عرفت الجزائر منذ القدم حركة تطورية في ميادين مختلفة، ابتداء من الحضارة الآمازيغية إلى الحضارة الإسلامية، و نلمس ذلك جليا في مظاهر حياتية و فكرية متنوعة، و مما لا شك فيه أنّ نقوش الخط الأمازيغي و آثار العمران القديمة دليل كاف على ذلك، و ما يجلب نظر الباحثين فعلا إلى هذه الحضارة هو التنوع الثقافي و المعرفي في هذه البلاد، و الذي يرجع في الأساس إلى تمازج الحضارتين الأمازيغية و العربية في منطقة جغرافية واحدة، لتخرج إلى الوجود حضارة جزائرية متميّزة بطابعها الخاص، فكيف تم هذا التمازج؟ و الأهم من ذلك، كيف شقّت اللغة العربية لنفسها طريقا في بلاد المغرب الأوسط؟ و ما هي المحفزات و العقبات التي واجهت الحركة التطورية للغة القرآن الكريم أثناء توالي الاستعمارات و الفتوحات على هذه المنطقة؟ الجزائر - بالتسمية الحالية - هي بلاد المغرب الأوسط – قديما - و قد صنفها القدماء ضمن الإقليم الثالث من الأقاليم السبعة للمعمورة، و هي تأخذ حيزا هاما من جغرافية المغرب الذي كان في السابق بلدا واحدا، لكنها استقلت عنه بعد أن مرت بمراحل تاريخية عديدة، و لم يطلق عليها اسم الجزائر إلا بعد دخول الأتراك إليها، حيث اختاروا لها اسم المدينة التي اتخذوها قاعدة لهم، و هي مدينة الجزائر التي أصبحت و لازالت عاصمة لهذا البلد. تعتبر الجزائر من البلدان العريقة عراقة الإنسان، حيث يمتد عهدها من العصر الحجري الأخير، الذي يمتد من 6000 سنة إلى 2500 سنة قبل الميلاد، والدليل على ذلك هي الحجارة المنحوتة التي وُجدت في عين حنش قرب العلمة بعمالة سطيف، و هي تعود إلى ذلك العصر. أما السكان الأصليون للجزائر فهم الأمازيغ أو ما يُعرف عند البعض بالبربر، و هم أجناس بشرية مختلفة الشكل جمعت بينها خصائص جغرافية و عقائدية و لغوية مشتركة، و هناك اعتقاد أنّ اللهجة البربرية التي كان يتكلم بها سكان الجزائر تنحدر من اللغات الحامية، و كانت حروفها عبارة عن رسومات لشكل الشمس و الهلال و البرق، و كان الخط البربري يتكون من عشرة حروف هي "تيفيناغ" أي الحروف المنزلة من عند الإله، و الأشكال هي خمسة و تسمى "تيسدباكين". أما نعت السكان الأصليين للجزائر بالبربر فكان من طرف اليونانيين و الرومان و العرب الفاتحين، و البربر صفة و ليست تسمية أصلية لهذا العرق الذي يعرف بالأمازيغ نسبة إلى جدهم الأول مازيغ، و لا تطلق تسمية البربر على أمازيغ الجزائر و المغرب العربي و حسب، بل هي لفظة لطالما أطلقها المستعمرون في مختلف أقطار المعمورة على الشعوب المستَعمرة، لكونها ذات طبيعة و لغة غير معروفة من قبل الآخر، لذلك لطالما رُفضت هذه التسمية لِما فيها من تعصب و إساءة لبعض الفئات البشرية. و إذا تمحصنا المفردة جيدا وجدناها مناسبة للطرفين، فكلاهما غريب الطباع و اللغة بالنسبة للآخر. شهدت الجزائر سلسلة طويلة من الاستعمارات و الفتوحات، فدخلتها حضارات كثيرة بكل مكوناتها من لغات و ديانات و عادات، و في ذلك يقول المستشرق غوته: "...