجامعة ليجد نفسه بدون عمل، بل بدون اكتساب أي مهارة تؤهله لعمل يحقق به وجوده في المجتمع مما يجعله يعيش حالة تيه لا يعرف المبتدأ والمنتهى. إن هذه الوضعية تجعل الشاب المغربي يعيش حالة إحباط وانكسار لا يعرف معهما معنى السعادة، وهو ما يطرح إشكالية التعليم بالمغرب؛ إذ ما فائدته إن كان لا يستطيع تخريج شاب قادر على مجابهة أعباء الحياة وتبعاتها؟ فقصارى ما تحققه المنظومة تخريج أفواج من التائهين الذين لا يعرفون من أين يبدأون. يلازم الفشل البطل، وهذه المرة في الحب، فبعدما أحب نهى وهي فتاة تعيش أيضا حالة انكسار بسبب وضعيتها الاجتماعية حبا رومانسيا لم يعد معه قادرا على العيش بعيدا عنها، قرر قطع هذه العلاقة عندما اقتنع أن الحب وحده لا يكفي في واقع متأزم محبط: نهى، آسف على كل شيء.. أنا أتكلم فقط.. لا أملك غير الكلمات.. هي أيضا تخونني مرارا.. صدقيني أحبك؟. ولكن هل يكفي الحب وحده أن ينقذنا من جديد. (ص 192 من الرواية). إن تيمة الانكسار تتجاوز البطل لتمتد إلى كل شخصيات الرواية؛ فهذا أحمد صديق يوسف ينكسر أمام الواقع ليجد نفسه مندفعا إلى طريق وجد فيه خلاصه: ألم يقل إن الحياة في مكان آخر هي الحل. أي مكان كان يقصده؟ ما الذي أضمره عنك وهو الذي كان إذا قتل بعوضة ضايقته ليلا وهو نائم يحكي عن ظروف قتلها في الصباح؟(ص178 من الرواية). لقد دفعت قساوة الواقع فئة عريضة من أمثال أحمد إلى الانعزال عن الواقع وإدانته والاستعاضة عنه بواقع آخر غيبي لاسبيل للوصول إليه إلا بالموت. وهذه ليلى، صديقة يوسف الطالبة بشعبة الأدب الإنجليزي، التي تحب الضحك والسهر وقضاء الليل بين أحضان الجسد، ستجد الأمان الذي تبحث عنه بارتداء الحجاب، والزواج من أحد المهاجرين لتقيم معه في أرض الغربة رغم استمرارية حبها ليوسف؛ بل إن زواجها ما هو إلا هروب من حبها ليوسف ومن وضعيتها الاجتماعية : أما أنا فهربت منك لأني شعرت أني أحبك... لا أرض لي ولا عائلة ولا أصدقاء، من الأفضل أن أعيش في مكان آخر... (ص 131 من الرواية). إن وضعية ليلى كوضعية أحمد، إذ ارتداؤها للحجاب ، وقبولها بالزواج من مهاجر، ورحيلها ليس سوى هروب من واقع لم تتحقق فيه آمالها في الحب وفي الشعور بالأمان. تمتد تيمة الانكسار إلى جيل الآباء، فالحاجة أم يوسف تحس بالحزن الشديد بعدما فشلت في تربية ولديها خالد وسمير اللذين لم يتمكنا من إتمام دراستهما، حيث طرد الأول من المدرسة وهو في الثالثة إعدادي، والثاني طرد منها بعدما رسب في البكالوريا ثلاث مرات. إن هذا الإحساس جعلها تنفصل عن الواقع لتهرب منه إلى واقع بديل لا سبيل لبلوغه إلا بالموت: راحة القلب هناك... وأشارت بيدها إلى فوق. وعادت إلى صمتها المطبق كأنها دخلت في غيبوبة دائمة ( ص161 من الرواية). إن ما يسم العوالم التخييلية لشخصيات الرواية إخفاقها في تحقيق أحلامها، سواء تعلق الأمر بجيل الآباء ، أم بجيل الأبناء، وهو ما تؤكده الرواية فنيا حيث تبتدئ بالقتامة وتنتهي بالموت، موت الحاجة أم يوسف، وهو ما يؤشر سيميولوجيا على هذا البعد المأساوي . في إطار هذا التشكل الدرامي المتسم بالتراجيدية تسعى الرواية إلى توصيف للمجتمع المغربي من زاوية نظر لا ترى أملا في الانعتاق من طوق الواقع الذي لايترك مجالا لتحقيق الأحلام، وهو ما عبر عنه الميلودي شغموم معلقا على الرواية : إن رواية " الطائر الحر" تروم تصوير مأساة جيلين؛ جيل الشباب وجيل الآباء، ...إن هشام مشبال يمتلك نفسا روائيا طويلا ومتميزا فقد استخدم جميع تقنيات الكتابة الروائية التي أسهمت في التقاط الفاجعة أو المأساة... إن السؤال الذي نطرحه ونحن بصدد الكشف عن رهانات الرواية هو: لماذا التركيز على الفاجعة أو المأساة؟ هل وصل الأمر بالرواية المغربية إلى عجزها عن منح المواطن المغربي فرصة للفعل وتحقيق الحد الأدنى من الأحلام المشروعة؟ ألا تسقط في شرك نشر ثقافة التيئيس تبرير النزعة الهروبية؟ صحيح أن الواقع المغربي واقع متحول في ظل سيادة قيم سلبية تضيع معه الحقوق في عالم تسوده ثقافة مبادئ الحداثة والديمقراطية وحقوق الإنسان، وهو ما تعريه الرواية وتدينه في نفس الآن، غير أن السقوط في هذه النزعة الواقعية التي لا ترى في الواقع إلا جانبه المأساوي بالتركيز على وتيرة الحزن والإحباط ، هل من شأنه أن يسمو بالكتابة الروائية المغربية إلى مصاف الرواية العالمية؟ (هل هذه الردة إلى الواقعية المأزومة تعد رد فعل على الإحساس بالعجز عن مواكبة ركب الرواية في أوربا وأمريكا ودول آسيا؟ وهل هي نكوص آخر للروائي المغربي والمغاربي والعربي أمام طغيان الواقع عليه وعدم قدرته على فهمه وتفسير مجرياته وتحليلها؟)(2) على حد تعبير الدكتور محمد المسعودي. هوامش: 1 رواية الطائر الحر: هشام مشبال الطبعة الأولى 2009 منشورات بلاغات المغرب مطبعة الأمنية الرباط 2 مداخلة الدكتور محمد المسعودي في أشغال الملتقى الخامس للرواية المغاربية يومي 22و23 يناير 2010 في مرتيل بعنوان: لماذا كل هذا الحزن؟ » في العوالم التخييلية قراءة في رواية « الطائر الحر ».