فإنّنا نلاحظ تسلسلا غير منقطع من التسلّطات الأجنبية: فالفرنسيون قد جاؤوا بعد الأتراك الذين جاؤوا بعد العرب الذين جاؤوا بعد البيزنتيين الذين جاؤوا بعد الوندال الذين جاؤوا بعد الرومان الذين جاؤوا بعد القرطاجيين، و يلاحظ أنّ الفاتح مهما كان يبقى سيد المغرب إلى أن يطرد من طرف الفاتح الجديد الذي يخلفه." و ما يهمنا نحن من هذا القول هو التعاقب الاستعماري فقط، بعيدا عن آراء المستشرقين التي قد تأخذ منحى لا يناسب أصحاب الشأن من الشرقيين، و ما يهمنا من كل هذه الاستعمارات و الفتوحات هو الفتح الإسلامي الذي دخل الجزائر حاملا بين يديه دينا جديدا و لغة جديدة. بعد أن لقي الإسلام مكانا في قلوب سكان الجزيرة العربية، عزم المسلمون على إكمال الرسالة و نشر الإسلام عبر كل الأمصار، و انتشرت الفتوحات إلى أن وصلت إلى المغرب. فبعد محاولات عديدة تمَّ فتح إفريقية، و وُلي عقبة بن نافع الفهري عليها سنة 50ه/669م من طرف الخليفة معاوية بن أبي سفيان. لكن ولايته واجهت مشاكل جعلت مسلمة بن مخلد يتولى مكانه، و كان أول من حكم مصر و إفريقية معا. و هو من أرسل أبا المهاجر دينار الذي فتح الجزائر طلبا للتوسع. حيث التقى بالملك الأمازيغي كسيلة الذي صادقه بعد أن حاربه و هزمه. و كان كسيلة مقرّرا لمصير الأمازيغ و صاحب الكلمة المسموعة. ثم عادت الولاية بعد ذلك إلى عقبة بن نافع الذي اختلف مع كسيلة، و استعمل طريق القوة، و كانت النتيجة أنه قُتِل من طرف كسيلة هذا بمساندة من الكاهنة و الأمازيغ. استمرت عملية الكر و الفر بين العرب و الأمازيغ، إلى أن قتلت الكاهنة، حيث دخل حسان بن النعمان الجزائر، و صلّح ما ارتكبه سابقيه من أخطاء. فاستمال الابن الأكبر للكاهنة و أعطاه ولاية الأوراس، و هناك وقع الاتفاق بين العرب و البربر (الأمازيغ) أخيرا. و من بين العوامل التي ساعدت على هذا الاتفاق هو اقتناع ابني الكاهنة بالغاية الشريفة من فتح الجزائر، حيث تأكدوا من كونها غاية دينية لا دنيوية، خاصة أنّ العرب تمسكوا بهذه الأرض حتى بعد حرق الكاهنة للمزارع قبل موتها ظنا منها أنّ المسلمين دخلوا طمعا في الثروات. و بعد الاتفاق بين العرقين، اعتنق ابني الكاهنة الإسلام، و كذلك معظم الأمازيغ، و تحسّنت العلاقات بين الجميع، حتى بعد عزل حسان بن النعمان و تعيين موسى بن نصير مكانه. لما أحسّ الأمازيغ ببساطة هذا الدين الوافد إليهم، حاولوا فهمه و التعرف على مبادئه، فتعلموا العربية لبلوغ غايتهم، "إنّ هذا الإقبال على الإسلام بهذه السرعة قد أدهش كل المؤرّخين الغربيين، الذين لاحظوا أنّ الإسلام و العربية قد قضيا بسهولة على المحاولات التي بذلتها اللاتينية و المسيحية خلال قرون طويلة لربط مصير المغرب العربي بالغرب الأوروبي. و لسنا في حاجة إلى الإلحاح على أنّ وضوح العقيدة الإسلامية و بساطتها بالإضافة إلى العوامل السابقة دفعت البربر إلى الإقبال على الإسلام و اعتناقه." و من أهم العوامل أيضا العدالة و المساواة التي نادى بها الإسلام و التي أعطت حق الخلافة لكل مسلم تتوفر لديه الشروط المطلوبة بغض النظر عن عرقه، كما كان من حق الأمازيغ أن يثوروا على الخليفة إن خالف تعاليم الشّريعة. بعد أن أقبل الأمازيغ على الإسلام بشغف، اتجهوا إلى لغة الإسلام التي كان تعلّمها جزءا من دينهم الجديد. فبعد أن حقق حسان بن النعمان غايته في نشر الأمن و الاستقرار "عمل على نشر الدين الإسلامي بين البربر، فوزّع الفقهاء إلى سائر أنحاء البلاد لتعليم البربر قواعد الدين، و نشر اللغة العربية لغة القرآن، فأقبل البربر على الإسلام في حماس منقطع النظير، و حَسُن إسلامهم." و بذلك وجدت العربية بصحبة الإسلام مكاناً في قلوب الأمازيغ، و في ذلك يقول الشيخ محمد البشير الإبراهيمي: "و عرف البربر على طريقها ما لم يكونوا يعرفون، وسعت إليها حكمة اليونان تستجديها البيان، و تستدعيها على الزمان، فأجْدت و أعدَت. و طار إلى البربر منها قبس لم تكن لتطيّره لغة الرومان، و زاحمت البربرية على ألسنة البربر فغلبت و بزت، و سلطت سحرها على النفوس البربرية فأحالتها عربية، كل ذلك باختيار لا أثر فيه للجبر." إنّ اختيار الأمازيغ للإسلام إذاً يقتضي اختيارهم للغته التي تبقى لصيقة به أبد الدهر، و هي اللغة التي "دخلت هذا الوطن مع الإسلام على ألسنة الفاتحين، ترحل برحيلهم و تقيم بإقامتهم." أما العوامل التي دفعت الأمازيغ إلى الإقبال على تعلم العربية فهي: 1- التصاقها بالإسلام و قد سبق توضيح ذلك. 2- كون العربية لغة دين و دنيا، فالواقع يقول إنّ "العربي الفاتح لهذا الوطن جاء بالإسلام و معه العدل، و جاء بالعربية و معها العلم." 3- اشتغال الأمازيغ بمناصب هامة في مراكز الحكم التي كانت تتعامل باللغة العربية. 4- اختلاط الأنساب، حيث إنّ الأمازيغ "اختلطوا بالعرب و تزوجوا معهم، فاتخذت كثرة من الأسر الإسلامية الجديدة أنسابا عربية ليدخلوا في الأرستقراطية الحاكمة." 5- أصبحت العربية هي لغة التعامل بين الأندلس و المغرب. 6- تشابه العنصر الأمازيغي و العربي في نمط الحياة من بداوة قبلية و رعي و ما إلى ذلك، و في هذا يرى ابن خلدون إنّ البربر أشبه الخلق بالعرب. و كان هذا التشابه عاملا من عوامل الاندماج بين الجنسين، "و كان من الممكن أن يِؤدي هذا الاندماج إلى ذوبان العرب في البربر لولا أنّ اللقاء كان في إطار الإسلام و الحضارة العربية الإسلامية، و بذا كان هذا الاندماج مشجعا على تعريب أكثر البربر في المغرب."
هكذا إذا كانت البداية، إلاّ أنّ معالم التعليم حينها لم تكن واضحة، و لم تُذكر تفاصيلها في كتب التاريخ، لأنّ المنطقة كانت في حالة مخاض، إلى أن دخل عبد الرحمن بن رستم البلاد، و أسّس دولته الرستمية سنة 141 ه/758م، حيث اهتمّ الرّستميون بنقل الثقافة المشرقية إلى شمال إفريقية، فأحضروا الكتب، و اعتنوا بعلوم الدين و الأدب، و كان أئمتهم بارعين في العلوم و الآداب و السياسة. و كانت اللغة العربية هي لسان الدولة الرستمية. في هذا العصر شهدت الجزائر – أو ما كان يسمى بدولة تيهرت حينها - ازدهارا ثقافيا و اقتصاديا هائلا، كما تطور المجال الفكري بشكل ملفت للنظر، ففي القرن الثاني و الثالث للهجرة، ظهر نوابغ من أهل البلاد الجزائرية، جمعوا بين مختلف المجالات الثقافية و العلمية. و ممن عرف في ذلك العصر أذكر: • الشيخ أبو السهل: البارع في اللغتين العربية و البربرية و أكبر المؤلفين بالبربرية. • يهود بن قريش التاهرتي: الذي كان متضلعا في عدة لغات، كالعربية و البربرية و العبرانية و الأرمنية و الفارسية، و قد اتهم بالبحث المقارن في اللغات، و سعى إلى إنشاء أسس النحو التنظيري (المقارن). • بكر بن حماد التاهرتي (200ه/296ه): أديب و شاعر، ما زالت آثاره تعيش إلى يومنا هذا. ثم تواصلت الولايات على الجزائر، الواحدة تلوى الأخرى، إلاّ أنّ ذلك لم يؤثر على المجال الفكري فيها، بل زاده تطورا، خاصة في عصر الحماديين، حيث اشتهر علماء و أدباء كانوا في قمة البراعة، إذ جمعوا بين فنون و علوم كثيرة، أذكر من هؤلاء: • يحي بن معطي الزواوي (564ه/628ه): صاحب الدُّرة الألفية في علم العربية. • ابن الرمامة (567ه): هو أبو عبد الله محمد بن علي، و قد روى عن أبي الفضل النحوي التازي، و تعلم على يد مشايخ ذلك العصر، كما التقى ابن رشد بالأندلس، و تولى القضاء و التدريس. • الحسن بن علي التيهرتي (501ه): كان لغويا نحويا، تعلم على يده العديد من العلماء. ثم زاد المجال الفكري نضجا في عهد المرابطين و الموحدين، حيث راجت في الجزائر ثقافتان خارجيتان أثّرتا على المثقفين بالإيجاب لا بالسلب، و هما الثقافة الأندلسية و الثقافة المشرقية. و في هذا العهد زاد الاهتمام باللغة العربية، و تمّ "استعراب قسم كبير من البربر بفضل تشجيع الحماديين للحركة العقلية و الثقافية مدّة عهدهم." حينها ظهر عدد هائل من العلماء و الأدباء و الشعراء و اللغويين، و من أعلام اللغة في هذا العصر أذكر: • عبد الله الحضرمي اللغوي الأديب، و كان راويا و مدرّسا. • أبو عبد الله التميمي و كان عالما في اللغة، اهتم بشرح مقامات الحريري، فكتب عن مقدمتها خمسة عشر كراسا. • عبد الرحمن القرشي الصقلي: فقيه لغوي و نحوي. بعد ذلك، دخل الحفصيون الجزائر، و من بعدهم الزيّانيون و المرينيون، و كان كل هؤلاء شغوفين بالعلم و الفنون، فقرّبوا إليهم المفكرين و اعتنوا بهم. و بدخول القرن التاسع الهجري، ظهر علماء في كل مجالات الفكر، و ظهرت علوم جديدة في الدين و الدنيا. و من لغويي هذا العصر، أذكر: • أبو جميل زيان إبراهيم بن فائد الزواوي (857ه): له أرجوزة في النحو، و شرح لألفية ابن مالك و تلخيص المفتاح، و كان أشهر لغوي اهتم بالنحو بعد يحي بن معطي الزواوي. • مجموعة من العلماء العقليين المهتمين بالنحو أمثال: ابن قنفذ و المشدالي و المغيلي و أحمد بن أحمد البجائي. في القرن العاشر للهجرة، دخل الأتراك إلى الجزائر قصد حمايتها من أطماع الإسبان، لكنّ اللغة التركية لم تؤثر على اللغة الرّسمية الجزائرية، بل ضاعف علماء اللغة – في هذه الفترة و بعدها - من جهودهم العلمية، إلاّ أنّهم اهتموا بالتدريس أكثر من الدّراسة و التأليف. و كان معظم العلماء يهتمون بالمجالين، "و من الذين جمعوا بين الاثنين في الجزائر؛ أبو راس و أحمد المقري و الفكون. غير أنّ هؤلاء لم يكونوا في توازن في الجمع بين الخطّتين. فالأول مثلا قد غلب عليه التدريس بالرغم من كثرة تأليفه و الثاني قد غلب عليه التأليف بالرغم من كثرة تدريسه، و هناك مدرسون لم يتركوا إلا قليلا من التآليف، كمحمد التواتي و عمر الوزان و سعيد المقري. و هناك من ترك بعض الشروح و الحواشي و التعاليق كسعيد قدورة." امتاز علماء هذا العصر باتساع فكرهم و إلمامهم بعلوم مختلفة، و ممن برز في مجال اللغة أذكر: • عمر بن محمد الكمّاد الأنصاري القسنطيني (الوزان): اهتم بالتدريس و رفض منصب القضاء لأجله. • يحي بن سليمان الأوراسي: ترك أورقا و تقاييد في النحو و البيان و الفقه. • عبد الكريم الفوكون (1073ه): له شرح على أرجوزة المكودي في التصريف "البسط و التعريف"، و "شرح على شواهد الشريف على الأجرومية"، و "شرح جمل المجردي و مخارج الحروف من الشاطبية." • عيسى الثعالبي (1080ه): اهتم بعدّة علوم من بينها النحو و الصرف و البلاغة. • يحي الشاوي (1096ه): ترك مؤلفات في شتى العلوم، أذكر منها؛ "أصول النحو" و "الدر النضيد في إعراب كلمة التوحيد" و "حاشية على شرح المرادي للخلاصة في النحو" و "حاشية على شرح الشريف بالأجرومية" و "حاشية على شرح عصام الكافية لابن الحاجب" و "المحاكمة بين أبي حيان المفسر و الزمخشري و ابن عطية في التفسير". • أحمد بن قاسم البوني (1139ه): "له تآليف تنيف عن المائة، ما بين مختصر و مطوّل، نظما و نثرا، و ذَكر جزءا قليلا منها. و أكثرها في نظم متون العلم." و من ضمن تلك التآليف، نجد له تآليفا في فنون اللغة و الأدب، أذكر منها: "أنس النفوس بفوائد القاموس" و " نظم الأجرومية" و "إعانة المعاني بما للّفظ العجز من المعاني". • محمد أبو راس المعسكري (1238ه): له تآليف في علوم كثيرة،من بينها الكتب اللغوية التالية: "رفع الأثمان في لغة الولائم الثمان" و "الضابط المختصر من الأزهري على قواعد القاموس و الجوهري" و "ضياء القابوس على كتاب القاموس". أمّا عن أماكن التعليم و الدّراسة، فكانت تتمثل في الزّوايا و الكتاتيب و المدارس، بالإضافة إلى المساجد، حيث كثرت "المدارس الابتدائية حتى كان لا يخلو منها حي من الأحياء في المدن، و لا قرية من القرى في الريف، بل إنّها كانت منتشرة حتى بين أهالي البادية و الجبال النائية." ليس ذلك و حسب، بل وجدت بعض المدارس الثانوية و العالية في بعض المدن الجزائرية المهمة. و لم يكن ذلك في العهد العثماني فقط، و إنّما قبله أيضا. ففي تلمسان وُجدت خمس مدارس ثانوية و عالية، و في قسنطينة وُجدت مدرستان ثانويّتان في عهد صالح باي، و وصلت إلى سبع مدارس عند دخول فرنسا. أمّا في الجزائر العاصمة فقد اختلف المؤرّخون في إحصائها، نظرا لإلحاقهم الزوايا و المساجد بالثانويات لتشابه مهامهم، كما عرفت الجزائر كمّا هائلا من الكتاتيب، التي انتشرت عبر أنحاء القُطر، و كانوا يسمونها "المسيد" تصغيرا لكلمة "مسجد" في نواحي العاصمة. و كانت مهمّتها تتمثّل في تعليم القراءة و الكتابة و تحفيظ القرآن. أمّا في البادية فكانت "الزوايا" هي التي تتولّى مهمّة التعليم, ففي ناحية تلمسان وحدها وُجدت ثلاثون زاوية. هكذا، كانت مسيرة اللغة العربية - بين الدراسة و التأليف - في نجاح مستمر، إلى أن جاء وقت الجد، حين وجد العلماء و المدرّسون أنفسهم أمام المواجهة كبرى مع العدو الجديد، إنهم الفرنسيون الذين حاولوا منذ البداية مسح ملامح الشخصية الجزائرية، فجعلوا التعليم باللغة الفرنسية، و حتى هذا لم يكن من حقّ الجميع، حيث " قضوا على التعليم العربي و نفوا المعلمين، و استولوا على أملاك الأوقاف التي كان التعليم بفضلها يقف سدّا منيعا في وجه الأميّة بالجزائر. ففي سنة 1865 كان التعليم العربي في المدارس القومية ما يزال موجودا، و كان عدد التلاميذ الجزائريين فيها نحو 13 ألف تلميذ. و لكن لم تأت سنة 1880 حتى كان عددهم قد تناقص إلى ثلاثة آلاف تلميذ." لم يستسلم علماء الجزائر أمام طغيان الاحتلال الفرنسي، بل واصلوا جهادهم الفكري، و اكتفوا بالكتاتيب و الزوايا لتعليم الجزائريين أصول دينهم و دنياهم، و كذا لغتهم العربية. و رَفع المشعل آنذاك نخبة لا بأس بها من العلماء، أذكر من بينهم أسماء لامعة في مجال الدراسات اللغوية: • إبراهيم بن عامر السوفي (1934م): فقيه و مؤرخ و لغوي. • ابن أبي شنب محمد بن العربي بن محمد (1869م/1929م): كان ملمّا بعدّة لغات، و عضوا في المجمع العلمي العربي بدمشق، له كتب في اللهجات و اللغات و المعاجم. • ابن خوجة محمد بن مصطفى (1922م): كاتب و شاعر و عالم في الشريعة الإسلامية و اللغة العربية. • ابن موهوب مولود بن محمد السعيد بن الشيخ المدني بن العربي بن مسعود الموهوب (1863م/1930م): له "مختصر الكافي في العروض و القوافي" و "نظم مقدمة ابن أجروم". • اطفيش امحمد بن يوسف بن عيسى بن صالح (1820م/1914م): فقيه و أديب و لغوي و مفسِّر، له أرجوزة في النحو، و "الرسم" في قواعد الخط العربي. • المجاوي عبد القادر بن محمد بن عبد الكريم بن عبد الرحمن (1848م/1913م): فاضل نحوي، له "الدرر النحوية". و لا أنسى أن أذكر إلى جانب هؤلاء؛ رواد الأدب الجزائري الذين ساهموا حينها في حفظ ملامح العروبة، حيث فضّلوا التدوين بلغة القرآن، و كرّسوا أقلامهم للدفاع عن الهوية الجزائرية، و حاربوا الاستعمار بالشعر الحماسي و الوطني، بالإضافة إلى الصحافة و فنون النثر و المسرح، و من هؤلاء: مفدي زكريا و العربي التبسي و محمد العيد آل خليفة و محمد البشير الإبراهيمي و المسرحي محي الدين باشتارزي، و عبد الحميد بن باديس و رائد القصة القصيرة الجزائرية الشهيد أحمد رضا حوحو...و الكثير ممن شارك في مسيرة إثبات الهوية العربية في الجزائر، و التي ترتبط كل الارتباط بمسيرة اللغة العربية، هذه المسيرة التي شاء لها القدر أن تصل إلى القمة قبل أن يلقاها حاجز الاستعمار الفرنسي الذي أعاقها و أبطأ خطاها، قبل أن تُعيد انطلاقتها من جديد بعد الاستقلال، و بهذا أكون قد توصّلت إلى وصف الخطوط العريضة للحركة التطورية التي عرفتها اللغة العربية في الجزائر من بداية الفتح الإسلامي إلى عهد الاحتلال الفرنسي.